الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل
أنشد فيها، وهو الإنشاد الخامس والستون بعد المائة:
(165)
بل بلدٍ ملء الفجاج قتمه
على أن بل فيه حرف ابتداء داخلة على الجملة، وبلد: مجرور برب المضمرة لا بـ "بل". قال المرادي في "الجنى الداني": ذكر بعضهم لـ "بل" قسمًا آخر وهو أن يكون حر جر خافض للنكرة بمنزلة رب، كقول الراجز:
بل بلدٍ ملء الفجاج قتمه
ولي ذلك بصحيح، وإنما الجار في البيت ونحوه رب المحذوفة، وحكى ابن مالك وابن عصفور الاتفاق على ذلك، فظهر وهم من جعل بل جارة، قال بعضهم: وبل في ذلك حرف ابتداء. انتهى.
وعدّ ابن عصفور حذف رب وبقاء عملها من ضرائر الشعر.
والبيت من رجز طويل لرؤبة بن العجاج، عدته أربعمائة وخمسة وثلاثون بيتًا، مدح به أبا العباس السفاح أول الخلفاء العباسية، وأوله:
قلت لزيرٍ لم تصله مريمه
…
ضلِّيل أهواء الصِّبا يندِّمه
هل تعرف العهد المحيل أرسمه
…
عفت عوافيه وطال قدمه
ثم وصف العهد بعد هذا بتسعة وعشرين بيتًا، وقال:
بل بلدٍ ملء الفجاج قتمه
…
لا يشتري كتَّانه وجهرمه
ثم وصف هذا البلد، ووصف الناقة التي توصله إليه بعد هذا بثلاثين بيتًا، وقال:
قطعت أمَّا قاصدًا تيمُّمه
…
إلى ابن مجدٍ لم يخرِّق أدمه
ثم وصفه بثلاثة وعشرين بيتًا، وقال:
وقلت مدحًا من طرازي معلمه
…
قوَّمته حتَّى استقام أقومه
لملكٍ في إرث مجدٍ قدمه
…
من آل عبَّاسٍ تسامى أنجمه
قال أبو حاتم في شرح "ديوان رؤبة" يقال: هو زير نساء، وحدث نساء: إذا كان يكثر من زيارتهن ويحدثهن. انتهى.
وجملة "لم تصله مريمه" في موضع جر صفة لزير، ومريم: من أسماء النساء، وأضافها إليه لأنها حبيبته" وضليل: مبالغة ضال، وأهواء: جمع هوى مصدر هويته من باب تعب؛ إذا أحببته وعلقت به، ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها نحو الشيء ثم استعمل في ميل مذموم، فيقال: اتبع هواه وهو من أهل الأهواء كذا في "المصباح" والصبا، بالكسر والقصر: الصغر، مصدر صبي كرضي أي: فعل فعل الصبيان. يندّمه: يوقعه في الندامة، وضّليل: مبتدأ، وجملة "يندّمه" خبر، والجملة في موضع جر صفة ثانية لزير، والهاء ضمير زير، يقول: يوقعه في الندامة من ضل في أهواء الصبا ويعذله في عشقه إياها، ويقل له: اقطع من قطعك، ولا تطلب وصل من هجرك، وهذا الكلام أشد لإغرائه، كما قيل:
لا تعذليه فإنَّ العذل يولعه
…
.
وقوله: هل تعرف العهد .. الخ: هذا مقول القول، وإنما سأله بعد وصفه.
بما ذكر، لأن مثل ذلك العاشق المهجور ليس له شغل غير التردد في منازل الأحباب، والبكاء والتوله عند تذكرها، ومشاهدة آثارها، فهو أعرف من غيره لأطلالها ورسومها.
والعهد هنا: المنزل، في "القاموس": العهد: المنزل المعهود به الشيء، كالمعهد، والمحيل، اسم فاعل من أحال، وهو الذي أتى عليه الحول، وأرسمه: فاعل المحيل، جمع رسم، وهو الأثر بلا شخص، والطلل: ما شخص من أعلام الدار، ووصف المنزل بهذا والذي بعده لإثارة حزنه وتهييج وجده، لخلوه ممن يحب، وتغيُّره بقدم الأيام، واضمحلال رسومه وأطلاله. وقوله: عفت عوافيه .. الخ، يقال: عفى المنزل: درس وذهبت آثاره، وقال أبو حاتم: أي درس ما درس منه، كقولك: خرجت خوارجه، أي: خرج ما كان داخلًا، عوافيه: دوارسه وواحد العوافي: عافية، ومعنى عافية: دارسة. انتهى.
