الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
72 - كتاب معاوية إلى ابنه يزيد
وكتب معاوية إلى ابنه يزيد- وقد بلغه مقارفته اللّذات، وانهما كه فى الشهوات-:
«من معاوية بن أبى سفيان أمير المؤمنين إلى يزيد بن معاوية:
أما بعد: فقد أدّت ألسنة التّصريح إلى أذن العناية بك (1) ما فجع الأمل فيك، وباعد الرّجاء منك، إذ (2) ملأت العيون بهجة، والقلوب هيبة، وترامت إليك آمال الراغبين، وهمم المتنافسين، وشحّت بك فتيان قريش وكهول أهلك، فما يسوغ لهم ذكرك إلا على الجرّة المهوّعة (3)، والكظّ: الجشء (4).
اقتحمت البوائق (5)، وانقدت للمعاير (6)، واعتضتها من سموّ الفضل، ورفيع القدر، فليتك (يزيد) إذ كنت لم تكن، سررت يافعا (7) ناشئا، وأثكلت
- فقال أهل الشأم: وما يعظم من أمر هؤلاء؟ إيذن لنا فنضرب أعناقهم، لا نرضى حتى يبايعوا علانية، فقال معاوية: سبحان الله! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر، وأحلى دماءهم عندهم، أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوا، ثم قربت رواحله فركب ومضى. فقال الناس للحسين وأصحابه: قلتم لا نبايع، فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم. قالوا: لم نفعل، قالوا بلى قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم؟ قالوا: خفنا القتل، وكادكم بنا وكادنا بكم- انظر ذيل الأمالى 177 والعقد الفريد 2: 248 والإمامة والسياسة 1: 138
(1)
أى إلى أذن ذى العناية بك- يريد به معاوية نفسه- والمعنى: لقد أفضت بأنبائك ألسنة الرقباء عليك إلى مسامع أبيك ذى العناية الشديدة بشأنك، وصرحت له بما تقارفه من المتكرات والمثالب.
(2)
إذ هنا ظرفية.
(3)
الجرة: ما يفيض به البعير فيأكله ثانية، وهوعه ما أكل: قيأه إياه، والمراد أنهم يستثقلون ذكره.
(4)
كظه الطعام كظا: ملأه حتى لا يطيق النفس، والجشء كشمس: الكثير.
(5)
البوائق: الدواهى جمع بائقة، والمعنى اقترفت الآثام والمعاصى.
(6)
المعاير: المعايب؛ قالت ليلى الأخيلية:
لعمرك ما بالموت عار على امرئ
…
إذا لم تصبه فى الحياة المعاير
(7)
أيفع الغلام ويفع كفتح يفوعا: شب، فهو يافع ولم يستعمل اسم الفاعل من الرباعى، وثكلت المرأة ولدها (كتعب): فقدته، وأثكلها الله ولدها: أفقدها إياه، والمعنى: وأفقدتنا الأمل فيك وأحزنتنا، والكهل: من جاوز الثلاثين، أو أربعا وثلاثين إلى إحدى وخمسين، والضالع: المائل، ضلع عنه كفتح ضلعا بالتسكين، مال، أى مائلا إلى الهوى منحرفا عن طريق الرشاد.
كهلا ضالعا، فواحزناه (1) عليك (يزيد)! ويا حرّ صدر المثكل بك، ما أشمت فتيان بنى هاشم! وأذلّ فتيان بنى عبد شمس (2) عند تفاوض المفاخر ودراسة المناقب! فمن لصلاح ما أفسدت، ورتق ما فتقت؟ هيهات! خمشت. (3) الدّربة وجه التصبّر بك، وأبت الجناية إلا تحدّرا على الألسن، وحلاوة على المناطق، ما أربح فائدة نالوها، وفرصة انتهزوها!
