الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلة الزيتونية
يحق لي- وأنا تلميذ من تلامذة الزيتونة- أن اغتبط بالمجلة الزيتونية غبطة خاصة.
ويحق لي- وأنا جندي مع جنود الإصلاح الإسلامي العام- أن أسر سرورا خاصا بتعزز معاقل الإصلاح بها.
ما كنت لأنسى أربع سنوات قضيتها بالزيتونة، شطرها متعلماً وشطرها متعلماً ومعلماً، فكان لي منها آباء وإخوة وأبناء، فأكرم بهم من آباء وأكرم بهم من إخوة وأكرم بهم من أبناء.
مضت بضع سنوات حالت فيها الأعمال المتوالية بيني وبين زيارة ذلك المعهد الشريف وأهله الكرام، ولقد كان- علم الله- شذى مجالسنا بذكره، ونعيم أرواحنا بذكراه، وما أعرف صائفة حل بنا معشر خدمة الإصلاح- بها البلاء واستحكمت حلقاته مثل الصائفة الماضية، بما كبدت به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وما نصب لها ولرجالها من إشراك لولا دفع الله وحفظه، وما أعلم صائفة هاج بي الشوق إلى جامع الزيتونة مثلها، ولقد علم رفاقي أنه كان صبابة وهياجا لا شوقا معتادا. وأي واجبات هي من حقوق الجزائر غالبت ذلك الشوق فغلبته فلم أستطع براحا، وأي ألم هو كنت ألقاه بين سلطان الواجب وصولة العاطفة، لكن الله الذي أرانا فنونا من لطفه في تلك الصائفة عجل بما سكن ذلك الشوق، وأنعش الروح، وشرح الخاطر، فاطلع علينا (المجلة الزيتونية) من سماء تلك الديار، مشرق الشموس مطلع الأقمار وقد ازدانت غرتها بأسماء أربعة من خيرة الشباب العلماء
العاملين: الأستاذ محمد الشاذلي بن القاضي والأستاذ محمد الهادي ابن القاضي، وكنت تلقيت قسما من البلاغة على المنعم والدهما، والأستاذ محمد المختار بن محمود، والأستاذ الطاهر القصار، وكنت مررت يوم امتحان شهادة التطويع أمام المنعمين والديهما مع غيرهما وقد اضطلع هؤلاء الأساتذة الأربعة بالمجلة وتحريرها وإدارتها وماليتها. وأمدهم الأستاذ الأكبر شيخ الجامع بتأييده الرسمي ووازرهم في العمل أمثالهم من الشباب العلماء وأصحاب الفضيلة الشيوخ الكبراء مثل العلامة أستاذنا شيخ الإسلام المالكي ابن عاشور والعلامة أستاذنا الشيخ الصادق النيفر والعلامة الأستاذ الشيخ عبد العزيز جعيط والعلامة الأستاذ الشيخ البشير النيفر وغيرهم. فكانت المجلة الزيتونية تمثل تمثيلا صحيحا جامع الزيتونة بشيوخه وشبانه فتتجلى فيها الجرأة والرصانة، والنشاط والتؤدة. فتسير- إن شاء الله- إلى غايتها في قوة وسلام.
كانت أول دعوة للإصلاح الإسلامي أعلنت في هذا الشمال الإفريقي على لسان الصحافة- هي دعوتنا منذ بضع عشرة سنة في جريدة (المنتقد) الشهيدة وفي خلفها (الشهاب) وما كان ينتظر من جامع الزيتونة المعمور في جلاله وثقل تقاليده أن يخف لتأييد تلك الدعوة فكنا نعذره بالسكوت حينا، ونأمل أن يأتي يوم يأبى عليه الحق فيه إلا أن يقول كلمته ويرفع صوته فيدوي له هذا الشمال، وكنا نستعجل هذا الفينة بعد الفينة بما نلوح ونصرح به من عتب واستنجاد، حتى جاء هذا العام المبارك فجاءت (المجلة الزيتونية) تعلن الإصلاح وتحمل رايته وتدعو إليه باسم جامع الزيتونة المعمور فكان فوزا مبينا للإصلاح والمصلحين ونصرا عظيما للإسلام والمسلمين.
