الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة: حكم استيعاب الرأس بالمسح
.
اختيار القاضي:
اختار رحمه الله -أنه يجب مسح جميع الرأس موافقاً المشهور من مذهب الحنابلة، كما سيأتي.
فقال رحمه الله: (مسألة: واختلفت في مسح جميع الرأس، فنقل حرب وجوب مسح جميعه، وهو اختيار الخرقي، وهو أصح)
(1)
.
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه
(2)
.
سبب الخلاف:
سببه هو اختلافهم في الباء المذكورة في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)
(3)
الآية هل هي للإلصاق أو للتبعيض؟ فمن قال: إنها للتبعيض أوجب مسح بعض الرأس لا كله، ومن قال: إنها للإلصاق أوجب مسحه كله
(4)
.
(1)
انظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين (1/ 72).
(2)
انظر: بداية المجتهد (1/ 19).
(3)
المائدة:6.
(4)
انظر: بداية المجتهد (1/ 19).
الأقوال في المسألة:
اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين في الأصل:
القول الأول: أنه لا يجب مسح الرأس كله، بل يجزئ مسح بعضه
(1)
.
وهذا قول الحنيفة
(2)
والشافعية
(3)
ورواية عند أحمد
(4)
وقول لبعض أصحاب مالك
(5)
،وهو قول داود الظاهري
(6)
.
القول الثاني: أنه يجب مسح جميع الرأس.
وبهذا قال المالكية
(7)
والحنابلة
(8)
.
(1)
هذا هو رأي من قال بذلك في الجملة وإلا لهم تفاصيل في الحد المجزي من المسح.
(2)
انظر: شرح فتح القدير (1/ 17) وحاشية رد المحتار (1/ 99)، وبدائع الصنائع (1/ 4).
(3)
انظر: الأم (1/ 26) المجموع (1/ 398)، ومغني المحتاج (1/ 3) ونهاية المحتاج (1/ 174).
(4)
انظر: الإنصاف 1/ 161؛ والمغني 1/ 125.
(5)
انظر: التمهيد 20/ 126؛ والاستذكار 1/ 168؛ والكافي ص 22.
(6)
انظر: والاستذكار 1/ 169؛ والمحلى ص 297 - 298.
(7)
انظر: المدونة (1/ 161)، وحاشية الدسوقي (1/ 88)، والتمهيد (30/ 125)، والاستذكار (1/ 167)
(8)
انظر: الإنصاف (1/ 161)، كشاف القناع (1/ 98) وشرح منتهى الإرادات (1/ 45 - 46).
الأدلة:
أدلة أصحاب القول الأول:
الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(1)
الآية.
وجه الاستدلال عندهم في هذه الآية:
قالوا: أن الله قال: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} والباء هنا للتبعيض وليست للإلصاق.
وقالوا: إذا دخلت الباء على مفعول يتعدى بنفسه كانت للتبعيض كقوله تعالى:
{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} وإن لم يتعد فللإلصاق، كقوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
(2)
فيكون معنى الآية: "وامسحوا ببعض رؤوسكم"
(3)
.
وأجيب عن ذلك:
بأن قولهم أن الباء للتبعيض غير صحيح ولا يعرف أهل العربية ذلك، قال ابن قدامة: قال ابن برهان
(4)
: "من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه"
(5)
. أ. هـ.
الدليل الثاني: عن المغيرة بن شعبة
(6)
: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بناصيته
(7)
، وعلى العمامة وعلى خفيه)
(8)
.
وجه الاستدلال من هذا الحديث:
قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته، والناصية: مقدمة الرأس، فهذا دليل على أن مسح بعض الرأس يجزئ ولو كان مسح جميع الرأس واجباً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
وأجيب عن ذلك:
بأن هذا ورد مع العمامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة فلا يتم الاستدلال بالحديث على محل النزاع؛ لأن النزاع في مسح بعض الرأس مكشوفاً، ولو جاز الاقتصار على الناصية لما مسح على العمامة
(9)
، فدل هذا على أن هذا الحديث ليس فيه حجة لهم فيما ذهبوا إليه.
(1)
المائدة:6.
(2)
الحج:29.
(3)
انظر: الحاوي الكبير (1/ 115).
(4)
عبد الواحد بن علي بن برهان العكبري، أبو القاسم شيخ العربية، سكن بغداد، وكان مضطلعاً بعلوم كثيرة منها: النحو، واللغة، ومعرفة النسب، والحفظ لأيام العرب، وأخبار المتقدمين، وله أنس شديد بعلم الحديث، مات يوم الأربعاء سلخ جمادى الأولى من سنة ست وخمسين وأربعمائة. تاريخ بغداد 11/ 17؛ وسير أعلام النبلاء 18/ 124.
