الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
261 - رد الحجاج على عبد الملك
«بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أمير المؤمنين، وخليفة ربّ العالمين، المؤيّد بالولاية، المعصوم من خطل (1) القول، وزلل الفعل، بكفالة الله الواجبة لذوى أمره، من عبد اكتنفته الزّلّة، ومدّ به الصّغار (2) إلى وخيم المرتع، ووبيل المكرع (3) من جائل قادح، ومعتزّ فادح (4)، والسلام عليك ورحمة الله التى اتسعت فوسعت، وكان بها التقوى إلى أهلها قائدا، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو راجيا لعطفك بعطفه (5).
أما بعد، كان الله لك بالدّعة (6) فى دار الزّوال، والأمن فى دار الزّلزال، فإنه من عنّت (7) به فكرتك يا أمير المؤمنين مخصوصا، فما هو إلا سعيد يؤثر، أو شقىّ يوتر (8)، وقد حجبنى عن نواظر السّعد لسان مرصد، ونافس (9) حقد، انتهز (10) به الشيطان حين الفكرة، فافتتح به أبواب الوسواس بما تحتويه الصدور، فواغوثاه! باستعاذة أمير المؤمنين من رجيم، إنّما سلطانه على الّذين يتولّونه، واعتصاما بالتوكل على من خصّه بما أجزل له من قسم (11) الإيمان وصادق السّنّة، فقد أراد اللّعين أن يفتق
(1) الخطل: المنطق الفاسد المضطرب، وقد خطل فى كلامه كفرح.
(2)
الصغار: الذل.
(3)
المكرع اسم مكان من كرع فى الماء كمنع: إذا تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء كما تفعل البهائم لأنها تدخل أكارعها فيه، كنى بهذا وبما قبله عن سوء العاقبة
(4)
من جائل، أى من عدو يجول ويدور بمذمتى، قادح: أى طاعن ذام، ومعتز أى بجاهه ومنزلته لدى أمير المؤمنين- فادح: من فدحه إذا أثقله، أى يثقلنى بما يفتريه على من الأباطيل.
(5)
فى الأصل «فإنى أحمد الله إليك- راجيا لعطفك بعطفه- الذى لا إله إلا هو» وقد أصلحته كما ترى وهو الأظهر عندى.
(6)
الدعة: الخفض والسعة فى العيش، ودار الزوال: الدنيا، ودار الزلزال: الآخرة.
(7)
عن: عرض، والمراد: عن بفكرتك، فقلب.
(8)
آثر إيثارا: فضله وقدمه ووتره: أفزعه وأدركه بمكروه
(9)
نفس عليه، بخير كفرح حسد، ونفس عليه الشىء نفاسة: لم يره أهلا له.
(10)
المراد: اختلى به، والوسواس مصدر وسوس كالوسوسة.
(11)
القسم: العطاء.
لأوليائه فتقا، نبا عنه كيده، وكثر عليه تحسّره، بلية قرع بها فكر أمير المؤمنين ملبّسا (1) وكادحا ومؤرّشا، ليفلّ من غربه (2) الذى نصبنى، ويصيب ثأرا لم يزل به مؤتزّا (3)، وأذكّره مامتّ (4) به الأوائل قديما حتى لحقت بمثله منهم، ممّا كنت أبلوه (5) من خسّة أقدار، ومزاولة أعمال، إلى أن وصلت ذلك بالتشرّط لروح ابن زنباع، وقد علم أمير المؤمنين- بفضل ما اختار الله له تبارك وتعالى من العلم المأثور الماضى- بأن الذى عيّر به القوم مصانعهم (6)، من أشدّ ما كان يزاوله أهل القدمة (7) الذين اجتبى الله منهم، وقد اعتصموا وامتعضوا (8) من ذكر ما كان، وارتفعوا بما يكون، وما جهل أمير المؤمنين- وللبيان موقعه غير محتج ولا متعدّ (9) - أنّ متابعة روح بن زنباع طريق إلى الوسيلة لمن أراد من فوقه، وأن روحا لم يلبسنى العزم الذى به رفعنى أمير المؤمنين عن خوله، وقد ألصقتنى بروح بن زنباع همّة لم تزل نواظرها ترمى بى البعيد، وتطالع الأعلام، وقد أخذت أمير المؤمنين نصيبا اقتسمه
(1) التلبيس: التخليط والتدليس، وفى الأصل «مبلسا» وأراه محرفا إذ المبلس هو المتحير واليائس والساكت عند انقطاع حجته، والساكت من الحزن أو الخوف، وذلك غير مناسب هنا. كادحا: جاد ساعيا، والتأريش: التحريش والإفساد، أرش بين القوم: أفسد بينهم وحمل بعضهم على بعض.
(2)
الغرب: الحد.
(3)
من ائتزت القدر: إذا اشتد غليانها، وفى الأصل «موترا» وأراه محرفا.
(4)
أى ما توسل. وفى الأصل «وأذكره قديما مامت به الأوائل» وقد أصلحته كما ترى.
