الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالعجب وراء ظهره، ورأى أن صاحبه أعقل منه، وأحمد (1) فى طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جلّ ثناؤه، من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه، ولا تكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره، وحمد الله واجب على الجميع، وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلّل لعزّته، والتحدّث بنعمته.
وأنا أقول فى كتابى هذا ما سبق به المثل: «من يلزم النصيحة (2) يلزمه العمل» وهو جوهر هذا الكتاب، وغرّة كلامه، بعد الذى فيه من ذكر الله عز وجل، فلذلك جعلته آخره، وتمّمته به، تولّانا الله وإياكم يا معشر الطّلبة والكتبة، بما يتولّى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
(صبح الأعشى 1: 85، ومقدمة ابن خلدون ص 275، وكتاب الوزراء والكتاب ص 70)
507 - رسالة عبد الحميد فى الشطرنج
«أما بعد: فإن الله شرع دينه بإنهاج (3) سبله، وإيضاح معالمه بإظهار فرائضه، وبعث رسله إلى خلقه دلالة لهم على ربوبيّته، واحتجاجا عليهم برسالاته، وتقدّما إليهم بإنذاره ووعيده، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حىّ عن بيّنة، ثم ختم بنبيه صلى الله عليه وسلم وحيه، وقفّى به رسله، وابتعثه لإحياء دينه الدارس (4)، مرتضيا له على حين انطمست الأعلام مختفية، وتشتّتت السّبل متفرقة، وعفت آثار الدين دارسة، وسطع رهج (5) الفتن، واعتلى قتام الظّلم، واستنهد (6)
(1) فيها «وأجمل» .
(2)
فى نسخة من صبح الأعشى «الصحة» وذكر الجاحظ فى البيان والتبيين (2: 46) قال: ومن كلام الأحنف السائر فى أيدى الناس «الزم الصحة يلزمك العمل» .
(3)
أنهج: أوضح (ووضح أيضا) وكذا نهج كمنع تستعمل بالمعنيين.
(4)
درس الأثر كدخل: عفا وامجى.
(5)
الرهج بالفتح وبالتحريك: الغبار، وكذا القتام
(6)
فى كتب اللغة: نهد الرجل: نهض، وليس فيها الصيغة المزيدة.
الشّرك، وأسدف (1) الكفر، وظهر أولياء الشيطان، لطموس الأعلام، ونطق زعيم الباطل؛ لسكتة الحق، واستطرق (2) الجور، واستنكح الصّدوف عن الحق، واقمطرّ سلهب (3) الفتنة، واستضرم (4) لقاحها، وطبّقت الأرض ظلمة كفر وغبابة فساد، فصدع (5) بالحق مأمورا، وبلّغ الرسالة معصوما، ونصح الإسلام وأهله، دالّا لهم على المراشد، وقائدا لهم إلى الهداية، ومنيرا لهم أعلام الحق، ضاحية (6)، مرشدا لهم إلى استفتاح باب الرحمة، وإعلان عروة النجاة، موضّحا لهم سبل الغواية (7)، زاجرا لهم عن طريق الضلالة، محذّرا لهم الهلكة، موعزا إليهم فى التّقدمة (8)، ضاربا لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخشون، وما إليه يسارعون ويطلبون، صابرا نفسه على الأذى والتكذيب، داعيا لهم بالترغيب والترهيب، حريصا عليهم، متحنّنا على كافّتهم، عزيزا عليه عنتهم (9)، رءوفا بهم رحيما، تقدّمه شفقته عليهم وعنايته برشدهم، إلى تجريد الطلب إلى ربه، فيما فيه بقاء النعمة عليهم، وسلامة أديانهم، وتخفيف أواصر (10) الأوزار عنهم، حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه وسلم ناصحا متنصّحا (11)، أمينا مأمونا، قد بلّغ الرسالة، وأدّى النصيحة، وقام بالحق، وعدّل عمود الدين. حتى اعتدل ميله، وأذلّ الشرك وأهله، وأنجز الله له وعده، وأراه صدق أسبابه فى إكماله للمسلمين دينه، واستقامة سنّته فيهم، وظهور شرائعه عليهم، قد أبان لهم موبقات (12) الأعمال، ومفظعات الذنوب، ومهبطات الأوزار، وظلم
(1) أسدف الليل: أظلم.
