الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
258 - كتاب عبد الملك إلى الحجاج
وروى صاحب العقد الفريد قال:
حدّث سعيد بن جويرية قال: خرجت خارجة على الحجّاج بن يوسف، فأرسل إلى أنس بن مالك أن يحرج معه فأبى، فكتب إليه يشتمه، فكتب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان يشكوه، وأدرج كتاب الحجاج فى جوف كتابه.
قال إسماعيل بن عبد الله بن أبى المهاجر: بعث إلىّ عبد الملك بن مروان فى ساعة لم يكن يبعث إلىّ فى مثلها، فدخلت عليه، وهو أشدّ ما كان حنقا وغيظا، فقال:
يا إسمعيل، ما أشدّ علىّ أن تقول الرعية: ضعف أمير المؤمنين، وضاق ذرعه فى رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، لا يقبل له حسنة، ولا يتجاوز له عن سيّئة.
فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أنس بن مالك خادم رسول الله كتب إلىّ يذكر أن الحجاج قد أضرّ به، وأساء جواره، وقد كتبت فى ذلك كتابين: كتابا إلى أنس بن مالك والآخر إلى الحجاج، فاقبضهما ثم اخرج على البريد، فإذا وردت العراق فابدأ بأنس بن مالك، فادفع له كتابى، وقل له: اشتدّ على أمير المؤمنين ما كان من الحجاج إليك، ولن يأتى إليك أمر تكرهه إن شاء الله، ثم ائت الحجاج فادفع إليه كتابه وقل له: قد اغتررت بأمير المؤمنين غرّة لا أظنه يخطئك شرّها، ثم افهم ما يتكلم به، وما يكون منه، حتى تفهمنى إياه إذا قدمت علىّ إن شاء الله.
قال إسماعيل: فقبضت على الكتابين وخرجت على البريد، حتى قدمت العراق فبدأت بأنس بن مالك فى منزله، فدفعت إليه كتاب أمير المؤمنين، وأبلغته رسالته، فدعا له وجزاه خيرا، فلما فرغ من قراءة الكتاب، قلت له: أبا حمزة، إن الحجاج عامل، ولو وضع لك فى جامعة (1) لقدر أن يضرّك وينفعك. فأنا أريد أن تصالحه
(1) الجامعة: القيد.
قال: ذلك إليك. لا أخرج عن رأيك، ثم أتيت الحجاج، فلما رآنى رحّب بى وقال: والله لقد كنت أحبّ أن أراك فى بلدى هذا، قلت: وأنا والله قد كنت أحبّ أن أراك، وأقدم عليك بغير الذى أرسلت به إليك، قال: وما ذاك؟ قلت:
فارقت الخليفة وهو أغضب الناس عليك، قال: ولم؟ قال: فدفعت إليه الكتاب، فجعل يقرؤه وجبينه يعرق، فيمسحه بيمينه، ثم قال: اركب بنا إلى أنس بن مالك، قلت له: لا تفعل، فإنى سأتلطّف به حتى يكون هو الذى يأتيك- وذلك للّذى أشرت عليه من مصالحته- قال: فألقى كتاب أمير المؤمنين، فإذا فيه:
*** «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد: فإنك عبد طمت (1) بك الأمور فطغيت، وعلوت فيها حتى جزت قدرك، وعدوت طورك (2)، وايم الله يا بن المستفرمة (3) بعجم زبيب الطائف، لأغمزنّك كبعض غمزات اللّيوث الثّعالب، ولأركضنّك ركضة تدخل منها فى وجارك (4)، اذكر مكاسب آبائك بالطائف، إذ كانوا ينقلون الحجارة على أكتافهم، ويحفرون الآبار والمناهل (5) بأيديهم، فقد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم والضّراعة (6)، وقد بلغ أمير المؤمنين استطالة منك على أنس ابن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جرأة منك على أمير المؤمنين، وغرّة
(1) ورواية صبح الأعشى «علت» وهى بمعناها، من طمى الماء إذا علا، والنبت إذا طال: أى ارتقى منصبك فى الدولة فطغيت، وفى غرر الخصائص «طفت» أى علت أيضا.
(2)
أى وجاوزت حدك.
(3)
انظر هامش ص 183.
(4)
الوجار فى الأصل: جحر الضبع وغيرها، وفى صبح الأعشى «فى وجعاء أمك» والوجعاء كحمراء: الدبر.
(5)
المناهل: جمع منهل كمقعد وهو المشرب، وفى صبح الأعشى «والمناهر» جمع منهر كمقعد أيضا وهو موضع النهر.
(6)
الذل.
بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله، وعمد إلى غير محجّته (1)، ونزل عند سخطته.
وأظنّك أردت أن تروزه (2) بها؛ لتعلم ما عنده من التغيير والنكير فيها، فإن سوّغتها (3) مضيت قدما، وإن غصصت بها ولّيت دبرا، فعليك لعنة الله من عبد أخفش (4) العينين، أصكّ الرّجلين، ممسوح الجاعرتين، وايم الله لو أن أمير المؤمنين علم أنك اجترمت منه جرما، وانتهكت له عرضا فيما كتب به إلى أمير المؤمنين، لبعث إليك من يسحبك ظهرا لبطن، حتى ينتهى بك إلى أنس بن مالك، فيحكم فيك بما أحبّ، ولن يخفى على أمير المؤمنين نبؤك (5)، ولكلّ نبإ مستقرّ وسوف تعلمون».
قال إسماعيل: فانطلقت إلى أنس فلم أزل به حتى انطلق معى إلى الحجاج، فلما دخلنا عليه قال: يغفر الله لك أبا حمزة، عجلت باللّائمة، وأغضبت علينا أمير المؤمنين! ثم أخذ بيده، فأجلسه معه على السرير، فقال أنس: إنك كنت تزعم أنّا الأشرار! والله سمّانا الأنصار، وقلت: إنّا من أبخل الناس! والله يقول فينا: «وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (6)» وزعمت أنّا أهل نفاق! والله تعالى يقول فينا: «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا» . فكان المخرج والمشتكى فى ذلك
(1) المحجة: جادة الطريق، وفى العقد الفريد «محبته» .
(2)
رازه روزا: جربه، وفى غرر الخصائص:«وركبت داهية دهماء أردت أن تروزنى بها، فإن سوغتكها مضيت قدما، وإن لم أفعل رجعت القهقرى» .
(3)
يقال: سوغه ما أصاب: أى تركه له خالصا، والمعنى: فإن أقرك على ما قد فعلت.
(4)
وصف من الخفش بالتحريك: وهو ضيق فى العين وضعف فى البصر خلقة، والأصك: وصف من من الصكك بالتحريك: وهو أن تضرب إحدى الركبتين الأخرى عند العدو فتؤثر فيها أثرا، ومصك أيضا كمقص، والجاعرتان: لحمتان تكتنفان أصل الذنب، وهما من الإنسان فى موضع رقمتى لحمار (ويقال للنكتتين السوداوين على عجز الحمار: الرقمتان).
(5)
وفى غرر الخصائص: فإذا أتاك كتابى هذا فكن لأنس أطوع من عبد لسيده، وإلا أصابك منى سهم مثكل، ولكل نبأ
…
الخ».
(6)
الخصاصة: الحاجة والفقر.