الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويذكرونهم الجنة ودرجاتها، ونعيم أهلها (1) وسكانها، ويقولون: اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم (2)، وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتعبئة جندك، ووضعهم مواضعهم من راياتك (3)، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سنّ وتجربة ونجدة على التعبئة التى أمير المؤمنين واصفها لك فى آخر كتابه هذا فافعل إن شاء الله تعالى.
أيّدك الله بالنصر، وغلب لك على القوة، وأعانك على الرشد، وعصمك من الزّيغ، وأوجب لمن استشهد (4) معك ثواب الشهداء، ومنازل الأصفياء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب سنة تسع وعشرين ومائة (5).
(اختيار المنظوم والمنثور 12: 201، وصبح الأعشى 10: 195، ومفتاح الأفكار ص 230)
506 - رسالة عبد الحميد إلى الكتاب
وكتب عبد الحميد رسالة إلى الكتّاب يوصيهم فيها، قال:
«أما بعد، حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفّقكم وأرشدكم، فإن الله عز وجل جعل النّاس بعد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرّمين، أصنافا، وإن كانوا فى الحقيقة سواء، وصرّفهم فى صنوف الصناعات وضروب المحاولات، إلى أسباب معايشهم (6)، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتّاب فى أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءة (7) والعلم والرواية (8)،
(1) فيه «ويذكرونهم الجنة ورخاء أهلها وسكانها» .
(2)
هذه الجملة ساقطة منه.
(3)
فى صبح الأعشى «من رأيك» وهو تحريف.
(4)
استشهد بالبناء للمجهول: قتل فى سبيل الله.
(5)
قدمنا فى أول هذه الرسالة أن قتال عبد الله بن مروان وأبيه مع الضحاك بن قيس كان سنة 128 هـ. وقال الطبرى: وقيل إن الضحاك إنما قتل سنة 129 هـ- انظر تاريخ الطبرى 6: 77
(6)
فى مقدمة ابن خلدون «معاشهم» .
(7)
فيها «والمروءات» .
(8)
فيها «والرزانة» .
بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلادهم (1)، لا يستغنى الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التى بها يسمعون، وأبصارهم التى بها يبصرون، وألسنتهم التى بها ينطقون، وأيديهم التى بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه (2) من النعمة عليكم.
وليس أحد من أهل الصناعات كلّها، أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة، منكم أيّها الكتّاب إذا كنتم على ما يأتى فى هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذى يثق به فى مهمات أموره. أن يكون حليما فى موضع الحلم، فهيما فى موضع الحكم، مقداما فى موضع الإقدام، محجاما فى موضع الإحجام، مؤثرا للعفاف، والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيّا عند الشدائد، عالما بما يأتى من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق أماكنها، قد نظر فى كل فنّ من فنون العلم فأحكمه فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفى به، يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعدّ لكل أمر عدّته وعتاده (3)، ويهيّئ لكل وجه هيئته وعادته.
فتنافسوا يا معشر الكتاب، فى صنوف الآداب، وتفقّهوا فى الدين؛ وابدوءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربيّة، فإنها ثقاف (4) ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط؛ فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم، وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسموا إليه هممكم، ولا تضيّعوا النظر فى الحساب، فإنه قوام كتّاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع:
(1) فيها «بلدانهم» .
(2)
أسبغه.
(3)
العتاد: العدة.
(4)
الثقاف فى الأصل: ما تسوى به الرماح.
سنيّها (1) ودنيّها، وسفساف (2) الأمور ومحاقرها، فإنها مذلّة للرّقاب، مفسدة للكتّاب، ونزّهوا صناعتكم عن الدّناءات (3)، واربئوا (4) بأنفسكم عن السّعاية والنميمة، وما فيه أهل الجهالات، وإياكم والكبر والصّلف (5) والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة، وتحابّوا فى الله عز وجل فى صناعتكم، وتواصوا عليها بالذى هو أليق بأهل الفضل والعدل والنّبل من سلفكم.
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه، حتى يرجع إليه حاله، ويثوب (6) إليه أمره، وإن أقعد أحدكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه. فزوروه وعظّموه، وشاوروه، واستظهروا (7) بفضل تجربته، وقدم (8) معرفته، وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه، أحفظ (9) منه على ولده وأخيه، فإن عرضت فى الشغل محمدة، فلا يضيفها (10) إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمّة فليحملها هو من دونه، وليحذر السّقطة والزّلّة، والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشر الكتاب. أسرع منه إلى الفراء. وهو لكم أفسد منه لها.
فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل (11) يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقّه. فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره. واحتماله وصبره (12). ونصيحته وكتمان سره، وتدبير أمره، ما هو جزاء لحقه، ويصدّق ذلك بفعاله (13) عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى مالديه.