(5)
المغني (1/ 126)
(6)
هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم، صحابي، يقال له مغيرة الرأي، أسلم قبل عمرة الحديبية، وشهدها واليمامة وفتوح الشام، وذهبت عينه يوم اليرموك، وشهد القادسية ونهاوند وهمدان، ولاه عمر ثم عثمان، ثم ولاه معاوية الكوفة وتوفي بها سنة 50 هـ. انظر ترجمته في: الإصابة (3/ 452)، وأسد الغابة (4/ 406).
(7)
الناصية: مقدم الرأس. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 1/ 255.
(8)
أخرجه مسلم من حديث طويل ذكر فيه كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، حديث رقم (274) 1/ 230 - 231.
(9)
انظر: تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق 1/ 373.
الدليل الثالث: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية
(1)
، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة)
(2)
.
ويجاب عن الاستدلال بهذا الحديث بأمرين:
أولاً: بأن هذا الحديث ضعيف
(3)
.
ثانياً: لو صح فإنه يحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على مقدمة رأسه لوجود العمامة عليه، ومعروف أن العمامة يمسح عليها فاكتفي عن بقية الرأس بالمسح على العمامة، وإن لم يكن في هذا الحديث تصريح بالمسح على العمامة إلا أنه يحمل على الأحاديث التي رواها المغيرة بن شعبة والتي فيها التصريح بالمسح على العمامة وهي أصح من هذا الحديث.
أدلة أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: من الكتاب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(4)
الآية.
وجه الاستشهاد من هذه الآية: قالوا: إن الباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} للإلصاق وليست للتبعيض، فكأنه قال:"وامسحوا رؤوسكم"
(5)
فمن مسح بعض رأسه لم يصدق عليه أنه مسح رأسه
(6)
، فالباء هنا للإلصاق كما في آية التيمم وهي قوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} .
الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
(7)
.
وجه الاستشهاد من هذه الآية:
قالوا: إن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز الطواف ببعض البيت، فكذلك الرأس لا يجزئ مسح بعضه
(8)
.
(1)
قطرية: بكسر القاف وسكون الطاء المهملة، هو ضرب من البرود فيه حمرة ولها أعلام فيها بعض الخشونة، وقيل: حلل جياد وتحمل من البحرين من قرية تسمى قطراً. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 1/ 250 - 251.
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المسح على العمامة، حديث رقم (147) 1/ 102 - 103؛ وأخرجه ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على العمامة، حديث رقم (564) 1/ 186 قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب ص 674:"أبو معقل، عن أنس، في المسح على العمامة مجهول". أ. هـ. وقال الذهبي: أبو معقل عن أنس في المسح على العمامة لا يعرف، وقال ابن القطان: مجهول، انظر: حاشية التلخيص الحبير 1/ 58.
(3)
انظر: التخريج السابق للحديث.
(4)
المائدة:6.
(5)
انظر: شرح منتهى الإرادات 1/ 45 - 46.
(6)
انظر: الاستذكار 1/ 168.
(7)
الحج:29.
(8)
الاستذكار 1/ 168.
الدليل الثالث: من السنَّة ما ثبت عن عبد الله بن زيد أن رجلاً
(1)
قال له: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم
…
فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم مسح رأسه بيده فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه"
(2)
.
فقالوا: هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعمم المسح على رأسه كله؛ لأن عبد الله بن زيد قال في آخر الحديث: (هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الترجيح:
بعد عرض قولي العلماء في هذه المسالة وأدلتهم في ذلك يتبيَّن عندي -والله أعلم- أن القول الراجح في هذه المسألة: القول الثاني القائل بأنه يجب مسح جميع الرأس، ولا يجزئ مسح بعضه للأسباب الآتية:
أولاً: قوة أدلتهم وضعف أدلة المخالفين، "فالباء" في قوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} الراجح أنها ليست للتبعيض، فهي إما أن تكون زائدة مؤكدة ليست للتبعيض، والمعنى "امسحوا رؤوسكم، أو تكون للإلصاق
(3)
ثانياً: إن في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري ما يدفع هذا الإشكال فهو رضي الله عنه وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه: "
…
ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه؛ ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه
…
" الحديث، خصوصاً وأنه ورد عند مسلم: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث ثابت صحيح يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مسح على جميع رأسه، فهذا هو المجزئ دون غيره إذا عرفنا أن الأحاديث التي استدل بها المخالف على جواز مسح بعض الرأس إما أنها لا تدل على محل النزاع أو أنها ضعيفة لا تقارن بهذا الحديث.
ثالثاً: إن مسح جميع الرأس فيه خروج من الخلاف والخروج من الخلاف مستحب، وقد نص بعض أهل العلم على أن استيعاب الرأس بالمسح أحد فروع هذه القاعدة
(4)
.
(1)
الرجل هو: عمرو بن أبي حسن. انظر: فتح الباري (1/ 290).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله 1/ 54 - 55؛ وأخرجه مسلم بلفظ مقارب في كتاب الطهارة، باب في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم حديث رقم 1/ 210.
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن (6/ 87)،تيسير الكريم الرحمن للسعدي (2/ 251).
(4)
انظر: الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية 1/ 136.