الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطاب الرئيس الجليل
الأستاد الشيخ عبد الحميد بن باديس
في عرض حالة الجمعية الأدبية
ــ
الحمد لله الذي فضلنا بالعقل وكملنا بالعلم وجملنا بالفضيلة، وأسعدنا بالهداية والتوفيق.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الكامل بالفطرة، المكمل بالعصمة، المبعوث إلى الخلق رحمة، الداعي بالحكمة والموعظة الحسنة إلى أقوم طريق.
وعلى آله المنبثقين من أكرم نبعة والمنحدرين من أطهر مزنة، والنابتين من أطيب تربة، فنعم الفريق ذيَّاك الفريق.
وعلى أصحابه الذين نشروا الملة فبينوها بأسلات الألسن، وحملها بأسل الأسنَّة، حتى تبحبح الناس من الإسلام والسلام في روض أنيق.
وعلى التابعين لهم من جميع الأمة، المقتفين آثارهم بحق وقوة، المجددين عهدهم بعلم وحكمة المصطحبين من طريق سعادتهم- من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح خير رفاق.
أما بعد فحياكم الله أبناء العروبة والإسلام وأنصار العلم والفضيلة.
حوربت فيكم العروبة حتى ظن أن قد مات منكم عرقها، ومسخ فيكم نطقها، فجئتم بعد قرن تصدح بلابلكم بأشعارها فتثير الشعور والمشاعر وتهدر خطباؤكم بشقاشقا فتدك الحصون والمعاقل ويهزُّ كتَّابكم أقلامها فتصيب الكُلى والمفاصل.
وحورب فيكم الإسلام حتى ظن أن قد طمست أمامكم معالمه، وانتزعت منكم عقائده ومكارمه فجئتم بعد قرن ترفعون علم التوحيد وتنشرون من الإصلاح لواء التجديد وتدعون إلى الإسلام كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم وكما يرضى الله، لا كما حرَّفه الجاهلون وشوَّهه الدجالون ورضيه أعداؤه.
وحورب فيكم العلم حتى ظن أن قد رضيتم بالجهالة وأخلدتم للنذالة ونسيتم كل علم إلا ما يرشح به لكم أو ما يمزح بما هو أضر من الجهل عليكم فجئتم بعد قرن ترفعون للعلم بناء شامخاً وتشيِّدون له صرحا سامقا فأسستم على قواعد الإسلام والعروبة والعلم والفضيلة جمعيتكم هذه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وحوربت فيكم الفضيلة فسمتم الخسف وديثتم بالصغار حتى ظن أن قد زالت منكم المروءة والنجدة وفارقتكم العزة والكرامة فرئمتم الضيم ورضيتم الحيف وأعطيتم بالمقادة، فجئتم بعد قرن تنفضون غبار الذل وتهزهزون أسس الظلم، وتهمهمون همهمة الكريم المحنق وتزمجرون زمجرة العزيز المهان وتطالبون مطالبة من يعرف له حقاً لا بد أن يعطاه أو يأخذه.
فبحق قلت: حياكم الله أبناء العروبة والإسلام وأنصار العلم والفضيلة.
نعم- أيها الإخوان- نهضنا بعد أن صهرتنا بنار الفتنة والابتلاء حوادث الزمان، وقارعتنا وقارعناها الخطوب ودافعتنا ودافعناها الأيام {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
نعم نهضنا بعد قرن بعد ما متنا وأقبرنا أحيينا وبعثنا سنة كونية
فقهناها من القرآن ونعمة ربانية تلقيناها من الملك الديان {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا - إلى - يَشْكُرُونَ} ، {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ - إلى - قَدِيرٌ} ، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ- إلى-الْحَكِيمُ} .
نعم نهضنا نهضة (بنينا على الدين أركانها فكانت سلاماً على البشرية) لا يخشاها- والله- النصراني لنصرانيته ولا اليهودي ليهوديته بل ولا المجوسي لمجوسيته ولكن يجب- والله- أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته.
العروبة والإسلام، والعلم والفضيلة، هذه أركان نهضتنا وأركان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي هي مببعث حياتنا ورمز نهضتنا، فما زالت هذه الجمعية منذ كانت تفقهنا في الدين وتعلمنا اللغة وتنيرنا بالعلم وتحلينا بالأخلاق الإسلامية العالية وتحفط علينا جنسيتنا وقوميتنا وتربطنا بوطنيتنا الإسلامية الصادقة، ولن تزل كذلك بإذن الله ثم بإخلاص العاملين.
كانت جمعية العلماء فكانت نهضة الأمة دوى صوت العلم فأيقظها من رقدتها، وكذلك عرفت الأمم من تاريخها لا تنهض إلا على صوت علمائها، فهو الذي يحل الأفكار من عقلها، ويزيل عن الأبصار غشاواتها ويبعث الهمم من مراقدها ويرفع بالأمم إلى التقدم في جميع نواحي الحياة ولهذا ترى أعداء النهوض من كل عصر ومصر يبذلون لإخفات هذا الصوت كل جهودهم ويكيدون له كل كيد {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} .