وقد صدر العدد الأول بمقال الافتتاح بقلم رئيس التحرير الأستاذ محمد المختار ابن محمود وخطاب لصاحب الفضيلة، الأستاذ الأكبر شيخ
الجامع وخطاب للأستاذ محمد الشاذلي بن القاضي صاحب المجلة وكلها صريحة فيما ذكرناه من تقدم جامع الزيتونة والمجلة الزيتونية لميدان الإصلاح الإسلامي العام. وها نحن ننقل فيما يلي دررا منها نحلي بها جيد هذا المقال:
قال الأستاذ رئيس التحرير: "ونحن إذا تأملنا حالة المسلمين في هذا العصر، من كل قطر ومصر وجدناهم قد نبذوا تعاليم الإسلام ظهريا. وتجافوا عنه كبرا وعتيا. فسوق المفاسد والضلالات في رواج وظلام الشرك يوشك أن لا يكون له انبلاج، فكان لزاما على علماء الدين في جميع النواحي أن يشمروا عن ساعد الجد. وينفقوا كل ما لديهم من مال وجاه وكد. ويرفعوا أصواتهم بإرشاد الناس. من جميع الأجناس. حتى يملأ صوتهم الفضاء، ويصل إلى عنان السماء، فينفذ إلى قلوب أعمتها الضلالة وأتت عليها الجهالة. وبذلك يتميز السبيل القصد عن الجائرات من السبل، وما تكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ويصرع الباطل وإن شاع ويظهر الحق وتعلو كلمة الله في جميع البقاع".
"وسيكون في المجلة باب بعنوان (الوعظ والإرشاد) وهو من أعظم أبواب المجلة حيث سيكون مجالا فسيحا لإرشاد الناس وتنبيههم إلى مواقع الخطأ فيما هم سائرون عليه حتى يقلعوا عنه ويرجعوا إلى هدي الإسلام".
"وسيكون شعار المجلة في جميع أعمالها وفي مختلف أطوارها، الإصلاح الديني ومقاومة كل حركة ترمي إلى الإلحاد أو إلى التعصب الديني أو المذهبي ومقاومة البدع بجميع أنواعها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا".
وقال الأستاذ الأكبر أستاذنا المالقي- في بيان مهمة مشيخة الجامع
الأعظم التي تسعى لتحقيقها-: (خامسا) إرشاد العلماء للعامة وإنقاذهم من وهدة الجهالة التي لا يعذر صاحبها وذلك بالوعظ والإرشاد في الجوامع، والمجتمعات العامة وتعهدهم بالموعظة كما كان عليه سلف الأمة ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
وقال الأستاذ صاحب المجلة: "وليس هذا هو كل ما يتطلب منا القيام به فإن أمامنا مهمات كثيرة تتطلب رجالا مصلحين أمثالكم هي اليوم في طي الذهول أو النسيان".
…
نحن نسجل بغاية السرور والغبطة ومع صادق الرجاء وعظيم الأمل، هذه التصريحات الجليلة التي لا تصدر إلا من قلوب أفعمث بالخير، ونفوس تشعر بالواجب، وهمم تريد النهوض بإرث النبوة والرسالة من إنقاذ الخلق وهدايتهم إلى الصراط المستقيم. وخصوصا تصريحات مولانا الأستاذ الأكبر فقد بين أن من مقاصد مشيخة الجامع القيام بالوعظ والإرشاد في الجوامع والمجتمعات وأن تلك هي سيرة السلف الصالح. وطبع كلامه بكلمة أمام دار الهجرة التي هي شعار "الشهاب".
وهذا الذي بيَّنه فضيلته هو ما قامت وتقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهو ما لقيت وتلقى في سبيله كل عرقلة وشر من طرف الإدارة الظالمة الغاشمة المتعرضة لتربية المسلمين تربية إسلامية إنسانية صحيحة، فليتكل فضيلته على الله وليقدم الشبان العلماء من أبناء الزيتونة إلى ميادين الوعظ والإرشاد في الجوامع والمجتمعات في جميع نواحي المملكة- لا العمالة! - التونسية. وليوطن إخواننا من الأساتذة أنفسهم على ما يلقونه من البلاء وما تمطرهم به سحب الظلم والجهل من أنواع الأذى وفقهم الله وأعانهم على تعجيل ما عزموا عليه.
***
وبعد فإن اسم الزيتونة إسم إسلامي علمي تاريخي عظيم فيجب أن تكون "المجلة الزيتونية" ممثلة له مجددة لعهده. وأن في تعاون أساتذة الجامع: شبابهم وشيوخهم على النهوض بها ما يحقق ذلك إن شاء الله. وإنني أقترح على إخواني القائمين بها أن يضموا إلى قلم تحريرها رجالا من الزيتونيين الذين يعرفون بعض اللغات الغربية ولهم خبرة بحركات العصر من وراء البحر فإن العلوم والآداب والفنون تراث الإنسانية كلها لا تستقل فيها أمة عن أمة وأكمل الأمم إزاءها من تحسن كيف تحافظ على حسنها وتستفيد من حسن غيرها (1).
وسلام عليكم أيها الرفاق، من أخ مشتاقا عبد الحميد بن باديس
(1) ش: ج 10، م 12، ص440 - 444 غرة شوال 1355هـ - جانفي 1637م.