الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيخ الإسلام بتونس
يقاوم السنة، ويؤيد البدعة، ويغري السلطة بالمسلمين!!
ــ
-1 -
نطق (شيخ الإسلام) - والحمد لله- بعد سكوت مألوف منذ السنين الطوال، وإن كان أتى بما لا يرضي الله ورسوله، والحق ودليله، فقد نطق على كل حال. ولقد كان نطقه متوقعا لدينا. فقد كان المقال المنشور بالعدد الحادي عشر من (البصائر) الموجه إلى علماء الزيتونة عامة وشيخي الإسلام به خاصة، قنبلة وقعت وسط أولئك النائمين والمتناومين أزعجتهم في مراقدم ونبهت من كان غافلا عنهم من الناس، حتى لقد تسابق الناس إلى ذلك العدد يطلبونه بأضعاف ثمنه كما أخبرني تلامذتي الذين رجعوا من تونس لتعطيل القراءة بجامع الزيتونة بسبب البلاغ المشهور وما لحق تلامذة الجامع من سجن وتغريب.
إننا نشكر لشيخ الإسلام المالكي هبوطه إلى الميدان، وإن كان هبط إليه هبوط المغيظ المحنق الذي أنساه الغيظ والحنق ما يناسب مقامه من التحري والاتزان، فتعثر في أذيال العجب والتعظم عثرات أهوت به مرات في مهاوي الخطأ والتناقض حتى تردى في هودة إذاية أنصار السنة باللسان، ومحأولة إذايتهم بيد العدوان.
شيخ الإسلام يقاوم السنة- ويؤيد البدعة-! ويغري (السلطة) بالمسلمين!! هذا- والله- عظيم وإن كان القارىء يود أن يعرف من هو هذا الذي تحلى بهذا اللقب وأتى بهذه الشنع التي لا يأتي
بها من ينتمي انتماء صادقا للإسلام من عامة المسلمين فكيف بشيخ الإسلام؟ نعم كل أحد يتعجب نهاية العجب أن يصدر هذا من شيخ الإسلام. ويزيد كاتب هذه السطور عجبا آخر فوق عجب كل أحد أن شيخه وأستاذه وصديقه الشيخ الطاهر بن عاشور هو الذي يأتي بهذا الباطل ويرتي هذا الذنب.
إنني امرؤ جبلت على حب شيوخي وأساتذتي وعلى احترامهم إلى حد بعيد، وخصوصا بعضهم، وأستاذي هذا من ذلك الخصوص، ولكن ماذا أصنع إذا ابتليت بهم في ميدان الدفاح عن الحق ونصرته؟ لا يسعني وأنا مسلم أدين بقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، إلا مقاومتهم ورد عاديتهم عن الحق وأهله.
دعونى- يا قرائي الأفاضل- أحدثكم عن شيء من حقيقة هذا الرجل كما عرفته وعن علاقتي به وأثره في حياتي فإن هذا وفاء لحق تلك الصحبة والأستاذية يهوِّن عليَّ ما أجابهه به بعد.
عرفت هذا الأستاذ في جامع الزيتونة، وهو ثاني الرجلين اللذين يشار إليهما بالرسوخ في العلم والتحقيق في النظر والسمو والاتساع في التفكير أولهما العلامة الأستاذ شيخنا (محمد النخلي) القيرواني رحمه الله، وثانيهنا العلامة الأستاذ شيخنا (الطاهر بن عاشور) وكانا كما يشار إليهما بالصفات التي ذكرنا يشار إليهما بالضلال والبدعة
وما هو أكثر من ذلك لأنهما كانا يحبذان آراء الأستاذ (محمد عبده) في الإصلاح ويناضلان عنها ويبثانها فيمن يقرأ عليهما وكان هذا مما استطاع به الوسط الزيتوني أن يصرفني عنهما، وما تخلصت من تلك البيئة الجامدة واتصلت بهما حتى حصلت على شهادة العالمية ووجدت لنفسي حرية الاختيار. فاتصلت بهما عامين كاملين كان لهما في حياتي العلمية أعظم الأثر على أن الأستاذ ابن عاشور اتصلت به قبل نيل الشهادة بسنة فكان ذلك تمهيدا لاتصالي الوثيق بالأستاذ النخلي. وإن أنس فلا أنسى دورسًا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب وبثت في روحًا جديداً في فهم المنظوم والمنثور وأحيت مني الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما أعتز بالإسلام.