وما كانت جمعية العلماء حتى كان العلماء القرآنيون الذين فقهوا
الدين والدنيا بفقه القرآن وعرفوا السنن الأقوم بمعرفة سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدوا واهتدوا بما كان عليه السلف الصالح ورجال الإسلام العظام.
هذه- أيها الإخوان- نهضتنا وأركانها وأسبابها واضحة للعيان محفوظة للتاريخ خالدة للأجيال نورثها أبناءنا الذين سيقولون- إن شاء الله- فينا مثلما قلنا في أسلافنا:
إِنَّا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا
…
لَسْنَا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا
…
تَبْنِي وَنَفْعَلُ فَوْقَ مَا فَعَلُوا
أيها الإخوان، هذا يوم الاجتماع العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولكنني أريد أن أسميه بعيد نهضة المسلمين الجزائريين فهل أنتم موافقون (أصوات بالإجماع: موافقون).
فلنتعاهد في هذا اليوم العظيم، والعيد القومي العلمي الكريبم على خدمة مبادئ الجمعية وتوسيع نطاق أعمالها ونشر هدايتها ونصر كل عامل من رجالها بصبر وتضحية ونزاهة وثبات، فهل أنتم معاهدون (أصوات بإجماع: معاهدون).
أيها الإخوان تنتظرون مني الآن أن أبين لكم مواقف الجمعية من بعض الجهات التي تعاصرها وتلتقي بها في محجة السير وميدان الحياة.
أما موقفها من الحكومة فهو هو: المطالبة والاحتجاج من ناحية الجمعية والصد والإعراض من الناحية الأخرى، ولقد كنت في خطاب السنة الماضية علقت رجاء الجمعية على الحكومة الشعبية وحسنت الظن بها، وأنا أعلن اليوم- مع الأسف المر- خيبة ذلك الظن ووهن ذلك
الرجاء فحسبنا إيماننا بالله وثقتنا بأنفسنا فذلك- والله- أجدى لنا وأعود بالخير علينا.
وأما موقف الجمعية مع الأحزاب فأعيد فيه نص ما قلته بالسنة الماضية.
"إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه جميع ما يحتاج إليه الإنسان في جميع نواحي الحياة لسعادته ورقيه وقد دلت تجارب الحياة كثيراً من علماء الأمم المتمدنة على أن لا نجاة للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام فالمسلم الفقيه في الإسلام غني به عن كل مذهب من مذاهب الحياة فليس للجمعية إذاً من نسبة إلا إلى الإسلام، وبالإسلام وحده تبقى سائرة في طريق سعادة الجزائر، والبلوغ بها - إن شاء الله- إلى أرقى درجات الكمال.
وإلى هذا فنحن نشكر ونعترف بالجميل لكل من يؤيدنا في سيرنا نصرة للمظلوم ومقاومة وخدمة للإنسانية في جميع أجناسها".
وأزيد اليوم: إن الجمعية لا توالي حزباً من الأحزاب ولا تعادي حزباً منها، وإنما تنصر الحق والعدل والخير من أي ناحية كان وتقاوم الباطل والظلم والشر من أي جهة أتى. محتفظة في ذلك كله بشخصيتها ومبادئها محترسة في جميع مواقفها مقدرة للظروف والأحوال بمقاديرها.
وأما موقفها مع المؤتمر فقد أوكلته لمن شاء من رجالها ليحافط فيه على اللغة والقومية والمطالب الدينية والعلمية، يعمل فيه على مسئوليته لا على مسئوليتها.
وأما مواقف الجمعية مع خصومها فإنها تعلم أن الأمة اليوم تجتاز طوراً من أشق أطوارها وأخطرها فهي تتناسى كل خصومة وتعمل لجمع الكلمة وتوحيد الوجهة ولا تنبذ إلا أولئك الرؤوس رؤوس الباطل
والضلال الذين لا تجدهم الأمة في أيام محنتها إلا بلاء عليها ولا يتحركون إلا إذا حركوا الغايات عكس غايتها، فرقوا المسلمين بددا وصيروهم قددا، وقد هد الله- والحمد لله- ركنهم المنهار وفضح أمرهم في رابعة النهار، وصيرهم أقل من أن يعتني بهم وأحقر من أن يضيع الوقت في الحديث عليهم.
هذه مواقف جمعيتكم- أيها الإخوان عرضتها عليكم في إيضاح وإيجاز، والله أسأل أن يثبت أقدامنا في مواقف الحق كلها في الدنيا وفي مواطن السؤال والجزاء في الأخرى {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . آمين يا رب العالين.
البصائر: السنة 2 العدد 83 الجزائر يوم 25 رجب 1356ه 30 سبتامبر 1937م ص 1 ع 2 و 3 ص 2 ع 1 و 2 و 3 ونشر هذا الخطاب أيضا بالشهاب: ج 8، م 13، ص 357 - 361 غرة شعبان 1356ه - أكتوبر 1937م.