الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد موت يزيد الخوارج وابن الزبير
102 - كتاب نجدة بن عامر إلى نافع بن الأزرق
وسار الخوارج بعد أن نصروا ابن الزبير بمكة إلى الأهواز (1)، وقد أمّروا عليهم نافع ابن الأزرق الحنفى، ثم شجر بينهم الخلاف، فنفر عنه جماعة منهم بزعامة نجدة بن عامر (2).
(1) كور بين البصرة وفارس.
(2)
لما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة، شخص إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير- وكان قد امتنع على يزيد، ودعا إلى نفسه، وبايعه أهل مكة والحجاز- وعاجلت المنية مسلما فى الطريق، وكان قد استخلف على الجيش قبل موته حصين بن نمير السكونى، وقدم حصين مكة فحاصرها وقذف البيت بالمجانيق «جمع منجنيق بفتح الميم وتكسر: آلة ترمى بها الحجارة» وحرقه بالنار، وبينا هو يقاتل ابن الزبير إذ أتى نعى يزيد، فقفل بالجند إلى الشام.
وكان الخوارج حين علموا بمسير جيش الشام إلى مكة، خرجوا إليها ليمنعوا الحرم منهم، فسر ابن الزبير بمقدمهم ونبأهم أنه على رأيهم، فقاتلوا معه أهل الشأم حتى انصرفوا عن مكة، ثم ناظروه فلم يرقهم قوله، فتفرقوا عنه وصاروا إلى البصرة، ونظروا فى أمورهم فأمروا عليهم نافع بن الأزرق الحنفى، وأجمع القوم على الخروج فمضى بهم نافع إلى الأهواز سنة 64 هـ وطردوا عمال السلطان عنها وجبوا الفىء.
ولم يزالوا على رأى واحد، حتى جاء مولى لبنى هاشم إلى نافع، فقال له إن أطفال المشركين فى النار، وإن من خالفنا مشرك، فدماء هؤلاء الأطفال لنا حلال، فقال له نافع: كفرت، قال له: إن لم آتك بهذا من كتاب الله فاقتلنى، قال نوح:«رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» فهذا أمر الكافرين وأمر أطفالهم، فشهد نافع أنهم جميعا فى النار ورأى قتلهم، وقال: الدار دار كفر إلا من أظهر إيمانه، ولا يحل أكل ذبائحهم ولا تناكحهم ولا توارثهم، ومتى جاء منهم جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب لا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل «والتقية: هى المحافظة على النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، إذا كانت العداوة بسبب الدين» فإن الله تعالى يقول:
«إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً» وقال عز وجل فيمن كان-
ومضوا إلى اليمامة (1)، وكتب نجدة وهو باليمامة إلى نافع:
«بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنّ عهدى بك وأنت لليتيم كالأب الرّحيم، وللضعيف كالأخ البرّ، لا تأخذك فى الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك، أما تذكر قولك: «لولا أنّى أعلم أنّ للإمام العادل مثل أجر جميع رعيّته، ما تولّيت أمر رجلين من المسلمين» ، فلما شريت (2) نفسك فى طاعة ربك ابتغاء رضوانه، وأصبت من الحق فصّه (3)، وركبت مرّه، تجرّد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك، واستغواك وأغواك، فغويت (4) فأكفرت الذين عذرهم الله فى كتابه من
- على خلافهم «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» فنفر جماعة من الخوارج عنه منهم نجدة بن عامر واحتج عليه بقول الله عز وجل: «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» وبقوله عز وجل «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» فالعقد منا، والجهاد إذا أمكن أفضل، لقوله عز وجل:«وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً» ثم مضى نجدة بأصحابه إلى اليمامة.
(1)
من بلاد نجد.
(2)
أى بعت، ويسمى الخوارج أنفسهم «الشراة» جمع شار كقاص وقضاة من شرى يشرى كرمى: بمعنى باع، لقولهم شرينا أنفسنا فى طاعة الله: أى بعناها ووهبناها، أخذا من قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» أو من شرى بمعنى اشترى لقولهم: شرينا الآخرة بالدنيا أى اشتريناها. قال عمران بن حطان:
إنى أدين بما دان الشراه به
…
يوم النخيلة عند الجوسق الخرب
«والجوسق كجعفر: القصر» يشير إلى قيام المستورد الخارجى بالنخيلة بعد وقعة النهروان. وقال الطرماح بن حكيم:
لله در الشراة إنهم
…
إذا الكرى مال بالطلا أرقوا
«والطلا: الأعناق أو أصولها جمع طلية أو طلاة، وكلها بانضم» وقال أيضا:
والنار لم ينج من روعاتها أحد
…
إلا المنيب بقلب المخلص الشارى
وقال معاذ بن جوين:
ألا أيها الشارون قد حان لامرئ
…
شرى نفسه لله أن يترحلا
(3)
فص الأمر: مفصله.
(4)
غوى بالفتح غيا وغوى بالكسر غواية.
قعد (1) المسلمين وضعفتهم، فقال جل ثناؤه، وقوله الحق، ووعده الصّدق:«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» ثم سمّاهم أحسن الأسماء، فقال:«ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (2)» .
ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال الله عزّ ذكره:«وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» * (3) وقال سبحانه فى القعد خيرا، وفضّل الله من جاهد عليهم، ولا تدفع منزلة أكثر الناس عملا منزلة من هو دونه (4)، أو ما سمعت قوله عز وجل:«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (5)» فجعلهم الله من المؤمنين، وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم.
ورأيت ألّا تؤدّى الأمانة إلى من خالفك، والله يأمر أن تؤدّى الأمانات إلى أهلها (6)، فاتّق الله وانظر لنفسك، واتّق يوما لا يجزى والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا فإن الله عز ذكره بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل، والسلام».
(الكامل للمبرد 2: 177، وشرح ابن أبى الحديد م 1 ص 382، والعقد الفريد 1: 214)
(1) القعد: اسم جمع قاعد كخدم وخادم، ويروى القعدة وهو جمع قاعد ككتبة وكاتب، ورجل ضعيف وضعوف وضعفان والجمع ضعاف وضعفاء وضعفة (بالتحريك) وضعفى (كقتلى) وضعا فى بالفتح.
(2)
أى ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل، وإنما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون فى سلك المحسنين غير معاتبين لذلك.
(3)
وزر يزر كوعد: أثم، والوزر: الإثم، أى ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
(4)
وفى رواية ابن أبى الحديد: «فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يرفع منزلة من هو دون المجاهدين» والعقد الفريد: «ولا يرفع أكثر الناس عملا منزلة عمن هو دونه إلا إذا اشتركا فى أصل» .
(5)
أى من عمى أو زمانة أو غيرها، وتمام الآية:«وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ (أى لضرر) دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ (أى لغير ضرر) أَجْراً عَظِيماً» .
(6)
قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» .