مات الأستاذ النخلي على ما عاش عليه، وبقي الأستاذ ابن عاشور حتى دخل سلك القضاء فخبت تلك الشعلة وتبدلت تلك الروح فحدثني من حضر دروسه في التفسير أنه- وهو من أعرف إنكاره على الطرق اللفظية وأساليبها- قد أصبح لا يخرج عن المألوف في الجامع من المناقشات اللفظية على طريقة عبد الحكيم في مماحكاته وطرائق أمثاله وبقي حتى تقلد خطة شيخ الإسلام، ووقف هو وزميله الحنفي في مسألة التجنيس المعروفة منذ بضع سنوات، ذلك الموقف حتى أصبح اسمه لا يذكر عند الأمة التونسية إلا بما يذكر به مثله. وها هو اليوم يتقدم بمقال نشره بجرييدة (الزهرة) في عدد يوم الإثنين الرابع عشر من هذا الشهر الحرم يقاوم فيه السنة ويؤيد فيه البدعة ويغري السلطة بالمسلمين.
فهل ابن عاشور هذا اللقب بشيخ الاسلام، هو ابن عاشور أستاذي الذي أعرف؟ لا! ذلك رجل آخر مضى قضى عليه القضاء وأقبرته المشيخة، وقد أديت له حقه بما ذكرته به. وهذا مخلوق آخر ليس
موقفه اليوم أول مواقفه ولا أحسبه يكون آخرها. وإنني لا أود أن يكون آخرها. فإن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى معرفة ما ينطوي عليه مثله ممن ينتحلون ألقابا مخترعة في الإسلام، ولا يفضحهم مثل مقال هذا الرجل.
وموعدنا بالرد عليه لعدد (1) الآتي أن شاء الله، والله المستعان (2).
عبد الحميد بن باديس
-2 -
سئل فضيلته عن حكم قراءة القرآن عند تشييع الجنازة وحول الميت، وحول قبره عند دفنه، فأجاب بقوله:"أن السنة في المحتضر وفي تشييع الجنازة وفي الدفن هو الصمت للتفكر والاعتبار. فإذا نطق الحاضر فليكن نطقه بالدعاء للميت، بالمغفرة والرحمة فإن دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مرجوة الإجابة. وأما قراءة القرآن عن الميت حين موته وحين تشييع جنازته وحين دفنه فلم تكن معمولا بها في زمان رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم وزمان الصحابة، إذ لم ينقل ذلك في الصحيح من كتب السنة والأثر مع توفر الدواعي على نقله لو كان موجودا. إلا الأثر المروي في قراءة سورة يس عند رأس الميت، عند موته على خلاف فيه، ولهذا كان ترك القراءة هو السنة وكان أفضل من القراءة في المواطن الثلاثة المذكورة".
هذه هي السنة وقد بينها أوضح تبيين، وعللها أحسن تعليل،
(1) كذا في الأصل وصوابه: للعدد.
(2)
البصائر: السنة الأولى، العدد 16، الجزائر، الجمعة 2 صفر 1355 هـ 24 أفريل 1936م.
ثم أنظر إليه كيف أخذ يقاومها فقال: "وحينئذ فتكون قراءة القرآن في تلك المواطن إما مكروهة وإما مباحة غير سنة، فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها دون بعض".
إذا كان ترك القراءة هو السنة، فالقراءة قطعا بدعة إذ ما فعله النبي- صلى الله عليه وآله وسلم من القربات ففعله سنة وما تركه مما يحسب قرابة مع وجود سببه فتركه هو السنة وفعله قطعا بدعة. والقراءة في هذه المواطن الثلاثة التي حسب أنها قربة قد وجد سببها في زمنه فمات الناس وشيع جنائزهم وحضر دفنهم، ولم يفعل هذا الذي حسب- اليوم- قربة ومن المستحيل- شرعا- أن يترك قربة مع وجود سببها بين يديه ثم يهتدي إليها من يجيء من بعده ويسبق هو إلى قربة فاتت محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والسلف الصالح من أمته. ولا يكون الإقدام على إحداث شيء للتقرب به مع ترك النبي- صلى الله عليه وآله وسلم له مع وجود سببه إلا افتئاتا عليه وتشريعا من بعده وادعاءً - ضمنيا- للتفوق عليه في معرفة ما يتقرب به والحرص عليه، والهداية إليه، فلن يكون فعل ما تركه- والحالة ما ذكر- من المباحات أبدا بل لا يكون إلا من البدع المنكرات. فبطل قوله:"وإما مباحة غير سنة".
بعد هذه المقاومة بالباطل فرع عليها مقاومة بالتناقض فقال: "فتكون مندوبة في جميعها وإما مندوبة في بعضها".