(2)
استطرقه فحلا: طلب منه أن يعيره إباه ليطرق إبله، وطرق الفحل الناقة: قعا عليها وضربها، ومعنى استطرق هنا: استفاض وفشا، واستنكح المرأة: نكحها.
(3)
قمطر: اشتد، والسلهب: الطويل من الخيل والناس.
(4)
فى كتب اللغة: استضرم النار: أوقدها، فاضطرمت وانضرمت، وطبقه: غطاه.
(5)
صدع به: جهر.
(6)
أى واضحة ظاهرة، من ضحا إذا برز للشمس.
(7)
أى موضحا لهم ما فيها من الضرر والأذى ليتنكبوا عنها.
(8)
أى فى أن يقدموا العمل الصالح.
(9)
العنت: الوقوع فى أمر شاق.
(10)
الأواصر. جمع آصرة، وهى حبل صغير يشد به أسفل الخباء.
(11)
التنصح: كثرة النصح، ومنه قول أكتم بن صيفى «إياكم وكثرة التنصح فإنه يورث النهمة» .
(12)
أى مهلكات، من أوبقه أى أهلكه، وفظع الأمر ككرم وأفظع: اشتدت شناعته وجاوز المقدار فى ذلك، ومهبطات الأوزار: أى الأوزار التى تهبط صاحبها وتحط قدره.
الشّبهات، وما يدعو إليه نقصان الأديان، وتستويهم به الغوايات، وأوضح لهم أعلام الحق، ومنازل المراشد، وطرق الهدى، وأبواب النجاة، ومعالق العصمة، غير مدّخر لهم نصحا، ولا مبتغ فى إرشادهم غنما.
فكان مما قدّم إليهم فيه نهيه، وأعلمهم سوء عاقبته، وحذّرهم إصره (1) وأوعز إليهم ناهيا وواعظا وزاجرا، الاعتكاف على هذه التماثيل من الشّطرنج (2)، والمواصلة عليها؛ لما فى ذلك من عظيم الإثم، وموبق الوزر، مع مشتغلتها عن طلب المعاش، وإضرارها بالعقول، ومنعها من حضور الصّلوات فى مواقيتها مع جميع المسلمين.
وقد بلغ أمير المؤمنين أن ناسا ممن قبلك من أهل الإسلام قد ألهجهم (3) الشيطان بها، وجمعهم عليها، وألّف بينهم فيها، فهم معتكفون عليها من لدن صبحهم إلى ممساهم (4)، ملهية لهم عن الصلوات، شاغلة لهم عما أمروا به من القيام بسنن دينهم، وافترض عليهم من شرائع أعمالهم، مع مداعبتهم فيها، وسوء لفظهم عليها، وإن ذلك من فعلهم ظاهر فى الأندية والمجالس، غير منكر ولا معيب، ولا مستفظع عند أهل الفقه، وذوى الورع والأديان والأسنان منهم، فأكبر أمير المؤمنين ذلك وأعظمه، وكرهه واستكبره، وعلم أن الشيطان عند ما يئس من بلوغ إرادته فى معاصى
(1) الإصر: الذنب.
