الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عيد الحرية
حق كل انسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المتعدي عليه في شيء من حريته المتعدي عليه في شيء من حياته، وكما جعل الله للحياة أسبابها وآفاتها جعل للحرية أسبابها وآفاتها، ومن سنة الله الماضية أنه لا ينعم بواحدة منهما إلا من تمسك بما لها بن أسباب وتجنب وقاوم ما لها من آفات. وما أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وما أنزل عليهم الكتب وما شرع لهم الشرع إلا ليعرف بني آدم كيف يحيون أحرارا وكيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية وكيف يعالجون آفاتها وكيف ينظمون تلك الحياة وتلك الحرية حتى لا يعدو بعضهم على بعض وحتى يستثمروا تلك الحياة وتلك الحرية إلى أقصى حدود الاستثمار النافع المحمود المفضي بهم إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة. فرسل الله وكتب الله وشرائع الله كلها ضد لمن يقف في طريق بني آدم دون هذه الغاية العظيمة بالتعدي على شيء من حياتهم أو شيء من حريتهم ولقد كانت هذه الشريعة المحمدية، بما سنت من أصول وما وضعت من نظم وما فرضت من أحكام- أعظم الشرائع وأكمل الشرائع في المحافظة على حياة الناس وحريتهم، وما كان انتشارهم ذلك الانتشار العظيم في الزمان القليل على يد رجالها الأولين- إلا لما شاهدت فيها الأمم من تعظيم للحياة والحرية ومحافظة عليهما وتسوية بين الناس فيهما مما لم تعرفه تلك الأمم من قبل لا من ملوكها ولا من أحبارها ورهبانها. والحياة والحرية محبوبان للناس بالطبع ومرغوبان لهم بالفطرة فأسرعوا لتلبية الدعوة بالدخول في الإسلام أو الإستظلال
بظله. فما أحق أبناء هذا الدين، ووراث رجاله الأكرمين، أن يكونوا أعرف الناس بقدر هذه الحياة وهذه الحرية، وأكثر الناس احتراما لهما وأشدهم رعاية لحقوقهما وواجباتهما لا لأنفسهم فقط بل للبشربة جمعاء
…
الحياة حياتان حياة الروح وحياة البدن والحرية كذلك. وحياة الروح وحريتها هما أصل حياة البدن وحريته، وشرائع الإسلام كل منتظمة لذلك كله. ومما شرعه الله لتحصيل حرية الروح صوم هذا الشهر المبارك شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. يترك فيه المؤمن طعامه وشرابه وشهوات بدنه ويقبل على التهليل والتحميد والتسبيح فيحرر روحه من سلطة الشهوة وسلطان المادة ويسمو بنا إلى عالم علوي ملكي من الطهر والكمال، ثم إقبل على تلاوة القرآن- بتدبر- فينير قلبه وروحه ويحرر عقله من ربقة الجهل وقيود الأوهام والخرافات، فما يأتي عليه الشهر إلا وقد ذاق طعم الحرية الروحية العقلية وخرج بحيوية قوية وحرية نيرة. فحق عليه أن يحمد الله على نعمته ويظهر آثار تلك النعمة عليه ويفرح بفضل الله ورحمته. وذلك كله باحتفاله بهذا العيد الفطر بما يقوم به في يومه من صلاة وصدقة وصلة رحم وتسامح وتزاور وما يتجمل به من الزينة الحلال وما يأتيه من أسباب السرور واللهو البرىء ومظاهر البهجة بالحرية والحياة.
فهذا العيد- إخواني المسلمين- عيد حريتنا: حرية أرواحنا وعقولنا، وإذا حررنا أرواحنا وعقولنا فقد حررنا كل شيء. فالحمد لله على هذه النعمة ولنحافظ عليها ولنعمل على تكميلها والازدياد منها ذاكرين قول الله:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .
نسأل الله لإخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في هذا
العيد السعيد حياة السعداء، وحرية الرشداء، وعاقبة المتقين، والأمن والسلامة والهداية للناس أجمعين (1).
ش: ج 10، م 11، ص 546 - 548 غرة شوال 1354ه - جانفي 1936م.