الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرى الشاعرين:
شوقي وحافظ
ــ
في شوال من السنة الماضية شاركت الأمة الجزائرية الأمم العربيهّ في الاحتفال بذكرى شاعري العربية العظيمين وتألفت لذلك لجنة من الأدباء بالعاصمة وأقامت حفلة حافلة بنادي الترقي ألقيت فيها الخطب وأنشدت القصائد وتواردت فيها برقيات المشاركة من جميع نواحي القطر، وقد نشرت الصحافة خبر هذه الحفلة في وقتها واليوم رأينا أن ننشر في "الشهاب" ما اتصلنا به مما قيل في تلك الليلة، فيكون كإحياء الذكرى مرة أخرى.
((خطبة صاحب هذه المجلة))
(1)
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى
أيها الإاخوان:
إذا كانت الأمم اللاتينية- على ما بينها من تزاحم وتخاصم وتقاتل وتناحر- ترتبط برابطة اللاتينية وتتفاخر بثقافتها، وتعقد المجتمعات العظيمة لتقوية روحها وتمتين حبل التمسك بها، فنحن- أبناء العربية- وليس بيننا شيء من تلك المفرقات بل ما بيننا إلا ما يقرب بعضنا من بعض من المؤلفات والمحزنات، أحق بأن نفعل مثلهم وأكثر منهم في لغتنا العربية.
وفوق هذا فإن اللغة اللاتينية ليست لغة العلم والأدب المشتركة
(1) ابن باديس والمجلة هي الشهاب.
ما بينهم مثل العربية التي هي (1) العلم والأدب ما بين سبعين مليونا من أبناء الضاد. وليست اللاتينية قريبة من عامياتهم مثل قرب العربية الفصحى من عاميتنا. حتى أنه لو قام خطيب يخطب باللاتينية لما وجد من يفهمه إلا قليلا من أهل القلم منهم، ونحن نلقي دروسنا ومحاضراتنا وأكثر خطبنا بالعربية الفصحى فلا يبقى على بعض السامعين إلا قليل من القول.
فإذا كانت العناية باللاتينية من واجب خاصتهم، فإن العناية بالعربية من واجبنا عامة وخاصة إذ هي لغتنا أجمعين وإذا كان تمسكهم برابطتهم اللاتينية لم يخرج أي واحد منهم عن وضعيته الاجتماعية الخاصة، فإن تمسكنا بهذه الرابطة العربية لا يخرجنا عن وضعيتنا الخاصة وما لنا من ارتباطات أخرى يرتبط بها المجتمع الجزائري!
أيها السادة:
إن من حقنا ومن الواجب علينا- نحن معاشر المسلمين الجزائريين- الذين تشربت عروقنا هذه اللغة الكريمة من معين قوميتنا الشريفة وتغذت أرواحنا من بيانها العذب بالشربي (3) المصفى، من ديننا العظيم، واستنارت عقولنا من شمسها المضيئة بالأنوار الساطعة من تاريخنا الجليل، من حقنا الواجب علينا أن نكرم العربية. ومن يكرم العربية وخصوصا من خدم العربية بعقله وروحه وحياته مثل شاعرينا الكريمين؟ ومن حقنا- أيضا- أن نرتبط بأبناء العربية ارتباط القلب واللسان، ارتباط العقل والتفكير، ارتباط الشعور والتقدير خصوصا عندما يتحرر الشعور العام لأمر هام وتتوجه القلوبه العربية لتكريم عظيم، أو إحياء ذكرى عزيز مثل احتفالنا هذا مع العالم العربي لتكريم الشاعرين العظيمين وإحياء ذكراهما العزيزة الخالدة.
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب: التي هي لغة العلم.
(2)
هذه كلمة غير واضحة.
أيها السادة:
إننا باحتمالنا هذا بذكرى شاعرَي العربية العظيمين شوقي وحافظ، نكرم سبعين مليوناً من أبناء العربية الذين يعدون العربية لغتهم القومية. ونكرم خمسمائة مليون من أبناء الإسلام الذين يعدونها لغتهم الدينية ونكرم الأمم المتمدنة جمعاء التي يعترف أكابر علمائها المنصفين بمزية اللغة العربية التاريخية على العلم والمدنية.
أيها الإخوان:
ليس الشاعران الخالدان بالمحتاجين للتعريف بهما. ولست بالباحث الأديب الذي يستطيع أن يعرض عليكم في بلاغة وإيجاز صوراً (1) فتانة من أدبهما. غير أنني ربما أستطيع أن أقول شيئا من وجوه العبرة والقدوة في حياتهما، ووجوه من النعمة العظيمة من الله تعالى على العربية بهما:
قد اتحد الشاعران في الموطن وتقاربا في المولد والوفاة ولكنهما تباينا في البيئة والنشأة والمعيشة، فنشأ شوقي في بيت الأمارة، وفي بيئنه الخاصة، وعاش عيشة الترف والنعمة، ونشأ حافط في بيت أبيه، وفي بيئة عامة، وعاش عيشة البؤس والشدة. فكان من نعمة الله أن قسمت الحياة بينهما هذا التقسيم ليؤدي كل منهما للعربية رسالته من ناحيته ومؤثراتها الخاصة به.
