الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمير المؤمنين إلىّ ما يحقّ به علىّ نصيحته. وإن خراسان لا تصلح إلا أن تضمّ إلى صاحب العراق، فتكون موادّها ومنافعها ومعونتها فى الأحداث والنوائب من قريب، لتباعد أمير المؤمنين عنها، وتباطؤ غياثه عنها».
فعزله هشام وضم خراسان إلى خالد بن عبد الله، فولّاها خالد أخاه أسد بن عبد الله.
(تاريخ الطبرى 8: 222)
452 - رسالة هشام بن عبد الملك إلى خالد بن عبد الله القسرى
قال أبو العباس المبرّد:
وكان سبب هذه الرسالة إفراط خالد (1) فى الدّالّة (2) على هشام، وأنه أخذ ابن حسّان النّبطىّ (3) فضربه بالسّياط، وكان يقال له سهيل، فبعث بقميصه إلى أبيه، وفيه آثار الدم، فأدخله أبوه إلى هشام، مع ما قد أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدّالّة، واحتجان الأموال (4)، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق.
فكتب هشام إلى خالد:
«بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك إلا لما أحبّ من ربّ (5) الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك، وكان أمير المؤمنين أحقّ من استصلح ما فسد عليه منك، فإن تعد لمثل مقالتك (6)، وما بلغ أمير المؤمنين
(1) هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر بن عبد الله بن عبد شمس بن عمغمة ابن جرير بن شق بن صعب الكاهن المشهور، ولاه الوليد بن عبد الملك مكة سنة 89، وولاه هشام العراق سنة 105 ثم عزله عنها سنة 120، وولاها يوسف بن عمر الثقفى.
(2)
أدل عليه: وثق بمحبته فأفرط عليه، والاسم الدالة.
(3)
حسان النبطى: هو مولى هشام ووكيله فى ضياعه فى العراق كما سيرد فى الرسالة.
(4)
احتجن المال: ضمه واحتواه واختص به لنفسه.
(5)
رب الصنيعة كنصر، ورببها: نماها وزادها وأتمها وأصلحها.
(6)
أى قوله «والله ما زادتنى ولاية العراق شرفا
…
» وسيرد فى الرسالة.
عنك، رأى فى معاجلتك بالعقوبة رأيه. إن النّعمة إذا طالت بالعبد ممتدّة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستقلّ العافية، ونسب ما فى يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته، فإذا نزلت به الغير (1)، وانكشطت عنه عماية الغىّ والسّلطان، ذلّ منقادا، وندم حسيرا، وتمكّن منه عدوّه قادرا عليه، قاهرا له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك، لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك، وعظيم زللك، حيث تقول لجلسائك:«والله ما زادتنى ولاية العراق شرفا، ولا ولّانى أمير المؤمنين شيئا لم يكن من قبلى ممن هو دونى يلى مثله» ولعمرى لو ابتليت ببعض مقاوم (2) الحجّاج فى أهل العراق فى تلك المضايق التى لقى، لعلمت أنك رجل من بجيلة (3)، فقد خرج عليك أربعون رجلا فغلبوك على بيت مالك وخزائنك، حتى قلت: أطعمونى (4) ماء! دهشا وبعلا (5) وجبنا، فما استطعتهم إلا بأمان، ثم أخفرت (6) ذمّتك؛ منهم رزين وأصحابه، ولعمرى أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك فى مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك، فحلّ العقدة، ونقض الصّنيعة، وردّك إلى منزلة أنت أهلها، كنت لذلك مستحقّا.
(1) الغير: حوادث الدهر. وانكشطت: ذهبت وانكشفت.
(2)
مقاوم: جمع مقام بالفتح.
(3)
يلقب خالد بن عبد الله بالقسرى نسبة إلى قسر بن عبقر وهى بطن من بجيلة، وسيأتى أن هشاما كتب إليه من رسالة يقول:«كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا، وأنت من بجيلة القليلة الذليلة؟ » .
(4)
وذلك أنه خرج عليه المغيرة بن سعيد بالكوفة سنة 119 فى عشرين أو أربعين رجلا: وعرف بذلك وهو على المنبر فدهش وتحير فقال: أطعمونى ماء.
(5)
بعل بالأمر كفرح: دهش وفرق وبرم فلم يدر ما يصنع.
(6)
أى غدرت ونقضت عهدك، وذلك أنه أمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا (والأطنان جمع طن بالضم وهو الحزمة من القصب) ثم أمر المغيرة أن يتناول طنا فكع عنه (أى ضعف) وتأنى، وصبت السياط على رأسه؛ فتناول طنا فاحتضنه فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، وكذا فعل بأصحابه- انظر تاريخ الطبرى ج 8: ص 241.
