الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: حد الفاحش من النجاسة الناقضة للوضوء الخارجة من غير السبيلين
.
المقصود بالمسألة: أن الإنسان إذا كان على طهارة، ثم خرج من بدنه من غير السبيلين نجاسة، كالرعاف مثلاً، وقيل بأن خروج مثل هذا ينقض الوضوء، فما مقدار هذه النجاسة حتى يحكم ببطلان وضوءه عند من يرى النقض بذلك من أهل العلم؟
اختيار القاضي:
اختار القاضي رحمه الله، أن حد النجاسة التي إن خرجت من البدن- غير السبيلين- انتقض بها الوضوء، هو ما فحش في نفوس أوساط الناس، مخالفاً في اختياره المشهور من مذهب الحنابلة، كما سيأتي.
قال ابن مفلح رحمه الله: (الثاني: خروج بول أو غائط من بقية البدن، وخروج نجاسة فاحشة في نفوس أوساط الناس، في رواية اختارها القاضي وجماعة كثيرة)
(1)
.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن الخارج من غير السبيلين إذا لم يكن نجسا كالعرق واللعاب لا يعتبر حدثا، واختلفوا فيما إذا كان الخارج من غير السبيلين نجسا، كما اختلفوا في مقدار وضابط هذا ا لخارج حتى يكون ناقضاً للوضوء
(2)
.
(1)
انظر: الفروع وتصحيح الفروع (1/ 221).
(2)
انظر: بدائع الصنائع (1/ 24)، والاختيار (1/ 9، 10)، وابن عابدين (1/ 90، 91)، جواهر الإكليل (1/ 19، 20)، شرح الحطاب (1/ 290 - 293)، مغني المحتاج (1/ 32، 33)، والمغني (1/ 168، 169)، وكشاف القناع (1/ 22 - 124).
الأقوال في المسألة:
الذين قالوا إن الخارج النجس من غير السبيلين ينقض الوضوء، اختلفوا فيما بينهم في مقدار هذا الخارج حتى يكون ناقضاً للوضوء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن كل خارج نجس من غير السبيلين ناقض للوضوء مطلقاً، دون التفريق بين قليله أو كثيره.
وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
القول الثاني: ينتقض الوضوء بالخارج من غير السبيلين إذا كان كثيراً فقط، وهو ما يفحش في نفس كل أحد بحسبه.
وهذا هو مذهب الحنابلة
(2)
.
القول الثالث: ينتقض الوضوء بالخارج من غير السبيلين بالكثير فقط، وهو ما يفحش في نفوس أوساط الناس.
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد
(3)
، اختارها القاضي أبي يعلى رحمه الله -كما تقدم.
(1)
إلا أنهم قيدوه في الدم بما سال لأنه يعد بذلك خارجاً انظر: المبسوط (1/ 74)، بدائع الصنائع (1/ 24)، العناية (1/ 39)،فتح القدير (1/ 39).
(2)
انظر: الفروع (1/ 104)، شرح الزركشي (1/ 257)،الإنصاف (1/ 198)، التنقيح (42)،منتهى الإرادات (1/ 69).
(3)
انظر: المراجع السابقة.
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
الدليل الأول: عن أبي الدرداء
(1)
رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء، فتوضأ)
(2)
.
الدليل الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم)
(3)
.
وجه الدلالة:
دل الحديثان على وجوب الوضوء من القيء والرعاف دون تفريق بين القليل والكثير.
ونوقش
بأن المقصود من الوضوء هو غسل الدم، و غسل فمه من القيء وزهومته
(4)
.
وأجيب عنه:
بأن المفهوم من إطلاق لفظ الوضوء عند أهل الشرع إنما هو الوضوء الشرعي وغسل الفم من القيء ومن اللبن يسمى مضمضة
(5)
.
ورد على هذا الجواب:
بأنه ليس في هذا الحديث ما يدل على وجوب الوضوء من القيء، لأن الفعل لا يثبت به الوجوب إلا أن يفعله، ويأمر الناس بفعله، أو ينص على أن هذا الفعل ناقض للوضوء
(6)
،
أما حديث عائشة رضي الله عنها فهو ضعيف، والضعيف لاتقوم به حجة.
