الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: ملاقاة الماء الجاري للنجاسة
.
المقصود بالمسألة:
أي أن الماء الجاري إذا وقعت فيه النجاسة، فهل كل جرية
(1)
كالماء المنفرد، إن بلغت قلتين، فهي طاهرة وإن كانت أقل فهي نجسة؟ أم أن للماء حكم مجموعه من حين خروجه من مصدره حتى نهايته؟
اختيار القاضي:
اختار رحمه الله أن الماء القليل الجاري ينجس بمجرد ملاقاته للنجاسة، موافقاً في اختياره المشهور من مذهب الحنابلة كما سيأتي في ذكر الأقوال.
قال ابن تيمية
(2)
رحمه الله: (وأما الماء الجاري فعن أحمد ما يدل على روايتين إحداهما أنه كالدائم
…
وهذه الرواية اختيار القاضي وجمهور أصحابنا)
(3)
.
تحرير محل النزاع:
أجمع أهل العلم على أن الجرية المتغيرة بالنجاسة نجسة
(4)
، واختلفوا في ملاقاة النجاسة للماء القليل الجاري إذا لم تغيره على قولين:
(1)
الجرية: ما أحاط بالنجاسة فوقها وتحتها ويمنة ويسرة، انظر: الفروع (1/ 82).
(2)
وابن تيمية هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي، شيخ الإسلام وأعجوبة الزمان، ولد سنة 661 هـ، تأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، سجن بمصر مرتين من أجل فتاواه، وتوفي بقلعة دمشق معتقلا، من تصانيفه " السياسة الشرعية "، " ومنهاج السنة "، توفي سنة 728 هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة 4/ 491. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 168.
(3)
انظر: شرح العمدة (1/ 66).
(4)
انظر: الإجماع لابن المنذر (ص 35)، والأوسط (1/ 260)، المجموع (1/ 110)، مجموع الفتاوى (21/ 30).
الأقوال في المسألة:
القول الأول: أن الماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أو كثيراً.
وبه قال: الحنفية
(1)
،و المالكية
(2)
، والشافعي في القديم
(3)
، وأحمد في رواية منصوصة عنه
(4)
، اختارها الموفق ابن قدامة
(5)
، وابن تيمية
(6)
.
القول الثاني: أنه ينجس بمجرد الملاقاة للنجاسة.
وبه قال: الشافعي في الجديد
(7)
، وهو المشهور من مذهب الحنابلة
(8)
، وهو اختيار القاضي كما تقدم.
(1)
انظر: المبسوط (1/ 52)،بدائع الصنائع (1/ 71)،العناية للبابرتي (1/ 78،77)، وفتح القدير (1/ 79).
(2)
انظر: الكافي (1/ 155)، مواهب الجليل (1/ 72).
(3)
انظر: مغني المحتاج (1/ 128)،المجموع (1/ 196).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 73).
(5)
انظر: المغني (1/ 47)، وابن قدامة: هو موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، ولد بجماعيل 541 هـ، حفظ القرآن وهو صغير، وانتهت إليه معرفة فروع المذهب وأصوله، ومن مصنفاته:" المغني " و " روضة الناظر "، توفي رحمه الله 620 هـ. انظر: الذيل على طبقات الحنابلة 3/ 281. سير أعلام النبلاء 22/ 166.
(6)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 73،72).
(7)
انظر: حلية العلماء (1/ 92)،المجموع (1/ 144،143).
(8)
انظر: شرح العمدة لابن تيمية (1/ 66)، الإنصاف (1/ 58)، كشاف القناع (1/ 39).
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الاول:
الدليل الأول: عن أبي سعيد الخدري
(1)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء)
(2)
.
وجه الدلالة:
أنه نص صحيح صريح في أن الماء لا ينجس بجرد ملاقاة النجاسة، وهو لفظ عام في القليل والكثير
(3)
.
الدليل الثاني: عن أبي هريرة
(4)
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه)
(5)
.
وجه الدلالة:
مفهومه الإذن في البول في الماء الجاري ولو ينجسه لم يأذن فيه
(6)
.
الدليل الثالث: أن الماء الجاري-لقوة جريانه- يحيل النجاسة ويدفعها إذا ورد عليها فهو كالكثير، بخلاف الراكد
(7)
.