(5)
أى أزاوله وأمارسه، وفى الأصل «حتى لحقت بمثله منهم وممن كنت أبلوه» وهو تحريف.
(6)
المصانع: جمع مصنعة: ما يصنعه الناس من الآبار والأبنية وغيرها، وقد تقدم فى كتاب عبد الملك إليه: «فمن حافر وناقل وماتح
…
» وفى كتاب سابق: «اذكر مكاسب آبائك بالطائف، إذ كانوا ينقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار والمناهل بأيديهم» .
(7)
القدمة: السابقة فى الأمر كالقدم بالتحريك، يقال: لفلان قدم صدق، أى سابق خير وأثر حسن، ومنه قوله تعالى «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وكذلك القدمة. واجتبى: اصطفى واختار.
(8)
أى غضبوا وشق عليهم.
(9)
غير محتج حال من البيان، وفى إسناده إلى البيان مجاز عقلى أى غير محتج صاحبه أو هو حال من المتكلم والجملة احتراس تأدبا فى مخاطبة عبد الملك، يعنى أنه يدلى ببيانه هذا فى غير احتجاج على أمير المؤمنين ولا تعد لحدود ما يجب عليه له من التوقير والتعظيم، وفى الأصل «ولا متعدد» وهو تحريف.
الإشفاق من سخطه، والمواظبة على موافقته، فما بقى لنا بعد إلا صبابة (1) وإرث به تجول النفس، وتطرف (2) النواظر، ولقد سرت بعين (3) أمير المؤمنين سير المثبّط لمن يتلوه، المتطاول لمن يقدمه، غير مبتّ موجف (4)، ولا متثاقل مجحف، ففتّ الطالب، ولحقت الهارب، حتى ثارت السّنّة (5)، وبادت البدعة، وخسئ الشيطان، وحملت الأديان إلى الجادّة العظمى، والطريقة المثلى، فهأنذا يا أمير المؤمنين نصب المسألة لمن رامنى، وقد عقدت الحبوة (6)، وقرنت الوظيفين لقائل محتجّ، أو لائم ملتجّ (7) وأمير المؤمنين ولىّ المظلوم، ومعقل الخائف، وستظهر له المحنّة (8) نبأ أمرى، ولكل نبأ مستقرّ، وما حفنت يا أمير المؤمنين فى أوعية ثقيف حتى روى الظمآن، وبطن الغرثان (9)، وغصّت الأوعية، وانقدّت الأوكية (10) فى آل مروان، فأخذت ثقيف فضلا (11) صار لها، لولاهم لقطته السائلة، ولقد كان ما أنكره أمير المؤمنين من تحاملى وكان ما لو لم يكن لعظم الخطب فوق ما كان، وإن أمير المؤمنين لرابع أربعة:
(1) الصبابة: البقية اليسيرة تبقى فى الإناء من الشراب، وفى الأصل «صابة» وهو تحريف والإرث: البقية من كل شىء.
(2)
طرف البصر كضرب: تحرك.
(3)
أى بحيث يرانى ويعلم أمرى، المثبط: ثبطه عن الأمر: عوقه وبطأ به عنه، وفى الأصل «المتثبط» وهو تحريف، وقدمه من باب نصر: تقدمه.
(4)
مبت، من أبت بعيره: إذا أجهده وأتعبه فى السير حتى قطعه وصاحبه منبت أى منقطع عن أصحابه، لأنه جد فى سيره حتى انبت أخيرا، ومنه الحديث الشريف «إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» وفى الأصل «غير متثبت» وهو تحريف. موجف، وجف الفرس والبعير وجيفا: عدا، وأوجفته: أعديته وهو العنق فى السير. وأجحف بالأمر: قارب الإخلال به.
(5)
ثارت: نهضت وهبت وعادت إلى ما كانت عليه. وخسئ: بعد وطرد.
(6)
احتبى: جمع بين ظهره وساقيه بثوب أو غيره، والاسم الحبوة بالكسر ويضم، والوظيف: مقدم الساق، والمعنى: قد تهيأت واستعددت لمن رام مساءلتى ونقاشى.
(7)
المراد به: لاج، أى متماد فى الخصومة يأبى أن ينصرف عنها.
(8)
محنه: اختبره كامتحنه، والاسم المحنة بالكسر.
(9)
الغرثان: الجائع، غرث كفرح: جاع، والبطنة بالكسر: امتلاء البطن من الطعام، بطن كفرح بطنا وبطنة، وبطن ككرم: عظم بطنه.
(10)
انقدت: انقطعت، والأوكية: جمع وكاء ككتاب وهو رباط القربة وغيرها، كنى بذلك عن امتلاء الأوعية واكتظاظها.
(11)
أى ما زاد وفضل.