انتبه (يزيد) للّفظة (4)، وشاور الفكرة، ولا تكن إلى سمعك أسرع من معناها إلى عقلك واعلم أن الذى وطّأك (5) وسوسة الشيطان، وزخرفة السّلطان، مما حسن عندك قبحه، واحلولى عندك مرّه، أمر شركك فيه السّواد (6)، ونافسكه الأعبد، لا لأثرة تدّعيها أوجبتها لك الإمرة، وأضعت بها من قدرك، فأمكنت بها من نفسك، فكأنك شانئ (7) نفسك، فمن لهذا كلّه؟
(1) جاء فى شرح التبيان للعكبرى على ديوان المتنبى ج 2 ص 255 عند الكلام على قوله:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم
…
ومن بجسمى وحالى عنده سقم
واستجلب هاء السكت (فى واحر قلباه) وثبتها فى الوصل كما تتبت فى الوقف، والعرب تفعل ذلك كقراء: ابن ذكوان «فبهداهم اقتدهى» بكسر الهاء وإثبات الياء وصلا، وكقراءة هشام بكسر الهاء. وحرك الهاء أبو الطيب لسكونها وسكون الألف قبلها، وللعرب فى ذلك أمران: منهم من حرك بالضم تشبيها بهاء الضمير، وأنشدوا:«يا مرحباه بحمار أعفرا» ومنهم من يحرك بالكسر على ما يوجد كثيرا فى الكلام عند التقاء الساكنين، وأنشدوا:
يا رب يا رباه إياك أسل
…
عفراء يا رباه من أقبل الأجل
فى كلام كثيرا رجع إليه هنالك، وانظر أيضا خزانة الأدب للبغدادى ج 4: ص 592 ولسان العرب ج. 2: ص 370، ومما أورده صاحب اللسان فى ذلك قول قيس العامرى فى ليلى:
فناديت يا رباه أول سألتى
…
لنفسى ليلى ثم أنت حسيبها
قال وهو كثير فى الشعر، وليس شىء منه بحجة عند أهل البصرة.
(2)
يعنى قومه، فهو معاوية بن أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، والتفاوض الاشتراك فى كل شىء، والمجاراة فى الأمر. والمناقب: المفاخر جمع منقبة بفتح الميم والقاف.
(3)
خمشت: خدشت، والدربة: العادة والجرأة على الأمر، والمعنى دربتك على اجتراح المعاصى والسيئات.
(4)
هكذا فى الأصل، وربما كانت «للعظة» .
(5)
أى لينك وسهل عليك الانغماس فى الشهوات.
(6)
السواد من الناس: عامتهم.
(7)
شانئ: مبغض.
اعلم يا يزيد أنك طريد الموت وأسير الحياة، بلغنى أنك اتخذت المصانع (1) والمجالس للملاهى والمزامير، كما قال الله تعالى:«أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ (2) آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» وأجهرت (3) الفاحشة حتى اتخذت سريرتها عندك جهرا.
اعلم (يا يزيد) أن أول ما سلبكه السّكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة (4)، وآلائه المتواترة، وهى الجرحة العظمى، والفجعة الكبرى: ترك الصلوات المفروضات فى أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثم استحسان العيوب، وركوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السر، فلا تأمن نفسك على سرّك، ولا تعقد على فعلك، فما خير لذّة تعقب الندم، وتعفّى (5) الكرم.
وقد توقّف أمير المؤمنين بين شطرين من أمرك، لما يتوقّعه من غلبة الآفة، واستهلاك الشهوة، فكن الحاكم على نفسك، واجعل المحكوم عليه ذهنك، ترشد إن شاء الله تعالى.
وليبلغ أمير المؤمنين ما يردّ شاردا من نومه، فقد أصبح نصب الاعتزال من كل مؤانس، ودريئة (6) الألسن الشامتة، وفّقك الله فأحسن».
(صبح الأعشى 6: 387)
(1) المصانع: المبانى من القصور- والحصون.
(2)
الريع: المرتفع من الأرض، آية: أى أبنية وقصورا يفتخرون بها، ويبعثون بالفقراء ويتطاولون عليهم من أجلها، والمصانع فى الآية قيل: الأبنية، وقيل: هى أحباس تتخذ للماء واحدها مصنعة ومصنع، وهذه الآية نزلت فى عاد قوم هود.
(3)
جهر بالكلام وأجهر به، ويعديان بغير حرف فيقال جهر الكلام وأجهره: أعلنه وأظهره
(4)
المتظاهرة المتوالية المترادفة، وأصله من ظاهر بين الثوبين: إذا لبس أحدهما على الآخر، والآلاء:
النعم، جمع إلى كحمل وألو وألى كشمس وألى كعصا وإلى كرضا.
(5)
تمحو وتزيل، وأصله من عفت الريح المنزل: إذا درسته.
(6)
الدريئة: الحلقة يتعلم عليها الطعن والرمى، وفى الأصل «ودرأة» وهو تحريف.