أفيجهل أحد أن المباح هو ما استوى فعله وتركه وأن المندوب هو ما ترجح فعله على تركه. أو أن المباح من حيث ذاته غير مطلوب الفعل ولا مطلوب الترك، وأن المندوب مطلوب الفعل فكيف يتصور أن القراءة إذا كانت مباحة تكون مندوبة في الجميع أو في البعض، أم كيف يتفرع الضد عن ضده؟؟ ولما ثبت أن ترك القراءة هو السنة وأن القراءة بدعة فأقل ما يقال فيها أنها مكروهة، ولا خلاف بين
المالكية، أن الكراهة هي مذهب مالك وجمهور أصحابه، وقد نقل فضيلته سماع أشهب من العتبية قال:"سئل مالك عن قراءة يس عند رأس الميت، فقال: ما سمعت بهذا وما هو من عمل الناس"، فهذا تصريح منه بأنه رده لأنه محدث ليس عليه عمل السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.
وإذا كان هذا قوله فيما جاء فيه أثر وهو قراءة يس عند رأس الميت فغير هذا الوطن مما لا أثر فيه، أولى وأحرى بالكراهة. والتعليل بأنه ليس عليه عمل الناس يفيد أن مجرد فعل القراءة مكروه لأنه عمل مخالف لعملهم دون التفات إلى أنه اعتقد أن ذلك سنة أو لم يعتقد. إذ ما فعله إلا وهو ويعتقد أنه قربة في تلك المواطن فيكون قصد القربة بما لم يجعله الشارع قربة، وهذا مقتض للكراهة، فقصد القربة وحده كاف في الكراهة دون حاجة إلى اعتقاد أنه سنة وبهذا بطل تأويل من تأول كلام مالك بمن قصد أنه سنة.
وبعد أن ثبت أن قراءة القرآن العظيم في تلك المواطن بدعة، وأنها مكروهة فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم؟ ذهب الإمام الشاطبي إلى أن الكراهة حيثما عبر بها في البدعة فهي كراهة تحريم على تفاوت مراتبها في ذلك وساق على ذلك جملة من الأدلة الكافية في الباب السادس من كتابه الاعتصام، فأجمل فضيلته في الإشارة إلى مذهب الشاطبي إجمالا أظهره به مظهر من تكلم في خصوص هذه المسألة فتوهم وتقوَّل على الإمام فقال: "وليس المراد بالكراهة الحرمة كما توهمه الشاطبي في كتاب الاعتصام مستندا إلى أن الإمام قد يعبر بالكراهة ويعني بها الحرمة لأن كلام مالك لم يقع فيه لفظ الكراهة بل هي من تعبير فقهاء مذهبه تفسيرا لمراده. لأن علماء مذهبه متفقون على أنَّ مراد مالك من كلامه في المدونة وفي السماع هو الكراهة بالمعنى المصطلح عليه في الفقه، ولأن دليل التحريم لا وجود له فحمل
كلام مالك عليه تقول عليه والإقدام على التحريم ليس بالهين إذ لم تقم عليه الأدلة الصريحة".
لم ينصف فضيلته الشاطبي في الصورة التي صور بها كلامه وفيما رواه به. وكل ذلك لأجل أن يتوصل إلى تهوين ارتكاب بدعة القراءة في المواطن الثلاثة لأنها من المكروه الذي لا يعاقب على فعله ونحن نذكر فيما يلي ما هو تلخيص لبعض ما استدل به الشاطبي وزيادة عليه:
إن من ابتدع مثل هذه البدعة التي هي تقرب فيما لم يكن قربة كأنه يرى أن طاعة لله بقيت تنقص هذه الشريعة فهو يستدركها وأن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم خفيت عليه قربة هو اهتدى إليها أو لم تخف عليه ولكنه كتمها. وهذه كلها مهلكات لصاحبيها فلا يكون ما أوقعه فيها من ابتداع تلك التي يحسبها قربة إلا محرما. وقد قال مالك فيما سمعه من ابن الماجشون: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا- صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا"، هذا من جهة النظر المؤيد بكلام مالك. وأما من جهة الأثر فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر ابن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في خطبته:«أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» وفيه عن أبي هرير قال قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم:«مندعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . ووجه الدليل من الحديثين أنه سمى في الحديث الأول البدعة شراً وضلالا فعم ولم يخص، وأثبت الإثم لمرتكب الضلالة والدَّاعي إليها والإثم لا يكون
إلا في الحرام فيكون النظر هكذا: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة يؤثم صاحبها، فكل بدعة يؤثم صاحبها، وكل ما يؤثم عليه فهو حرام: فكل بدعة حرام.
