الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونصحا، فأنزل كتابى إليك كمداوى حبيبه بسقيه الأدوية الكريهة، لما يرجو له فى ذلك من العافية والصحة، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته».
(العقد الفريد 1: 12، والحسن البصرى لابن الجوزى ص 56)
424 - رسالة الحسن البصرى إلى عمر بن عبد العزيز
وكتب الحسن البصرى إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله:
«أما بعد، اعلم يا أمير المؤمنين أن الدنيا دار ظعن (1)، وليست بدار إقامة، وإنما أهبط إليها آدم من الجنة عقوبة، وقد يحسب من لا يدرى ما ثواب الله أنها ثواب، ومن لم يدر ما عقاب الله أنها عقاب، ولها فى كل حين صرعة، وليست صرعة كصرعة هى تهين من أكرمها، وتذل من أعزّها، وتصرع من آثرها، ولها فى كل حين قتلى، فهى كالسمّ يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه، فالزاد فيها تركها، والغنى فيها فقرها، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوى جرحه: يصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء ويحتمى قليلا، مخافة ما يكره طويلا، فإن أهل الفضائل كانوا منطقهم فيها بالصواب، ومشيهم بالتواضع، ومطعمهم الطيّب من الرزق، مغمضى أبصارهم عن المحارم، فخوفهم فى البرّ كخوفهم فى البحر، ودعاؤهم فى السّرّاء كدعائهم فى الضّرّاء، لولا الآجال التى كتبت لهم، ما تقاوت أرواحهم فى أجسادهم خوفا من العقاب، وشوقا إلى الثواب، عظم الخالق فى نفوسهم، فصغر المحلوقون فى أعينهم.
واعلم يا أمير المؤمنين أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، وأن الندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيرا بأهل أن يؤثر على ما يبقى وإن كان طلبه عزيزا، واحتمال المئونة المنقطعة التى تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مئونة باقية، وندامة طويلة، فاحذر هذه الدنيا الصارعة الخاذلة
(1) ارتحال:
القاتلة التى قد تزيّنت بخدعها، وفتكت بغرورها، وخدعت بآمالها، فأصبحت كالعروس المجلوّة؛ فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة (1)، والنفوس لها عاشقة، وهى لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقى بالماضى معتبر، ولا الآخر لما رأى من أثرها على الأول مزدجر، ولا العارف بالله المصدق له حين أخبره عنها مدّكر، قد أبت القلوب لها إلا حبّا، وأبت النفوس لها إلا عشقا، ومن عشق شيئا لم يلهم غيره، ولم يعقل سواه، مات فى طلبه، وكان آثر الأشياء عنده فهما عاشقان طالبان مجتهدان؛ فعاشق قد ظفر منها بحاجته فأغنته، وطغى ونسى ولها، فغفل عن مبتدإ خلقه، وضيّع ما إليه معاده، فقلّ فى الدنيا لبثه حتى زالت عنه قدمه، وجاءته منيّته على أسرّ ما كان منها حالا وأطول ما كان فيها أملا، فعظم ندمه، وكثرت حسرته، مع ما عالج من سكرته، فاجتمعت عليه سكرة الموت بكربته، وحسرة الفوت بغصّته، فغير موصوف ما نزل به. وآخر مات من قبل أن يظفر منها بحاجته، فمات بغمّه وكمده، ولم يدرك فيها ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنّصب، فخرجا جميعا بغير زاد، وقدما على غير مهاد. فاحذرها يا أمير المؤمنين الحذر كلّه، فإنما مثلها كمثل الحيّة، ليّن مسّها، تقتل بسمّها، فأعرض عما يعجبك فيها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها، لما قد أيقنت من فراقها، واجعل شدة ما اشتدّ منها رجاء ما ترجو بعدها، وكن- عند أسرّ ما تكون فيها- أحذر ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأنّ منها إلى سرور، صحبته من سرورها بما يسوءه، وكلما ظفر منها بما يحب انقلبت عليه بما يكره، فالسارّ منها لأهلها غارّ، والنافع منها غدا ضارّ، وقد وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها مؤدّيا إلى الفناء، فسرورها بالحزن مشوب، والناعم فيها مسلوب.
(1) من الوله بالتحريك، وهو ذهاب العقل من شدة الوجد.
فانظر يا أمير المؤمنين إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر المبتلى العاشق، واعلم أنها تزيل الثّاوى (1) الساكن، وتفجع المترف فيها الآمن، ولا ترجع ما تولّى وأدبر، ولا بدّ ما هو آت منها ينتظر، ولا يتبع ما صفا منها إلا كدر، فاحذرها فإن أمانيّها كاذبة، وآمالها باطلة، وعيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة فادحة (2)، وإما منيّة قاضية، فلقد كدّرت المعيشة لمن عقل، فهو من نعيمها على خطر، ومن بليّتها على حذر، ومن المنية على يقين.
فلو كان الخالق تبارك وتعالى لم يخبر عنها بخبر، ولم يضرب لها مثلا، ولم يأمر فيها بزهد، لكانت الدنيا قد أيقظت النائم، ونبّهت الغافل، فكيف وقد جاء عن الله عز وجل منها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عنده قدر ولا وزن من الصّغر، فلهى عنده أصغر من حصاة فى الحصى، ومن مقدار نواة فى النّوى، ما خلق الله عز وجل فيما بلغنا أبغض إلى الله تعالى منها، ما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها، لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها- مع مالا ينقصه الله شيئا مما عنده كما وعده- إلا أنه علم أن الله عز وجل أبغض شيئا فأبغضه، وصغّر شيئا فصغّره، ولو قبلها كان الدليل على محبته قبوله إياها، ولكنه كره أن يخالف أمره، أو يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه.
وكان فى آخر هذه الرسالة:
ولا تأمن أن يكون هذا الكلام حجّة عليك، نفعنى الله وإياك بالموعظة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. (سيرة عمر لابن الجوزى ص 121)
(1) الثاوى: المقيم.
(2)
فدحه: أثقله.