(1)
أبو الدرداء هو: عويمر بن مالك بن قيس بن أمية، أبو الدرداء الأنصاري. من بني الخزرج صحابي، كان قبل البعثة تاجراً في المدينة، ولما ظهر الإسلام أشتهر بالشجاعة والنسك. ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أول قاض بها، كان من العلماء الحكماء. وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. مات بالشام سنة 32 هـ. انظر: ترجمته في [الاستيعاب 3/ 1227، والإصابة 3/ 45،وأسد الغابة 4/ 159، والأعلام 5/ 281].
(2)
أخرجه الترمذي وحسنه في أبواب الطهارة، باب الوضوء من القيء والرعاف، ح/87، (1/ 142)، وصححه الألباني في الإرواء (1/ 147).
(3)
رواه ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في البناء على الصلاةح/1221 (1/ 385) والدارقطني، كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن كالرعاف والقيء والحجامة ونحوه، ح/567، (1/ 282)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من خروج الدم من غير مخرج الحدث ح/669، (1/ 222) وضعفه الشافعي، وأحمد، والدارقطني وغيرهم، انظر: المحرر لابن عبدالهادي (1/ 121).
(4)
انظر: نصب الراية (1/ 41).
(5)
انظر: اللباب (1/ 109).
(6)
انظر: فتح الغفار الجامع لأحكام سنة نبينا المختار (1/ 121).
أدلة أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
(1)
.
وجه الدلالة:
قالوا: المرجع في تحديد الكثير هو ما يستفحشه كل إنسان في نفسه
(2)
.
الدليل الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهم: الفاحش ما فحش في قلبك
(3)
.
الدليل الثالث: أن اعتبار حال الإنسان بما يستفحشه غيره فيه حرج، فيكون منفيا
(4)
.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
انظر: مطالب أولي النهى (1/ 141)
(3)
انظر: المغني (1/ 137)، المبدع (1/ 133)، ولم أجد هذا الأثر في ما تيسر لي من كتب الآثار.
(4)
انظر: المبدع (1/ 133).
أدلة أصحاب القول الثالث:
استدل القائلون بالتفريق بين القليل والكثير، بحسب أوساط الناس بآثار مروية عن الصحابة منها:
الدليل الأول: عصر ابن عمر رضي الله عنها بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضأ
(1)
.
الدليل الثاني: أن عبد الله بن أبي أوفى
(2)
بزق دما فمضى في صلاته
(3)
.
الدليل الثالث: أن كل حكم شرعي لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة، يرجع فيه إلى العرف، وإلى ما اعتاده الناس، ولا يرجع فيه إلى الأشخاص لأنهم مختلفون، فمنهم الموسوس، ومنهم المتهاون
(4)
.
الترجيح:
على القول بأن الخارج النجس من غير السبيلين ينقض الوضوء، يترجح والله أعلم ما ذهب إليه القاضي أبو يعلى في اختياره، بأن الناقض هو الكثير وتحديده بحسب أوساط الناس؛ لأن كل مالم يحد في الشرع ولا في اللغة فمرجعه العرف، ولا تترك للأشخاص بحيث يتكلف الموسوس، ويتساهل المتهاون، فتضطرب الأحكام فما كان ناقضاً عند شخص، كان غير ناقض عند غيره، والله أعلم.
(1)
علقه البخاري في صحيحه، في كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر، ووصله عبدالرزاق في مصنفه (1/ 145).
(2)
عبد الله بن أبي أوفى هو: عبدالله بن علقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أسيد بن رفاعة بن ثعلبة بن هوازن بن أسلم الأسلمي، أبو معاوية، من أصحاب الشجرة، وروى أحاديث شهيرة، نزل الكوفة سنة ست أو سبع وثمانين،، وكان آخر من مات بها من الصحابة. ويقال: مات سنة ثمانين رضي الله عنه. انظر: ترجمته في الإصابة (4/ 18)، أسد الغابة ت (2830)، الاستيعاب ت (1486).
(3)
علقه البخاري في صحيحه، في كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: من القبل والدبر، ووصله عبدالرزاق في مصنفه (1/ 148).
(4)
انظر: التمهيد للأسنوي (ص 224)، والأشباه والنظائر للسيوطي (ص 196)، وشرح الزركشي (1/ 257).