الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا تكون له من نتيجة إلا خيبة الآمال التي كانت معلقة من الطرفين عليه.
فعسانا نرى من الحكومة التفاتا إلى هذه اللجنة، فتخرجها من دور التكوين إلى دور العمل الصحيح، وتجعلها وسيلة من وسائل التفاهم والعمل المشترك والتعاون الصادق في سبيل المصلحة العامة.
الإضراب التونسي:
هاجت تونس وحق لها أن تهيج، وأضرب طلبة الجامع الأعظم (1) وحق لهم أن يضربوا، وتظاهروا في الطرق العامة، وكان حقا عليهم أن يتظاهروا، فليست الصدمة التي صودم بها طلبة الجامع المعمور والمتخرجون منه بالصدمة الصغيرة، وليس التهديد الذي جرد سيفه الماضي على رؤوسهم بالتهديد الخفيف. فإن النصوص القانونية التي شملها الأمر العلي المتعلق بالوظائف العمومية، يجعل سائر الطبقات الزيتونية إلى نحو الخمسة أعوام أخرى، بعيدة عن الوظائف العمومية ومناصب الإدارة، وكأنما ذلك الأمر العلي قد صدر خصيصا لإقصاء هذه الطبقة التى هي روح الأمة التونسية عن الوظائف العامة وعن الإدارة التونسية كلها.
أرادت هيأة التشريع التونسية المختفية وراء الأوامر العلية، أن يزداد حسن التفاهم بين سائر المتوظفين من فرنسيين وتونسيين، ففرضت على كل راغب وظيفة من التونسيين أن يكون ملما بمبادئ اللغة الفرنسية وكل راغب وظيفة من الفرنسيين أن يكون ملما بمبادئ اللغة العربية، بحيث يستطيع كل منهما أن يقوم بمحادثة بسيطة باللغة الأخرى.
(1) جامع الزيتونة.
وقد جاء ما نصه في الأمر المذكور: "لا يمكن لأي متوظف تونسي ما عدا حكام المحاكم الشرعية أن يحرز على تسميته بصفة رسمية إلا إذا أثبت تحصيله على نفس درجة المعارف المذكورة في اللغة الفرنسوية.
فمفهوم هذا الفصل ومنطوقه يدلان على أن لن يستطيع التوظف من خريجي المعهد الزيتوني في أي إدارة تونسية إلا من كان محرزا على مبادئ اللغة الفرنسية، وبما أن القانون المذكور لم يترك أجلا في وجه المتعلمين لتعاطي الدروس الفرنسية، وبما أنه لا يوجد بين أساطين الجامع الأعظم شيوخ يلقنون إلى جانب شرح ميارة وحاشية التاودي مبادئ A. B. C. D.، فإن طلبة الجامع الأعظم رأوا أن جهودهم كلها أصبحت عبثاً، وأن آمالهم جميعا قد انهارت وأنه فيما عدا القضاة ورجال الإفتاء وهم رؤساء المحاكم الشرعية، لا يستطيع أن يتطلب منهم التوظيف أحد.
أضرب الجامع عن تلقي الدروس، ووقعت المظاهرات الهادئة الرصينة فقلبتها أعمال البوليس مظاهرة حادة دامية، وأوصدت المدينة التونسية أبوابها احتجاجا وتضامنا مع طلبة الكلية الزيتونية، فما كان لذلك من أثر عند الإدارة التونسية إلا أمرها بإبعاد فوج جديد من التونسيين إلى برج لوبوف وتقديم جماعة كبيرة إلى المحاكم الفرنسية فنالوا عقابا صارما من السجن والإبعاد. وهكذا استمر مسيو بيروطون على سياسة العنف الفاشستي إلى آخر لحظة من مدة حمكمه بتونس.
أصدرت الحكومة بلاغا تناقض فيه نفسها، وتخفف وطأة قانونها الأخير، فقالت في ذلك البلاغ أن الزيتونيين الذين لا يحسنون الفرنسية قد بقيت أمام وجوههم عدة وظائف يمكنهم التطلع إليها كأعضاء المحاكم الشرعية وأعوانها الإداريين كالعدول المحررين والكتبة والنساخين
والعدول العموميين وخطط قسم الأمور الشرعية بوزارة العدلية وخطط القسم الأول من الوزارة الكبرى وخطط العمال والكواهي وكافة خطط الجامع الأعظم والشعائر الدينية والأوقاف.
فالأمر العلي يوصد باب التوظف إلا لحكام المحاكم الشرعية، وهذا البلاغ الحكومي يناقضه ويفتح الباب لهذه الخطط، إنما العمل الرسمي لا يقع إلا بناء على الأوامر، ولا اعتبار للبلاغات فيه.
فحركة الإضراب في المسجد المعمور لا تزال جارية إلى أن يصدر أمر جديد يزبل عن الأنفس الحيرة والارتباك، والهيجان لا يزال مستوليا على أنفس كل التونسيين من جراء هذه الضربة الصارمة، والجيش العرمرم من رجال تونس وخير شبانها لا يزال يتضاعف عدده في المنفى ببرج لوبوف حيث الآلام والأسقام، والصحافة التونسية المغلولة اليد لا تتجاسر على قول كلمة أو إبداء إشارة إلا تلميحا أو من طرف خفي، وما تجاسر البعض منها على طلب إرجاع المبعدين إلا عندما تحققت نقلة بيروطون من تونس. والأفواه مكممة بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفتح فمه بانتقاد أو ملاحظة خشية أن ينتزع في منتصف الليل من بين أهله وذويه ويسار به إلى برج لوبوف. والاستياء العام سائد بين سائر الطبقات كالنار تحت الرماد. هذه هي حقيقة الحالة بتونس كما تركها مسيو بيروطون عندما أمرت الحكومة بنقله إلى المغرب الأقصى ليمثلها هنالك بدل مسيو بونسو الذي أخفق في إدارة السلطنة المغربية.
وإننا لنتمنى أن يسلك مسيو فيون المقيم الجديد بتونس سياسة اللين والتسامح فيعيد إلى الأنفس اطمئنانها، ويرتق ما فتقه سلفه، معتمدا على المفاهمة والمشاركة الصادقة.
(1) ش: ج 1 م 12 قسنطينة غرة محرم 1355هـ - أبريل 1936م ص 45 إلى ص 50.