فهذا جدّك يزيد بن أسد قد حشد (1) مع معاوية فى يوم صفّين. وعرّض له دينه ودمه، فما اصطنع (2) إلا عنده، ولا ولّاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولّاك، وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك: من كندة وغسّان وآل ذى يزن وذى كلاع وذى رعين، فى نظرائهم من بيوتات قومهم، كلّهم أكرم أوّليّة، وأشرف إسلاما من آل عبد الله بن يزيد (3):
ثم آثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكنك (4) وتتقدمك فى المحافل والمجامع عند بدأة الأمور وأبواب الخلفاء.
ولولا ما أحب أمير المؤمنين من ردّ غربك (5) لعاجلك بالتى كنت أهلها، وإنها منك لقريب ماخذها، سريع مكروهها، فيها- إن أبفى الله أمير المؤمنين- زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك، فيما ضيّعت وارتكبت بالعراق، من استعانتك بالمجوس والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين (6) وجبوة (7) خراجهم، وتسلّطهم
(1) حشد القوم: خفوا فى التعاون، أودعوا فأجابوا مسرعين. أو اجتمعوا لأمر واحد، وكان يزيد بن أسد من شيعة معاوية، وقد قام فى أهل الشام يوم صفين فخطبهم خطبة، يحرضهم فيها على القتال- انظر جمهرة خطب العرب ج 1: ص 343 - وقد قدمنا فى الجزء الأول من جمهرة رسائل العرب أن عثمان حين حصر كتب إلى معاوية يستنجده، وأبطأ أمره عليه، فكتب إلى يزيد بن أسد فسار إليه فى ناس كثير من أهل الشام حتى إذا كانوا بوادى القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا.
(2)
اصطنع عنده صنيعة: اتخذها.
(3)
أى من أبيك.
(4)
أى تفقدك الحركة فلا تستطيع مساماتها.
(5)
الغرب: الحد.
(6)
كان خالد متهما فى دينه. روى صاحب الأغانى قال: «وكان زنديقا أمه نصرانية. فكان يولى النصارى والمجوس على المسلمين، ويأمرهم بامتهانهم وضربهم» وكان أهل الذمة يشترون الجوارى المسلمات ويطئونهن، فيطلق لهم ذلك ولا يغير عليهم» وقال:«وكانت أمه رومية نصرانية وهبها عبد الملك لأبيه، فبنى لها كنيسة فى ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة، فكان إذا أراد المؤذن فى المسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس، وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم» - انظر 19: ص 59 - .
(7)
جبى الخراج كسعى ورمى جبوة وجبا وجباوة وجباية بكسرهن، وجبا بالفتح.
عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التى قامت عنك (1) فبئس الجنين أنت يا عدىّ (2) نفسه.
وإن الله عز وجل لمّا رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك حتى قبحت أمورك عنده، وآيسه من شكرك ما ظهر من كفرك النّعمة عندك، فأصبحت تنتظر سقوط النّعمة، وزوال الكرامة، وحلول الخزى، فتأهّب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد (3)، ولما عملت أكره فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكّتك (4) إلا راتبا بين يديه، وعنده من يقرّرك (5) بها ذنبا ذنبا، ويبكّتك بما أتيت أمرا أمرا، فقد نسيته وأحصاه الله عليك.
ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك فيما عرفك به من التسرّع إلى حماقتك، فى غير واحدة، منها القرشىّ الّذى تناولته بالحجاز ظالما، فضربك الله بالسّوط الذى ضربته (6) به، مفتضحا على رءوس رعيّتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك، فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو.
(1) كنى به عن أمه.
(2)
مصغر عدو، والتصغير للتحقير.
(3)
أوجد: أغضب، أفعل تفضيل من الموجدة، وهى الغضب.
(4)
التبكيت: التفريع، وراتبا: أى مائلا قائما بين يديه، من رتب كدخل إذا ثبت قائما.
(5)
تقول: أقر فلان بالحق أى اعترف به، وقررته بالحق حتى أقر به.
(6)
روى صاحب الأغانى (19: 60) قال: «كان خالد بن عبد الله أميرا على مكة، فأمر رأس الحجبة أن يفتح له الباب وهو ينظر، فأبى فضربه مائة سوط، فخرج الشيبى إلى سليمان بن عبد الملك يشكوه، فصادف الفرزدق بالباب، فاسترفده (أى استعانه) فلما أذن للناس ودخلا، شكا الشيبى ما لحقه من خالد، ووثب الفرزدق فأنشأ يقول:
سلوا خالدا (لا أكرم الله خالدا)
…
متى وليت قسر قريشا تدينها؟
أقبل رسول الله أم ذاك بعده؟
…
فتلك قريش قد أغث سمينها
رجونا هداه (لا هدى الله خالدا)
…
فما أمه بالأم يهدى جنينها
فحمى سليمان وأمر بقطع يد خالد، وكان يزيد بن المهلب عنده، فما زال يفديه ويقبل يده حتى أمر بضربه مائة سوط» وللفرزدق فيه أهاج منها قوله:
وكيف يؤم المسلمين، وأمه
…
تدين بأن الله ليس بواحد
ومن ذلك ذكرك زمزم، وهى سقيا الله وكرامته لعبد المطّلب (1)، وهذا الحىّ من قريش، تسمّيها أمّ جعار (2) فلا سقاك الله من حوض رسوله، وجعل شرّ كما لخير كما الفداء (3)، وو الله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على ضعف نحائزك (4)، وسوء تدبيرك، إلا بفسالة دخائلك، وبطانتك وعمّالك.