وقد دخلت بدعة اختراع القرب في قوله: "وكل بدعة ضلالة" بمقتضى عموم اللفظ. ويدل على دخولها ما ثبت في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم رد على من قال أما أنا فأقوم الليل، ولا أنام، وعلى من قال أما أنا فلا أنكح النساء، وعلى من قال أما أنا فأصوم ولا أفطر، رد عليهم بقوله:«من رغب عن سنتي فليس مني» ولم يكن ما التزموه إلا فعل مندوب في أصله أو ترك مندوب ومع ذلك رد عليهم بتلك العبارة التي هي أشد شيء في الإنكار فكل من أراد أن يتقرب بما لم يكن قربة فهو مردود عليه بمثل هذه العبارة الشديدة في الإنكار. ويدل أيضا على دخولها ما ثبت في الصحيح عن قيس بن حازم قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال: ما لها، فقال: حجت مصمتة، قال لها:«تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية» فهذه أرادت أن تتقرب بما ليس قربة فجعل عملها من عمل الجاهلية وقال: أنه لا يحل فكل مريد للتقرب بما لم يكن قربة فيقال في فعله ما قيل في فعلها. ووجه الدليل من الحديثين أن التقرب بما ليس قربة أنكر أشد الإنكار وقيل فيه لا يحل، وقيل فيه من عمل الجاهلية فلا يكون بعد هذا كله إلا ضلالا فيدخل- قطعا- في عموم قوله:«وكل بدعة ضلالة» فيثبت له التحريم بالنظر المتقدم.
(لها بقية)(عبد الحميد بن باديس)
البصائر السنة 1، العدد 17، الصفحة 1، العمود 2 و3 من صفحة 2، الجزائر في يوم الجمعة 9 صفر 1355 هجرية، الموافق ليوم 1 ماي 1936م.
-3 -
ودخول بدعة التقرب بما ليس قربة مثل القراءة في المواطن الثلاثة، قد فهمه مالك وجاء في كلامه ما هو صريح في ذلك. فروي في- الموطأ- حديث أن النيَّ- صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل من الشمس ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم:«مروه فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صومه» قال مالك: أمره أن يتم ما كان لله طاعة (وهو الصيام) ويترك ما كان لله معصية. وروى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» ، قال مالك: معنى قوله- صلى الله عليه وآله وسلم: «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه» أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر أو إلى الربذة.
فقد جعل مالك القيام للشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الأماكن المذكورة معاصي، وفسر لفظ المعصية في الحديث بها، مع أنها في نفسها أشياء مباحات، لكنه لما أجراها مجرى القربة- وليست قربة- حتى نذر التقرب بها وصارت معاصي لله وليس سبب المعصية أنه نذر التقرب بها حتى أنه لو فعلها متقربا دون نذر لكانت مباحة، بل مجرد التقرب بها وليست هي قربة موجب لكونها معصية عند مالك. والدليل على ذلك ما حكاه ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: سمعت مالكا بن أنس، واتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم. فقال إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال الرجل: وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال
أزيدها، قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فهذا الرجل لا نذر في كلامه وقد أراد الإحرام- وهو في نفسه عبادة- من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره. وأراد أن يزيد أميالا تقرباً لله تعالى بإيقاع الإحرام بذلك الموضع الشريف وزيادة التعب بالأميال. ومع ذلك رده مالك عن ذلك وبيَّن له قبح فعله بما يراه لنفسه من السبق وقرأ عليه الآية مستدلا بها وما كان مثل هذا داخلا في الآية عنده ألا وهو يراه حراما.
فهذا هو مستند الشاطبي في فهم كلام مالك والحكم بأنه يرى في كل بدعة تقرب بما ليس قربة الحرمة لا كراهة التنزيه. فلم يكن متوهما ولا متقولا ولا مقدما على التحريم بدون دليل.
وقد بان مما تقدم أن الحكم على بدعة التقرب بما ليس قربة محكوم عليها بالضلالة والحرمة وأن ذلك هو مذهب إمام دار الهجرة، وبعد ثبوت الحق بالدليل، سقط كل قال وقيل، ونزيد على ذلك الآن ما قاله فقهاؤنا المتأخرون في بدع الجنائز من القراءة ونحوها: "سئل أبو سعيد بن لب كبير فقهاء غرناطة في عصره عما يفعله الناس في جنائزهم حين حملها من جهرهم بالتهليل والتصلية والتبشير والتنذير ونحو ذلك على صوت واحد أمام الجنازة. كيف حكم ذلك في الشرع؟. فأجاب: السنة في اتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار. خرَّج ابن المبارك أن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اتبع جنازة أكثر الصمت وأكثر حديث نفسه. قال فكانوا
يرون أنه يحدث نفسه بأمر الميت وما يرد عليه وما هو مسؤول عنه. وذكر ذلك أن مطرفا كان يلقى الرجل من إخوانه في الجنازة وعسى أن يكون غائبا فما يزيد على التسليم يعرض عنه اشتغالا بما هو فيه فهكذا كان السلف الصالح.
