الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
407 - كتابه إلى بعض الأجناد
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض الأجناد:
«أما بعد، فإنى أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، والتمسّك بأمره، والمعاهدة على ما حمّلك الله عز وجل من دينه، واستحفظك من كتابه، فإنّ بتقوى الله عز وجل نجاء أولياء الله عز وجل من سخطه، وبها تحقّق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبياءه، وبها نضرب وجوههم، ونظروا إلى خالقهم، وهى عصمة فى الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة، ولن يقبل ممّن بقى إلا مثل ما رضى به ممن مضى، ولمن بقى عبرة فيمن مضى، وسنة الله عز وجل فيهم واحدة، بادر بنفسك قبل أن يؤخذ بكظمك (1)، ويخلص إليك كما خلص إلى من كان قبلك، فقد رأيت الناس كيف يموتون وكيف يتفرّقون؟ ورأيت الموت كيف يعجل التائب عن توبته، وذا الأمل عن أمله، وذا السلطان عن سلطانه؟ وكفى بالموت موعظة بالغة، وشاغلا عن الدنيا، ومرغّبا فى الآخرة، فنعوذ بالله عز وجل من شر الموت وما بعده، ونسأل الله تعالى خيره وخير ما بعده.
لا تطلبنّ شيئا من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضرّ بآخرتك، ويزرى بدينك، ويمقتك عليه ربّك، واعلم أن القدر سيجرى إليك برزقك، ويوافيك أكلك (2) من دنياك، غير مزيد فيه بحول منك ولا قوة، ولا منقوص منه بضعف، إن ابتلاك الله بفقر فتعفّف فى فقرك، وأخبت لقضاء ربك (3)، واعتبر بما قسم الله لك من الإسلام، وما زوى (4) عنك من نعمة دنياك، فإنّ فى الإسلام خلفا من الذهب والفضّة والدنيا الفانية. واعلم أنه لن يضرّ عبدا صار إلى رضوان الله عز وجل
(1) الكظم: الحلق، أو الفم. أو مخرج النفس.
(2)
الأكل كقفل وعنق: الرزق والحظ من الدنيا.
(3)
أخبت: خشع وتواضع.
(4)
زواه: نحاه وأبعده.
وإلى الجنة ما أصابه فى الدنيا من فقر وبلاء، وأنه لن ينفع عبدا صار إلى سخط الله عز وجل وإلى النار، ما أصاب فى الدنيا من نعمة ورخاء، ما يجد أهل الجنة مسّ مكروه أصابهم فى الدنيا، وما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها فى دنياهم، كأن سائر ذلك لم يكن، فمن كان راغبا فى الجنة وهاربا من النار، فالآن فى هذه الأيام الخالية، والتوبة مقبولة، والذنب مغفور، قبل نفاد الأجل، وانقضاء المدة، وفراغ من الله عز وجل للثّقلين (1) ليدينهم بأعمالهم فى موطن لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه الحيلة، تبرز فيه الخفيّات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس جميعا بأعمالهم، وينصرفون منه أشتاتا (2) إلى منازلهم، فطوبى (3) يومئذ لمن أطاع الله عز وجل، وويل يومئذ لمن عصى الله عز وجل، فإن ابتلاك الله بالغنى، فاقتصد فى غناك، وضع لله نفسك، وأدّ لله عز وجل فرائض حقه من مالك، وقل عند ذلك ما قال العبد الصالح:
«هذا من فضل ربّى ليبلونى أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ ربّى غنىّ كريم» . وإياك أن تفخر بطولك (4)، وأن تعجب بنفسك، أو يخيّل إليك أن ما رزقته لكرامتك على ربك عز وجل، وتفضيله إياك على غيرك ممن لم يرزق مثل غناك، فإذا أنت أخطأت باب الشكر، ونزلت منازل أهل الفقر، وكنت ممن أطغاه الغنى، وتعجّل طيّباته فى الدنيا، فإنى أعظك بهذا وإنى لكثير الإسراف على نفسى، غير محكم لكثير من أمرى. ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه، ويعمل فى الذى خلق له من عبادة ربه عز وجل، إذن لتواكل الناس الخير، وإذن لرفع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإذن لاستحلّت المحارم، وقلّ الواعظون والساعون لله عز وجل بالنصيحة فى الأرض».
(سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزى ص 91 وص 202 وص 212)
(1) الإنس والجن. ودانه: جزاه.
(2)
متفرقين، جمع شت بالفتح.
(3)
الخير، والحسنى، وشجرة فى الجنة.
(4)
الطول: القدرة والغنى.