فلقد أخرجت بيت الأمارة المرتبطة بالخلافة من شوقي، شاعر الإسلام والعرب والأحداث الإسلامية الكبرى والتاريخ الإسلامي العام وتاريخ العرب. وأخرجت البيئة العامة الرازحة تحت نير الظلم والمتجرعة لألوان الشقاء، والمتقلبة في دركات الانحطاط من حافظ
(1) في الأصل: صور.
شاعر الأخلاق والاجتماع والوطنية ولا غناء لواحد من العرب عما جاء به كل واحد من الشاعرين في ناحيته. ولو لم يخلق الله إلا أحدهما لما تمت النعمة من الناحيتين.
كانت العربية القرآنية قد تنوسيت أساليبها وانقطع سند الأمة العربية عنها فجدد الشاعران من شبابها، وأعادا من بيانها، ما حسب الناس أنه مات مع الأيام الزاهرة للعرب بالمشرق والمغرب.
حسب قوم أن العربية لا تتسع لما جدَّ من المعاني إلا إذا خلعت عنها ثوب القرآن، ولبست- مثلهم- منسوجات "لانكشير" وأخوات "لانكشير"، فجاء الشاعران- خصوصا شوقي في العقد الأخير من عمره، من قصائدهما العصرية المعاني القرآنية اللغة والأسلوب والتراكيب- بأوضح الرد وأبلغ التكذيب.
عاش الشاعران كل على ما قسم له من الحياة حتى جاءت العرب العالمية الكبرى ووضعت أوزارها فإذا بشوقي يخرج إلى العالم من قفص دار الامارة، وإذا بحافط يدخله بؤسه إلى قفص الوظيف في دار الكتب المصرية.
فماذا كان من الشاعرين العظيمين بعد؟
كان منهما ما يجب أن تكون فيه أبلغ العبرة، فإن شوقي اتسعت شاعريته العالمية، وقويت نزعته الوطنية، وأما حافط فقد سكت، سكت إلا عن قليل كان أكثره رثاء! ولعمر الحق ما اسكته إلا الوظيف الذي ينسى به الشرقي- حتى مثل حافظ ويا للأسف- نفسه، وأمته، وملته، إلا ما شاء الله.
أيها الإخوان:
إن مما نفع شوقي اطلاعه على آداب أمم أخرى في لغة أوروبية
هي الفرنسية وأن مما نفع حافظا ما مسه من الألم مع قومه. وقد كان يطالع "الاغاني" و"العقد الفريد" ويعيد مطالعتهما المرة بعد المرة، فعلى أدباء الجزائر وشعرائها أن يدرسوا آدابهم العربية، وأن يطالعوا الآداب الغربية في اللغة الفرنسية وأن يمازجوا قومهم ليألموا وينعموا - إن كان نعيم- معهم، لتكون لهم منزلة أدبية عالمية، وآثار بارزة في الحياة الجزائرية.
أيها الإخوان:
إن حياة الشاعرين العظيمين قد اخمدت نوابغ وأماتت قرائح وإن موتهما بما نشاهد من تكريم العالم العربي لهما ستحيي ملكات، وتبعث همما، فكونوا- وأنتم أنتم- في أول الرعيل.
أيها الإخوان:
ليس للجزائر من حافظ إلا ما للأوطان العربية الأخرى من شعره وأدبه وفنون قوله، أما شوقي فقد قدر له أن يزور هذه الجزائر في شبابه وينزل بعاصمتها أربعين يوما للاستشفاء، ويقول عنها، "ولا عيب فيها سوى أنها قد مسخت مسخا، فقد عهدت مساح الأحذية فيها يستنكف النطق بالعربية، وإذا خاطبته بها لا يجيبك إلا بالفرنسوية". فاعجبوا للاستدلال على حالة أمة بمساح الأحذية منها! ولا يجمل بي أن أزيد في موقفي هنا على هذا، إلا أن فقيدنا العزيز لو رأى من عالم الغيب حفلنا هذا لكان له في الجزائر رأي آخر، ولعلم أن الأمة التي صبغها الإسلام، وهو صبغة الله، وأنجبتها العرب، وهي أمة التاريخ، وأنبتتها (1) الجزائر، وهي العاتية على الرومان والفاندال، لا تستطيع ولن تستطيع أن تمسخها الأيام، ونوائب الأيام.
(1) في الأصل: وأثبتتها.
أيها الإخوان:
باسمي الضئيل، وباسم الجزائر الكبير، وباسم جمعكم الكريم، أرفع التحيات الزكية للفقيدين الخالدين في مرقدههما ولجميع العاملين لإحياء العربية وأدبها من بعدهما.
فليعش العرب، ولتعش العربية، وليعش المحبون لهما من الناس أجمعين (1) و (2).
عبد الحميد بن باديس
(1) حررت وألقيت ليلة 27 من شوال 1351ه بنادي الترقي بالعاصمة (المؤلف).
(2)
ش: ج 4، م 10، ص 142 - 146 غرة ذي الحجة 1352ه - مارس 1934م.