واتباعهم سنة ومخالفتهم بدعة: وذكر الله والصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وآه وسلم- عمل صالح مرغب فيه في الجملة لكن للشرع توقيت وتحديد في وظائف الأعمال، وتخصيص يختلف باختلاف الأحوال والصلاة وإن كانت مناجاة الرب، وفي ذلك قرة عين العبد، تدخل في أوقات تحت ترجمة الكراهة والمنع. والله يحكم ما يريد ". ا. هـ، وقال أبو سعيد في جواب آخر: أن ذكر الله والصلاة على رسوله عليه السلام من أفضل الأعمال وجميعه حسن لكن للشرع وظائف وقَّتها وأذكار عيَّنها في أوقات وقتها، فوضع وظيفة موضع أخرى بدعة، وإقرار الوظائف في محلها سنة، وتبقى وظائف الأعمال في حَمل الجنائز إنما هو الصمت والتفكر والاعتبار. وتبديل هذه الوظائف بغيرها تشريع. ومن البدع في الدين، ا. هـ.
وقال أبو سعيد في جواب آخر: المنقول عن السلف الصالح- رضي الله عنهم في المشي مع الجنائز هو الصمت والتفكر في فتنة القبر وسؤاله وشدائده وأهواله. وكان أحدهم إذا قدم من سفره فيلقاه أحد إخوانه بين يدي الجنائز لم يزد على السلام إقبالا على الصمت، واشتغالا بالتفكر في أحوال القبر، والخير كله في اتباعهم وموافقتهم في فعل ما فعلوه. وترك ما تركوه، ا. هـ.
نقل هذا كله الوانشريسي في المعيار وهذه هي فتوى أبي سعيد بن لب في موضوعنا المنطبقة على كل ما أحدث من الأوضاع بقصد التقرب وليست قربة في هذه المواضع وإن كانت حسنة في أصلها وقد رأيت
إنكاره لها، فترك هذا كله فضيلة. ونقل كلاما آخر لأبي سعيد خارجا عن الموضوع كما سنبينه عندما ننتهي إليه. ونعود الآن إلى بقية ما قاله فقهاؤنا عليهم الرحمة والرضوان.
وسئل الإمام عبد الله العبدوسي ما حكم القراءة بين يدي الجنازة، وكذلك ما يفعله الفقراء (هم الإخوان الطرقيون) أمامها. فأجاب: وكذلك يجب قطع الفقراء من الذكر أمامها على ما جرت به العادة لأنه بدعة ومباهاة. ويقال لولي الجنازة ما تعطيه للفقراء تأثم عليه. أعطه للمساكين صدقة عن وليك الميت فذلك أنفع وأبقى لكما إلى الآخرة. والجنازة على الاعتبار والتذكير والاستبصار والإقبال على أمر الآخرة. وكان السلف الصالح- رضي الله عنهم يبكون ويحزنون حتى لا يدري الغريب بينهم ولي الميت من غيره، ا. هـ. نقلها من المعيار. وأنت تراه كيف أفتى بوجوب تغيير هذه البدعة المنكرة وجعل ما يعطى للقائمين بها جالبا للإثم على من أعطى. ذلك لأنه أعان على المنكر. والمعين على المنكر كفاعله.
وعقد الوانشريسي فصلا قبيل نوازل النكاح ذكر فيه البدع فجزم ببدعية هذه المحدثات عند الجنائز فقال: ومنها الذكر الجهري أمام الجنائز فإن السنة في اتباع الجنازة الصمت والتفكر والاعتبار وهو فعل السلف. واتباعهم سنة، ومخالفتهم بدعة. وقد قال مالك: لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها. ا. هـ، فهذه أقوال الفقهاء أهل الفتوى الجارية على أصل مذهب مالك الجاري على مقتضى تلك الأدلة التي بينا، وعليها بنينا.
(عبد الحميد بن باريس)
البصائر: السنة العدد 18 الجزائر في يوم الجمعة 16 صفر 1355هـ الموافق ليوم 8 ماي 1936م الصفحة 1 والعمود 1 و2 من الصفحة 2.
-4 -
لو أردنا الاقتصار في المسألة على ما أقمناه من الاستدلال عليها.
ثم ما ذكرنا من أنها قول مالك ومشهور مذهبه، وما نقلنا من فتوى أهل الفتوى من المتأخرين- لكفانا ذلك في بيان الحق بدليله والتأيد بالسابقين إليه. ولكن رأينا في ما نقله فضيلته إبهاما وإيهاما وتحريفا، فوجب أن نتتبعه بالبيان.
قال فضيلته: (وذهب اللخمي وابن يونس وابن رشد وابن العربي والقرطبي وابن الحاجب وابن عرفة من أئمة المالكية إلى أن القراءة مستحبة في المواطن الثلاثة، إذا أريد إهداء ثوابها إلى الميت).