أحدهم ابنة (1) شعيب النبى صلى الله عليه وسلم، إذ رمت بالظن غرض اليقين، تفرّسا فى النجىّ (2) المصطفى بالرسالة، فحقّ لها فيه الرجاء، وزالت شبهة الشك بالاختبار، وقبلها العزيز (3) فى يوسف، ثم الصّديق (4) فى الفاروق رحمة الله عليهما، وأمير المؤمنين فى الحجاج، وما حسد الشيطان يا أمير المؤمنين خاملا، ولا شرف بغير سجافكم (5)، غبطة (6) يا أمير المؤمنين الرّجيم أدبر منها، وله غواة ومرساة (7)، وقد قلّت
(1) هى صفوراء بنت شعيب زوج موسى عليهما السلام، يعنى أنها أشارت على أبيها أن يستأجر موسى قال تعالى فى شأن موسى معها:«وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ، قالَ ما خَطْبُكُما، قالَتا- لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقالَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ، قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا، فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قالَتْ إِحْداهُما: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» .
(2)
أى فى موسى الذى ناجاه الله.
(3)
هو قطفير العزيز الذى كان على خزائن مصر يشير إلى ما كان من امرأته زليخا إذ راودت يوسف عن نفسه فأبى. فاتهمته بأنه أراد بها سوءا، فسجن ثم حصحص الحق وظهرت براءته، فجعله الملك على خزائن أرضه، والقصة مشهورة، ويقال إن قدوم يوسف عليه السلام مصر كان فى عهد الأسرة السادسة عشرة مدة حكم الملوك الرعاة. ويقول المفسرون إن ملك مصر يومئذ كان الريان بن الوليد العمليقى.
(4)
يشير إلى اختيار أبى بكر لعمر رضى الله عنهما لتولى الخلافة قبل موته.
(5)
السجاف بالكسر والسجف بالفتح والكسر: الستر، والمعنى ولا شرف الخامل دون أن يكون فى كنفكم ويستظل بظلكم.
(6)
الغبطة: حسن الحال والمسرة.
(7)
المرساة: أنجر السفينة الذى ترسى به، وهو أنجر ضخم (خشبات يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة) يشد بالحبال ويرسل فى الماء فيمسك السفينة ويرسيها حتى لا تسير، كنى بذلك عن شدة تمكن الشيطان من أوليائه أولئك الذين يدسون له عند الخليفة ويكيدون له.
حيلته، ووهن (1) كيده يوم كيت وكيت، ولا أظن أذكر لها من أمير المؤمنين، ولقد سمعت لأمير المؤمنين فى صالح صلوات الله عليه، وفى ثقيف مقالا هجم بى الرّجاء لعدله عليه، بالحجّة فى ردّه بمحكم التنزيل على لسان ابن عمه خاتم النبيين وسيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر عن الله عز وجل وحكاية غرّ الملأ (2) من قريش عند الاختيار والافتخار، وقد نفخ الشيطان فى مناخرهم، فلم يدعوا خلف ما قصدوا إليه مواسى (3)، «وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين (4) عظيم» فوقع اختيارهم- عند المباهاة بنفخة الكبر وكبر الجاهلية- على الوليد ابن المغيرة المخزومى وأبى مسعود (5) الثقفى، فصارا فى الافتخار بهما صنوين (6)، ما أنكر اجتماعهما من الأمة منكر، فى مدّ صوت القرآن، ومبلّغ الوحى، وإن كان ليقال للوليد فى الأمة يومئذ «ريحانة قريش» ، وما ردّ ذلك العزيز تعالى إلا بالرحمة الشاملة فى القسم السابق؛ فقال عز وجل:«أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ، نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» ، وما قدّمتنى يا أمير المؤمنين ثقيف فى الاحتجاج لها، وإنّ لها مقالا رحبا، ومعاندة قديمة، إلا أن هذا من أيسر ما يحتجّ
(1) وهن: ضعف، وفعله كوعد وورث وكرم، وكيت وكيت ويكسر آخرهما: أى كذا وكذا.
(2)
الملأ: الجماعة. والغر: المشهورون، جمع أغر.
(3)
المواساة: المشاركة، والتسوية، وأصلها الهمزة فقلبت واوا تخفيفا، ويقال ما يؤاسى فلان فلانا:
أى ما يشاركه، وآسيته بنفسى: سويته (وآسيته بمالى: أنلته منه وجعلته فيه أسوة بكسر الهمزة وضمها أى قدوة)، وفى الحديث:«ما أحد عندى أعظم يدا من أبى بكر، آسانى بنفسه وماله» وقد تقدم فى الجزء الأول فى كتاب عمر إلى أبى موسى: «آس بين الناس فى وجهك ومجلسك وعدلك» أى سو بينهم واجعل كل واحد منهم أسوة خصمه. وفى كتاب على عليه السلام «آس بينهم فى اللحظة والنظرة» فمعنى الجملة: أنهم حين اختيارهم لم يدعوا وراء ما قصدوا إليه محلا للتسوية بين من اختاروهم وبين غيرهم، فاختاروا رجلين لا يسوى بهما غيرهما ولا يشاركهما أحد فى السودد ورفعة القدر، وفى الأصل «موسى» وهو تحريف وصوابه «مواسى كما رأيت» .
(4)
مكة والطائف.
(5)
هو عروة بن مسعود الثقفى.
(6)
إذا خرجت نخلتان أو ثلاث من أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو، والاثنان صنوان، والجمع صنوان برفع النون.