والغالبة عليك جاريتك الرائفة (5) بائعة الفهود، ومستعملة الرجال، مع ما أتلفت من مال الله فى «المبارك (6)» فإنك ادعيت أنك أنفقت عليه اثنى عشر ألف ألف درهم، والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان، ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيّعت من أمور المسلمين، وسلّطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك، تجمع إليك الدّهاقين (7) هدايا النّيروز والمهرجان، حابسا لأكثره، رافعا لأقلّه، مع مخابث مساويك التى قد أخّر أمير المؤمنين تقريرك بها.
ومناصبتك أمير المؤمنين فى مولاه حسّان، ووكيله فى ضياعه وأحوازه
(1) يعنى عبد المطلب بن هاشم جد النبى صلى الله عليه وسلم وهو الذى حفر زمزم.
(2)
أم جعار: الضبع، لكثرة جعرها (بالفتح) وهو نجوها، قال فى الأغانى:«وكان يسمى زمزم أم الجعلان» بالكسر جمع جعل بضم ففتح وهو دويبة كالخنفساء، يريد أنها نتتة خبيثة الرائحة، وكان الوليد حفر بئرا بين ثنية ذى طوى (موضع قرب مكة) وثنية الحجون (بالفتح: جبل مشرف بمكة) فكان خالد ينقل ماءها فيوضع فى حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، وخطب يوما على منبر مكة فقال:«إن إبراهيم خليل الله استسقى ربه، فسقاه ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا» - انظر تاريخ الطبرى 8: 67، والأغانى 19: 60 - وفى شرح العيون ص 205 إنه قال: «قد جئتكم بماء العاذبة، لا تشبه ماء أم الخنافس» يعنى زمزم.
(3)
أخذه من قول حسان بن ثابت يمدح النبى صلى الله عليه وسلم ويهجو أبا سفيان قبل إسلامه:
هجوت محمدا فأجبت عنه
…
وعند الله فى ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء
…
فشركما لخيركما الفداء
(4)
النحائز: جمع نحيزة كطبيعة وزنا ومعنى، وفسل ككرم وعلم وعنى فسالة وفسولة فهو فسل كضخم، أى رذل لا مروءة له، وجواب لو محذوف أى لكفاه ذلك.
(5)
راف البدوى يريف، أتى الريف، وهى أرض فيها زرع وخصب.
(6)
المبارك: نهر بالبصرة احتفره خالد لهشام، ومما قاله فيه الفرزدق:
وأهلكت مال الله فى غير حقه
…
على النهر المشئوم غير المبارك
(7)
الدهاقين: جمع دهقان بالكسر والضم، زعيم فلاحى العجم ورئيس الإقليم، معرب.
فى العراق، وإقدامك على ابنه بما أقدمك به، وسيكون لأمير المؤمنين فى ذلك نبأ إن لم يعف عنك، ولكنه يظن أن الله طالبك بأمور أتيتها، غير تارك لتكشيفك عنها.
وحملك الأموال ناقصة عن وظائفها (1) التى جباها عمر بن هبيرة.
وتوجيهك أخاك أسدا إلى خراسان مظهرا العصبيّة بها، متحاملا على هذا الحىّ من مضر (2)، قد أتت أمير المؤمنين- بتصغيره بهم، واحتقاره لهم، وركوبه إياهم- الثقات، ناسيا لحديث زرنب وقصص الهجرييّن، كيف كانت فى أسد بن كرز (3)، فاذا خلوت أو توسّطت ملأ فاعرف نفسك، وخف راجع البغى عليك، وعاجلات النّقم
(1) أى مقدراتها، جمع وظيفة، وهى ما يقدر لك من رزق فى زمان معين، وعمر بن هبيرة هو والى العراق قبل خالد.
(2)
قدمنا أن هشاما استعمل خالد بن عبد الله على العراق وخراسان، فولى خالد أخاه أسدا على خراسان، فتعصب أسد حتى أفسد الناس، وضرب نصر بن سيار ونفرا معه من مضر بالسياط، أخرج كتابا فقرأه على الناس، فيه ذكر نصر بن سيار عبد الرحمن بن نعيم وسورة بن الحر وغيرهم فدعاهم فأنبهم، فلم يتكلم منهم أحد، فتكلم سورة فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنه ليس ينبغى له أن يقبل قول عدو مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من قرفهم بالباطل، فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا وضربوا، وحلقهم بعد الضرب ووجههم إلى خالد وكتب إليه أنهم أرادوا، الوثوب عليه، فلما تعصب أسد وأفسد الناس بالعصبية كتب هشام إلى خالد: اعزل أخاك، فعزله (سنة 109) - انظر تاريخ الطبرى 8:192.
(3)