هنا مسألتان إحداهما هي انتفاع الميت بإهداء القراءة إليه هكذا على الإطلاق، وهذه ليست محل النزاع. والأخرى هي قراءة الجماعة على الميت عند موته وعند رفعه وعند دفنه على فبره. وهذه هي محل الكلام. وكلامه يوهم بصريحه أن هولاء الأئمة كلهم يستحبون القراءة في المواطن الثلاثة، وقد كان عليه أن يبين مأخذه لا أن يلقي به على هذا الإهمال والإجمال. والذين ذكرهم الموافق في مسألة قراءة يس عند موته هم ابن حبيب وابن رشد وابن يونس واللخمي ولم يقل في المواطن الثلاثة كما قال فضيلته وأما ابن العربي والقرطبي فجاءا في كلام للعبدوسي هكذا:(وأما القراءة على القبر فنصر) ابن رشد في الأجوبة، وابن العربي في أحكام القرآن له، والقرطبي في التذكرة، على أنه ينتفع بالقراءة أعني الميت سواء قرأ على القبر أو قرأ في البيت وبعث الثواب له أو في بلد إلى بلد. وأما شهاب الدين القرافي في القواعد فنص على أنه لا ينتفع بذلك إلا إذا قرأ على القبر مشافهة وهو قول خارج عن المذهب". نقل هذه الفتوى من المعيار ونقلها كنون. وكلام هؤلاء الأئمة إنما هو في أن القراءة يصل ثوابها دون توقف على القراءة
على القبر خلافا لمن شرط ذلك وهو القرافي وليس هو فيما اتخذ سنة للتقرب من القراءة عند دفن الميت على قبره الذي هو موضوعنا. والعبدوسي الذي نقل هذا عنهم هو الذي أفتى- كما قدمنا- بما هو مذهب السلف من السكوت والاعتبار. فلم يفهم من كلام هؤلاء الأئمة- قطعا- خلاف ما أفتى به. وليس عندي مختصر ابن الحاجب ولا مختصر ابن عرفة حتى أعرف ما قالا. وأحسب أنه لو كان لهما قول مقابل لمذهب مالك لذكره شراح مختصر خليل وحواشيهم.
ثم قال فضيلته: (وذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله ووافقهما عياض والقرافي من المالكية وبعض الحنفية إلى استحباب القراءة عند القبر خاصة) وكان عليه - أيضا- أن يذكر مأخذه وأحسبه استند في هذا النقل المجمل المبهم على ما نقله كنون والرهوني والحطاب من كلام القرافي، وقد وقع منهم اختصار في نقله أدى إلى اضطراب فيه، فقال الرهوني نقلا عن القرافي:"مذهب أحمد بن حنبل وأبي حنيفة أن القراءة يحصل ثوابها للميت إذا قرىء عند القبر حصل للميت أجر المستمع" فأوهم أن القراءة عند القبر شرط في مذهبهما ووقع غيره في هذا الوهم فنقل عنهما التفريق بين القراءة عند القبر وعند غيره. ونحن ننقل لك كلام القرافي من الفرق الثاني والسبعين بعد المائة لتتجلى لك حقيقة مذهبهما وموضوع كلامهما.
قال القرافي: "وقسم اختلف فيه هل فيه حجر (أي منع للعامل من نقله لغيره) أم لا. وهو الصيام والحج وقراءة القرآن فلا يحصل شيء من ذلك للميت عند مالك والشافعي رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل يصل ثواب القراءة للميت.
فأنت ترى أن الشافعي موافق لمالك خلافا لما زعمه فضيلته، وأن موضوع الكلام في وصول القراءة للميت لا في اتخاذها قربة في المواطن
الثلاثة. خلافا لما أوهمه الرهوني وتوهمه غيره وخرج به فضيلته عن الموضوع.
ثم قال القرافي في الفرق المذكور: "ومن الفقهاء من يقول إذا قرىء عند القبر حصل للميت أجر المستمع، وهو لا يصح أيضا لانعقاد الاجماع على أن الثواب، يتبع الأمر والنهي فما لا أمر فيه ولا نهي لا ثواب فيه بدليل المباحات وأرباب الفترات. والموتى انقطع عنهم الأوامر والنواهي. وإذا لم يكونوا مأمورين لا يكون لهم ثواب وإن كانوا مستمعين. ألا ترى أن البهائم تسمع أصواتنا بالقراءة ولا ثواب لها لعدم الأمر لها بالاستماع فكذلك الموتى. والذي يتجه أن يقال ولا يقع فيه خلاف أنه يحصل لهم بركة القراءة لا ثوابها كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده فإن البركة لا تتوقف على الأمر".
