الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طلب الآخرة وحدها مذموم فى الإسلام
غلو الصوفية بجعل الكمال عدم طلب الدنيا والآخرة.
ــ
كنا بيَّنَّا نحن وغيرنا على صفحات هذه المجلة أن العبادة الشرعية موضوعة على الرجاء والخوف وأن الطمع في فضل الله لا ينافي إخلاص العبادة له، وذكرنا الأدلة الكثيرة على ذلك من الكتاب والسنة وكانت أدلة ثابتة صريحة غير قابلة للتأويل وبينا بها أن من زعم أن العبادة تتجرد عن الرجاء والخوف، فقد زعم باطلاً وأنه لا يجد آية واحدة ولا حديثا صحيحا واحدا يستدل به على دعواه فالعبادة المتجردة عن الرَّجاء والخوف ليست العبادة التي جاء لها الإسلام.
ثم لما اطلع أخونا في الله شيخ الإسلام الأستاذ محمد رشيد رضا على ما دار في المسألة بيننا وبين خصومنا كاتبنا بموافقته على ما قلنا وذكر لنا ما كان كتبه هو في المسألة في الجزء الثاني من تفسير المنار الشهير وها نحن ننقل ما كتبه الأستاذ في المسألة عند تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الآية، إفادة لقرائنا شاكرين لفضيلته عنايته وتنبيهه.
قال أحسن الله جزاءه:
"وَلَمْ يَذْكُرْ فِي التَّقْسِيمِ مَنْ لَا يَطْلُبُ إِلَّا حَسَنَةَ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ التَّقْسِيمَ لِبَيَانِ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ دَاعِي الْجِبِلَّةِ وَتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ وَهَدْيِ الدِّينِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبَشَرِ مَنْ لَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُهُ إِلَى حُسْنِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا مَهْمَا يَكُنْ غَالِبًا فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الْإِحْسَاسَ
بِالْجُوعِ وَالْبَرْدِ وَالتَّعَبِ يَحْمِلُهُ كَرْهَا عَلَى الْتِمَاسِ تَخْفِيفِ أَلَمِ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ، وَالشَّرْعُ يُكَلِّفُهُ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَيْهِ حُقُوقًا لِبَدَنِهِ وَلِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَلِرَحِمِهِ وَلِزَائِرِيهِ وَإِخْوَانِهِ وَأُمَّتِهِ لَا تَصِحُّ عُبُودِيَّتُهُ إِلَّا بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا.
وَفِي الْآيَةِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ هَذَا الْغُلُوَّ مَذْمُومٌ خَارِجٌ مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَصِرَاطِ الدِّينِ مَعًا، وَمَا نَهَى اللهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَذَمَّهُمْ عَلَى التَّشَدُّدِ فِيهِ إِلَّا عِبْرَةً لَنَا، وَقَدْ نَهَانَا عَنْهُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ فَقَالَ لَهُ:«هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللهَ بِشَيْءٍ؟» قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ اللهِ إِذًا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ وَلَا تَسْتَطِيعُهُ فَهَلَّا قُلْتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» وَدَعَا لَهُ فَشَفَاهُ اللهُ تَعَالَى.
وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا فِي الْغُلُوِّ أَنَّ بَعْضَ الصُّوفِيَّةِ سَمِعَ قَارِئًا يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فَصَاحَ أَوَاهُ فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللهَ؟ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنُ الظَّاهِرِ قَبِيحُ الْبَاطِنِ، فَالْآيَةُ خِطَابٌ لِخِيَارِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ وَشَيْخُهُ مِنِ الصُّوفِيَّةِ لَمْ يَبْلُغُوا مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ، فَإِرَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالْحَقِّ إِرَادَةٌ لِمَرْضَاةِ اللهِ وَعَمَلٌ بِسُنَّتِهِ وَشَرْعِهِ، وَالْمُرَادُ بِالدُّنْيَا فِيهَا الْغَنِيمَةُ فِي الْحَرْبِ، وَبِالْآخِرَةِ الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهَلْ يَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَنَصْرِ رَسُولِهِ وَآثَرُوا الشَّهَادَةَ فِي الْقِتَالِ عَلَى الْغَنِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ اللهَ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَلْ يَدَّعِي ذَلِكَ الصُّوفِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْغُلَاةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا مِنْهُ لِلَّهِ وَطَلَبًا لَهُ عز وجل؟
(أَقُولُ): كَلَّا إِنَّمَا هِيَ فَلْسَفَةٌ خَيَالِيَّةٌ مِنْ خَيَالَاتِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الْبُرْهُمِيَّةِ الْهِنْدِيَّةِ قَدْ شُغِلَ بِهَا أَفْرَادٌ عَنْ فِطْرَةِ اللهِ وَشَرْعِهِ مَعًا فَجَعَلُوهَا أَعْلَى مَرَاتِبَ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَأَوَّلُوا لَهَا بَعْضَ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَمَا إِرَادَةُ وَجْهِهِ تَعَالَى إِلَّا الْإِخْلَاصُ لَهُ فِي كُلِّ عَمَلٍ مَشْرُوعٍ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَتَحَرِّي هِدَايَةِ دِينِهِ فِيهِ، لَا مَا تَخَيَّلُوهُ مِنْ أَنَّ إِرَادَةَ وَجْهِهِ تَعَالَى هُوَ الْوُصُولُ إِلَى ذَاتِهِ بَعْدَ التَّجَرُّدِ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ جَمِيعًا، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ بِتِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي لَا تُدْرِكُهَا الْعُقُولُ وَلَا تَدْنُو مِنْ كُنْهِهَا الْأَفْكَارُ وَلَا الْأَوْهَامُ، مِمَّا لَمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ شَرْعٌ، بَلْ إِدْرَاكُ كُنْهِ الذَّوَاتِ الْمَخْلُوقَةِ لَهُ تَعَالَى فَوْقَ اسْتِطَاعَةِ خَلْقِهِ. وَإِنَّمَا أَعْلَى مَرَاتِبَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا هِيَ مَعْرِفَةُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ شَيْءٍ، وَدُعَاؤُهُ بِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ بِمَا يُنَاسِبُ تَعَلُّقَهُ بِشُئُونِ عِبَادِهِ، وَبِهَذَا فَضَّلَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ خِيَارَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُ كُلٌّ مِنْهُمْ رَبَّهُ عِبَادَةً خَاصَّةً، وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ مَنْ يَعْرِفُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا شَرَعَهُ مِنْ حُقُوقِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْقِيَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُبِّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَتِهِ فِي الْآخِرَةِ هُوَ مَقَامُ الرُّؤْيَةِ بِتَجَلِّيهِ الْأَعْلَى فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَنِ الْعَمَلِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ. (1).
(ا) ش: ج 12، م 9، ص472 - 474 غرة رجب 1352هـ - نوفمبر 1933م.