(1)
أبو سعيد الخُدْرِيّ هو سعد بن مالك بن سنان أنصاري، مدني، من صغار الصحابة وخيارهم. كان من المكثرين للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيهًا مجتهدًا مفتيًا ممن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تأخذهم في الله لومة لائم شهد معه الخندق وما بعدها، توفي سنة 74 هـ. انظر ترجمته: الإصابة (2/ 34)، وسير أعلام النبلاء (3/ 114).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، باب مسند أبي سعيد الخدري (10864)،و أبو داود كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، ح (76)، (1/ 18)، و الترمذي وحسنه، كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، ح (66)، (1/ 95)، والنسائي، كتاب المياه، باب ذكر بئر بضاعة، ح (326)، (1/ 174)، وصححه الإمام أحمد، ويحيى بن معين والنووي، انظر: البدر المنير (1/ 382).
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (21/ 33).
(4)
هو الصحابي الجليل عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وقيل في اسمه غير ذلك، راوية الإسلام أكثر الصحابة رواية. أسلم 7 هـ وهاجر إلى المدينة، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم فروى عنه أكثر من خمسة آلاف حديث، ولاه أمير المؤمنين عمر البحرين، وولي المدينة سنوات في خلافة بني أمية توفي سنة 59 هـ. انظر ترجمته: أسد الغابة (5/ 318)، الأعلام للزركلي (3/ 308).
(5)
أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب النهي عن البول في الماء الراكد ح (282)، (1/ 235).
(6)
انظر: شرح العمدة لابن تيمية (1/ 67).
(7)
انظر: المصدر السابق.
أدلة أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: عن عبد الله بن عمر
(1)
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الماء قلتين لم ينجس) وفي رواية: (لم يحمل الخبث)
(2)
.
وجه الدلالة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الماء إذا بلغ قلتين، لا ينجس، ولا يحمل الخبث، وهذا عام فلم يفرق بين الماء الراكد، والجاري، ويفهم منه أن ما كان أقل من قلتين فإنه يحمل الخبث ولو لم يتغير، جارياً كان أو راكداً
(3)
.
ونوقش:
أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة، بخلاف اللفظ العام
(4)
، كما أن سبب الحديث هو السؤال عن الماء الراكد
(5)
.
الدليل الثاني: قياس الماء الجاري على الدائم، فكما أن قليل الدائم ينجس بمجرد الملاقاة فكذلك قليل الجاري
(6)
.
نوقش:
أن هذا استدلال في محل النقاش، بالإضافة إلى أن هذا القياس قياس مع الفارق حيث إن الراكد على فرض نجاسته بهذا- فإنه إنما ينجس- والله أعلم- لضعفه عن استهلاك النجاسة، بخلاف الجاري فهو لقوة جريانه يحيلها ويدفعها إذا ورد عليها فكان كالكثير
(7)
.
الترجيح:
مما سبق من الأدلة والمناقشة، يبدو والله أعلم أن القول الأول القائل بأن الماء الجاري لا ينجس إلا بالتغير، هو الراجح لقوة ما استدلوا به، ولمناقشة القول الآخر، ولأنه يترتب على القول باعتبار كل جرية مستقلة بنفسها تنجس نهر كبير بنجاسة قليلة وهذا ظاهر الفساد
(8)
.
(1)
هو الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أحد المكثرين عن رسول صلى الله عليه وسلم،نشأ في الإسلام، وهاجر مع أبيه إلى الله ورسوله، شهد الخندق وما بعدها، ولم يشهد بدرا ولا أحدًا لصغره، أفتى الناس ستين سنة، ولما قتل عثمان عرض عليه ناس أن يبايعوه بالخلافة فأبى، وكف بصره في آخر حياته، كان آخر من توفي بمكة من الصحابة سنة 73 هـ. انظر ترجمته: أسد الغابة (3/ 236)،سير أعلام النبلاء (3/ 204).
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب ماينجس الماء ح/63 (1/ 17)، والترمذي، كتاب الطهارة، باب ماجاء أن الماء لاينجسه شيء، ح/67 (1/ 97)،والنسائي، كتاب الطهارة، باب التوقيت في الماء، ح/52 (1/ 46)، ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب مقدار الماء الذي لاينجس، ح/518 (1/ 172)، وصححه أحمد، والنووي، وابن حجر، انظر: المحرر (1/ 83)،وتلخيص الحبير (1/ 17)، والمجموع (1/ 156)، والإرواء (1/ 60).
(3)
انظر: شرح العمدة (1/ 67،66).
(4)
انظر: البحر المحيط (3/ 104)، واللفظ العام هنا هو عموم حديث (إن الماء طهور لا ينجسه شيء).
(5)
انظر: شرح العمدة لابن تيمية (1/ 67).
(6)
انظر: شرح العمدة لابن تيمية (1/ 66).
(7)
انظر: شرح العمدة لابن تيمية (1/ 67).
(8)
انظر: الشرح الكبير على متن المقنع (1/ 43).