فالقرافي بعد ما أيد مذهب مالك ورد على مخالفه ثم على رأي بعض الفقهاء اختار حصول البركة بالقراءة للأموات عند قبورهم، وهو رأي- كما قال العبدوسي فيما تقدم- خارج عن المذهب، ولسنا نكتفي في رده بمجرد أنه خارج عن المذهب بل نرده بأن تحصيل البركة للأموات من خير ما يتقرب به العبد لربه في نفع إخوانه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة وما كانت لتفوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نستدركها عليه فقد حصر الدفن للأموات ولقد زار أهل المقابر وما جاء عنه إلا الدعاء، وما لم يجيء عنه ويدعى أنه قربة فهو البدعة وكل بدعة ضلالة إلى آخر الاستدلال المتقدم.
وأما ما نسبه للقاضي عياض فأصله في شرحه على مسلم في حديث القبرين اللذين مر بهما النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة
وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا. ثم قال لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا».
ونقل الأبي كلا عياض فقال: "وأخذت منه تلاوة القرآن على القبر لأنه إذا رجي التخفيف بتسبيح الشجر فالقرآن أولى" فنقول أن هذا من القياس في العبادات وهو مردود في مذهب مالك، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يحفظون القرآن فلو أن قراءة القرآن للتخفيف على الأموات مشروعة لكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ وأمرهم بالقراءة لكنه لم يقرأ ولم يأمرهم بالقراءة واقتصر على وضع فلقتي العسيب. ومعاذ الله أن يترك الأحرى إلى غير الأحرى كما يقتضيه التمسك بالقياس وأما أمر العسيب والتخفيف به ما دام رطبا فهو كما قال الإمام المازري:"فلعله أوحى إليه أن يخفف عنهما ما داما رطبين ولا وجه يظهر غيره" وكما قال الأبي: "والأظهر أنه من سر الغيب الذي اطلعه الله عليه" ولا يخفى أن كلام هذين الإمامين مما يرد ذلك القياس، لأن القياس حيث يكون ينبني على العلة المشتركة ومبنى ما هنا على سر غيبي خاص.
…
عرض فضيلته في القسم الثاني من كلامه إلى حكم تغيير بدعة القراءة في المواطن الثلاثة فقال: "أقصى حكمها في النهي أن تكون من قبيل المكروه والمكروه لا يغير على فاعله".
ونحق قد بينا بالاستدلال المتقدم أن بدعة التقرب بما لم يشرع التقرب به في موطن من المواط من لا تكون إلا حراما وأن كراهتها عند مالك كراهة التحريم فيجب تغييرها كما يجب تغيير المحرمات.
وعلى ذلك جاءت فتوى العبدوسي المتقدمة: "وكذلك يجب قطع الفقراء من الذكر أمامها على ما جرت به العادة" ثم لا نسلم له أن المكروه كراهة التنزيه لا يغير على فاعله. فإن المكروه منهي عنه ومن نهى عن شيء فقد أنكره فهو داخل في المنكر على قدر درجته في والنهي عن المكروه. وقال القرافي في أواخر فروقه: "المسألة الخامسة من التأدية إلى إحداهما والمضار والمفاسد مطلوب زوالها ولا تزال إلا بالتغيير كل بحسب منزلته في الضرر والفساد.
والمكروه منهي عنه ونحن مأمورون بتبليغ أوامر الله ونواهيه. وقد نص أصحاب حواشي الرسالة وغيرهم أنه يستحب الأمر بالمندُوب والنهي عن المكروه. وقال القرافي في أواخر فروقه: "المسألة الخامسة المندوبات والمكروهات يدخلها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل الإرشاد للورع ولما هو أولى من غير تعنيف ولا توبيخ بل يكون ذلك من باب التعاون على البر والتقوى" لكن فضيلته لا يريد هذا التعاون الذي قد يدرب الناس على الإنكار فيترقوا فيه إلى ما يضر بنواح معينة فهو لهذا يزعم أن غاية هذه البدع أن تكون مكروهة وأن المكروه لا يغير ثم يغري السلطة بالمغيرين!
ثم قال فضيلته- مستدلا على عدم التغيير-: "وقد جرى عمل كثير من بلاد الإسلام على اتباع قول الذين رأوا الاستحباب فلأهل الميت الخيار أن يتبعوا السنة أو يتبعوا المستحب".
ومعاذ الله أن يكون الترك هو السنة ويكون الفعل مستحبا. إذ معنى هذا أن سنة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وطريقته هي ترك المستحب فعاش في جميع حياته تاركا لهذا المستحب معرضا عنه زاهدا فيه حتى جاءت الخلوف فأقبلت عليه وتمسكت به فنقول لمن جاء يستفتينا أنت مخير إن شئت تمسكت بسنة محمد- صلى الله عليه
وآله وسلم- وهي الترك، وإن شئت تمسكت بهذا المستحب الذي أحدثته الخلوف. لا كلا! ما كان مقابلا للسنة إلا البدعة. وما كانت البدعة إلا ضلالة إلى آخر الاستدلال المتقدم وقد تقدمت مناقشتنا له فيمن نسب إليهم الاستحباب.