(2)
جاء فى المصباح «الشطرنج معرب، قيل بالفتح وقيل بالكسر وهو المختار قال ابن الجواليقى فى كتاب ما تلحن فيه العامة: «ومما يكسر والعامة نفتحه أو تضمه الشطرنج بكسر الشين، قالوا وإنما كسر ليكون نظير الأوزان العربية مثل جردحل، إذ ليس فى الأبنية العربية فعلل بالفتح حتى يحمل عليه» - والجردحل: الوادى- وجاء فى شفاء الغليل «قال الحريرى بفتح الشين والقياس كسرها لأنهم لم يقولوا فعلل بفتح الفاء، وقيل إن ابن القطاع نقله عن سيبويه ومثل له ببرطح، وهو حزام الدابة، ويقال بالسين والتين والمعروف فيه الفتح، وقال الواحدى: الكسر أحسن ليكون كجردحل، وقيل هو عربى من المشاطرة لأن لكل شطرا ومنهم من جعله أشطرا، والصحيح أنه معرب صدرنك أى مائة حيلة، والمقصود التكثير، وقيل معرب شدرنج أى من اشتغل به ذهب عناؤه باطلا» أقول: والقول بعربيته إنما هو من تمحل بعض الفقهاء اللغويين؛ وتحيلهم فى صبغ الكلمات الأعجمية بصبغ عربى.
(3)
أى أغراهم بها، من لهج بالأمر كفرح، أى أغرى به فثابر عليه.
(4)
الممسى: الإمساء.
الله عز وجل بمصر المسلمين ومجمعهم صراحا (1) وجهارا، أقدم بهم على شبهة مهلكة، وزين لهم ورطة موبقة، وغرّهم بمكيدة حيله، إرادة لاستهوائهم بالخدع، واحتيالهم (2) بالشّبه والمراصد الخفيّة المشكلة، وكل مقيم على معصية الله صغرت أو كبرت مستحلّا لها مشيدا (3) بها، مظهرا لارتكابه إياها، غير حذر من عقاب الله عز وجل عليها، ولا خائف مكروها فيها، ولا رعيب (4) من حلول سطوته عليها، حتى تلحقه المنية، فتختلجه وهو مصرّ عليها، غير تائب إلى الله منها، ولا مستغفر من ارتكابه إياها، فكم قد أقام على موبقات الآثام وكبائر الذنوب حتى حدّه مخترم (5) أيامه.
وقد أحب أمير المؤمنين أن يتقدم إليهم فيما بلغه عنهم، ويوعز إليهم ويعلمهم ما فى أعناقهم عليها، وما لهم فى قبول ذلك (6) من الحظ، وعليهم فى تركه من الوزر، فآذن (7) بذلك فيهم، وأشده فى أسواقهم. وجميع أنديتهم، وأوعز إليهم فيه، وتقدّم إلى عامل شرطتك: فى إنهاك (8) العقوبة لمن رفع إليه من أهل الاعتكاف عليها، والإظهار للّعب بها، وإطالة حبسه فى ضيق وضنك، وطرح اسمه من ديوان أمير المؤمنين، وأفطمهم عما لهجوا (9) به من ذلك، والتمس بشدتك عليهم فيه وإنها كك بالعقوبة عليه ثواب الله وجزاءه، واتباع أمير المؤمنين ورأيه، ولا يجدنّ أحد عندك هوادة فى التقصير فى حق الله عز وجل، والتعدى لأحكامه،
(1) الصراح بالضم والكسر: المصارحة.
(2)
اجتالهم: حولهم عن قصدهم.
(3)
أشاده وأشاد به: أشاعه ورفع ذكره.
(4)
أى مرعوب، رعبه كمنعه خوفه فهو مرعوب ورعيب، وفى الأصل «رعب» وهو تحريف
(5)
هو الموت، اخترمته المنية: أخذته واقتطعته، وفى الأصل «محزم» ، وحدّه: دفعه ومنعه، وفى الأصل «مدبه» وأراه محرفا وصوابه «حده أو صده» .
(6)
أى وما لهم فى قبول ذلك النصح الذى تقدم به إليهم من الحظ، وما عليهم فى تركه من الوزر.
(7)
آذنه الأمر وبه: أعلمه.
(8)
نهكه السلطان عقوبة كسمع وأنهكه: بالغ فى عقوبته.
(9)
فى الأصل «نهجوا به» وهو تحريف.