فاستشعروا ذلكم- وفّقكم الله- من أنفسكم فى حالة الرّخاء والشدة، والحرمان والمواساة والإحسان، والسّرّاء والضّرّاء، فنعمت الشّيمة هذه لمن وسم بها، من أهل
(1) أى رفيعها.
(2)
الردئ من كل شىء.
(3)
فى المقدمة «الدناءة» .
(4)
ربأ: علا وارتفع.
(5)
فيها «والسخف» .
(6)
يرجع.
(7)
تقووا.
(8)
فيها «وقديم» .
(9)
فيها «أحوط» .
(10)
فيها «فلا يصرفها» .
(11)
فيها «إذا صحبه من يبذل له» .
(12)
فيها «وخيره» .
(13)
فيها «تبعا له» وهو تحريف.
هذه الصناعة الشريفة، فإذا ولّى الرجل منكم، أو صيّر إليه من أمر خلق الله وعياله أمر، فليراقب الله عز وجل، وليؤثر طاعته وليكن على الضعيف رفيقا، وللمظلوم منصفا، فإن الخلق عيال الله، وأحبّهم إليه أرفقهم بعياله، ثم ليكن بالعدل حاكما، وللأشراف مكرما، وللفىء موفّرا، وللبلاد عامرا وللرّعية متألّفا، وعن إيذائهم متخلفا، وليكن فى مجلسه متواضعا حليما، وفى سجلّات خراجه، واستقضاء حقوقه رفيقا، وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها، أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح، بألطف حيلة وأجمل وسيلة، وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها، التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحا (1) لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبا (2) اتّقاها من قبل يديها، وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونا قمع برفق هواها فى طريقها، فإن استمرت عطفها يسيرا، فيسلس له قيادها، وفى هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم، وجرّبهم (3) وداخلهم.
والكاتب بفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته، أولى بالرّفق بصاحبه، ومداراته، وتقويم أوده، من سائس البهيمة التى لا تحير (4) جوابا، ولا تعرف صوابا، ولا تفهم خطابا، إلا بقدر ما يصيّرها إليه صاحبها الراكب عليها، ألا فأمعنوا (5) - رحكم الله- فى النظر، وأعملوا فيه ما أمكنكم من الرويّة والفكر، تأمنوا (6) بإذن الله ممن صحبتموه النّبوة، والاستثقال والجفوة، ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله تعالى.
(1) رمحه الفرس كمنع: رفسه.
(2)
شب الفرس كضرب ونصر: رفع يديه، وفى المقدمة «من بين يديها» .
(3)
وفى صبح الأعشى «وخدمهم» .
(4)
أى لا ترد.
(5)
فيها «فارفقوا» .
(6)
تأمنوا: مجزوم فى جواب الأمر: أو بعبارة أخرى جواب لشرط محذوف مع فعل الشرط أى «إن تعملوا
…
تأمنوا» ومن ثم يجوز فى «ويصير» ثلاثة أوجه: الجزم والنصب والرفع كما هو مشهور، فقول بعضهم:«ولعل ثبوت الياء قبل الراء من زيادة الناسخ» مردود.
ولا يجاوزنّ الرجل منكم- فى هيئة مجلسه، وملبسه ومركبه، ومطعمه ومشربه، وبنائه (1)، وخدمه، وغير ذلك من فنون أمره- قدر حقه، فإنكم- مع ما فضّلكم الله به من شرف صنعتكم- خدمة لا تحملون فى خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير، واستعينوا على عفافكم بالقصد فى كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السّرف، وسوء عاقبة التّرف، فإنهما يعقبان الفقر، ويذلّان الرقاب، ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتّاب وأرباب الآداب، وللأمور أشباه، وبعضها دليل على بعض، فاستدلّوا على مؤتنف (2) أعمالكم، بما سبقت إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجّة، وأصدقها حجّة، وأحمدها عاقبة.
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهى الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته (3)، فليقصد الرجل منكم فى مجلسه قصد الكافى من منطقه، وليوجز فى ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه، فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للتشاغل عن إكثاره، وليضرع إلى الله فى صلة توفيقه، وإمداده بتسديده، مخافة وقوعه فى الغلط المضرّ ببدنه وعقله وأدبه، فإنه إن ظن منكم ظانّ، أو قال قائل: إن الذى برز من جميل صنعته، وقوة حركته، إنما هو بفضل حيلته، وحسن تدبيره، فقد تعرض بظنه (4) أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمّله غير خاف.
ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور، وأحمل لعبء التدبير، من مرافقه فى صناعته، ومصاحبه فى خدمته، فإن أعقل الرجلين عند ذوى الألباب، من رمى
(1) قد يكون المراد به مسكنه الذى يبنيه، وقد يكون المراد زفافه، من بنى على أهله وبها بناء وابتنى: زفها.
(2)
مبتدأ.
(3)
فيها «علمه ورويته» .
(4)
فيها «بحسن ظنه» .