ثم أراد فضيلته أن يستدل على أن ما جرى عليه عمل الناس من الخلافات لا يغير فقال: "قال أبو سعيد بن لب كبير فقهاء غرناطة في عصره وهو القرن الثامن: أن ما جرى عليه عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم ينبغي أن يلتمس لهم مخرج شرعي على ما أمكن من وفاق أو خلاف (أي بين العلماء) إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين أو بمشهور من قول قائل".
ما يجري، به عمل الناس ينقسم إلى قسمين قسم المعاملات وقسم العبادات. وقسم المعاملات هو الذي يتسع النظر فيه بالمصلحة والقياس والأعراف وهو الذي تجب توسعته على الناس بسعة مدارك الفقه وأقوال الأئمة والاعتبارات المتقدمة، وفي هذا القسم جاء كلام أبي سعيد هذا وغيره وفيه نقله الفقهاء وأنت تراه كيف يعبر بالعرف والعادة. أما قسم العبادات فإنه محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه فلا يقبل منه إلا ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فلا يتقرب إلا بما تقرب به وعلى الوجه الذي كان تقربه به ومن نقص فقد أخال ومن زاد فقد ابتدع وشرع وذلك هو الظلام والضلال: ومن هذا القسم التقرب بالقراءة في المواطن الثلاثة بعد ما ثبت أن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تركها وفيها جاء كلام ابن سعيد الذي نقلناه عنه فيما تقدم. فمن العجيب- ولا عجب مع الغرض- أن يقلب فضيلته الحال فيهمل كلام أبي سعيد الذي هو في موضوعنا ويأتي بكلام له في موضوع آخر وينزل قوله في قسم المعاملات على ما هو من قسم العبادات.
ثم فرع على ما أبطلناه من رأيه فقال: "وعليه فكل من يتصدى لمنع أقارب الأموات من تشييع جنائزهم بالقراءة فقد أنكر عليهم بغير علم واجترأ عليهم بالتدخل في خاصة أمورهم بدون سبب يحق له ذلك" وإذا ثبت أن ذلك بدعة وضلالة قد أنكرها أهل العلم فمن منع منها منع بعلم. ولو ترك كل مرتكب بدعة ضالة لأن منعه تدخل في خاصة أموره لعم الفساد وغرقت السفينة كما في الحديث المشهور.
ثم بين فضيلته ما هو شأن العالم في الإنكار فقال: "وإنما شأن العالم في مثل هذا أن يرغبهم في التأسي بالسنة وبيان أنها الحالة الفضلى بقول لين".
وإذا بان أن هذه بدعة وهي ضلالة فإنها تغير بدرجات التغبير الثلاث فمن استطاع تغييرها باليد فلا يجوز له الاقتصار على اللسان، ثم إننا والله لقد وددنا لو ظفرنا بهذا الذي قلت منك ياصاحب الفضيلة وددنا لو أنك قمت مرة واحدة من عمرك- وأنت شيخ الإسلام- فرغبت الناس بالتأسي بالسنة وبينت أنها الحالة الفضلى بقولك اللين، وكلامك العذب الرقيق. ولكن- وياللأسف- كانت أول قومة قمتها هي قومتك هاته التي نحن في معالجتها ودفع أضرارها وغسل أوضارها.
ثم جاء فضيلته بالداهية الدهياء: "فإن هم تجاوزوا ذلك فحق على (ولاة الأمور) في البلدان أن يدفعوا عن أهل المآثم عادية من يتصدى بزعمه لتغبير المنكر دون أن يعلم، من كل من تزبب قبل أن يتصرم".
أرأيت كيف يغري السلطة بالمصلحين أرأيت كيف يستكبر إنكار من ينكر البدعة، ويسميه عاديا وهو هو الذي لم ينبس ببنت شفة أمام أي عادية من عوادي الزمان؟ .. ليس هذا مقام رد فأرد عليك
مثل ما تقدمه. ولكنه مقام ظلم وتحريش وتحقيق نكل الأمر فيه إلى العزيز الحكيم.
إلى هنا ننتهي من البحث الذي بنيناه على النظر والاستدلال لا على مجرد سرد الأقوال. وقد وعد فضيلته بأنه سيتبع فتواه ببيان تأصيل أحكامها ونحن لبيانه هذا من المنتظرين والعاقبة للمتقين.
عبد الحميد بن باديس
البصائر: ع19 س1 الجزائر يوم الجمعة 23 صفر 1355هـ - لـ 15 ماي 1936م ص1 - 2 وعمود من 3.