وقوله: بل بلد
…
الخ، بل للإضراب، أضرب عن السؤال عن ذلك العهد، وتركه واستأنف الكلام، وابتدأ بكلام آخر ووصف فيه قطع المفاوز وتحمل المشاق حتى وصل إلى ممدوحه. وبلد: مجرور برب مقدرة، والبلد هنا: القفر، يقول: كثيرًا من المفاوز والقفار سلكتها. والفجاج: جمع فج، وهو الطريق الواسع بين جبلين. والقتم، بفتحتين: الغبار، لغة في القتام. وملء: مبتدأ، وقتمه: خبره، والجملة صفة لـ "بلد"، وكذلك جملة: لا يشتري كتانه.
قال أبو حاتم: يقول: له سبائب من السراب لا يشتري. والجهوم: البساط من الشعر، والجميع جهارم. انتهى. قال الأزهري في "التهذيب": قال أبو عبيد عن أبي عمرو: والسُّبوب: الثياب الرقاق، واحدها سبّ بالكسر، وهي السبائب، واحدها سبيبة، وأنشد:
ونسجت لوامع الحرور
…
سبائبًا كسرق الحرير
وقال شمر: السبائب: متاع كتانٍ يجاء بها من ناحية النيل، وهي مشهورة بالكرخ عند التجار، ومنها ما يعمل بمصر، وطولها ثمان في ست. انتهى. وقال أبو القاسم علي بن حمزة البصري فيما كتبه على "نوادر أبي عمرو الشيباني": قال أبو عمرو: غلط رؤبة في قوله: "لا يشتري كتانه وجهرمه". إنما جهرم اسم بلد فظنه ثيابًا، وقال الأصمعي: هذا مثل، يقول: له سبائب تجري عليه من آله وسرابه، وهي لا تشترى، وجهرم: قرية بفارس، فظن أن جهرم ثياب، وإنما أراد رؤبة: كتانه وجرميِّه، فقطع ياءي النسب، كما قال العجاج:
يكاد يدري القيقبان المسرجا
والقيقب: خشب تتخذ منه السروج، وأراد أن ينسب السرج إليه، فيقول: القيقباني، فقطع ياءي النسب. انتهى.
وأوله أبو علي في "المسائل البصرية" بتقدير مضاف، قال: أي: ونسج جهرمه: وقال أيضًا في "الإيضاح": جهرم هنا جمع جهرمي، وأضيف إلى الضمير وقال شارح شواهده: أنشده على أن جهرمه يصلح أن يحمل محمل الأول، وهو كتانه، وأن يكون على حذف المضاف، أي: وبسط جهرم، والجهرمية: بسط شعر تنسب إلى جهرم؛ قرية بفارس، فيكون جهرم جمعًا، ولذلك أضيف. وقال أبو حاتم والزيادي: الجهرم: البساط من الشعر، والجمع جهارم، ولا شاهد فيه على هذا. انتهى. قال أحد شراح "الإيضاح": فأما تسويغه
أن يكون على تقدير مضاف محذوف فبيَّن، لأن جهرمًا فيما ذكره الطوسي قرية بفارس ينسب إليها نوع من البسط تتخذ من الشعر، فكأنه قال: وبسط جهرميَّة. وأما تسويغه أن يكون مما جمع بحذف ياءي النسب منه، ففيه إشكال من جهة أن العرب لا تفعل ذلك في المنسوب إلى أسماء الأماكن، ألا ترى أنهم لا يقولون في جمع عراقي وحلبي وبغدادي: عراق، ولا حلب، ولا بغداد، وإنما يفعلون ذلك في المنسوب إلى أسماء الأجناس، نحو: روم وعرب، وإنس وجن. فأما قولهم: هندي، وهند، فإنهم لم ينسبوا إلى هند حتى صيروه اسمًا للجيل، واستدل على ذلك أبو الحسن الأخفش في الكبير له بأنك تقول: هؤلاء هند، قال: وليس ذلك في نية حذف مضاف، إذ لو كان على ذلك لروعي لفظ المثبت، فقيل: هذه هند، كما يقال: هذه القرية فعلت كذا، فلما قالوا: هؤلاء، دل ذلك على أنهم صيروا هندًا اسمًا للجيل، كما أنهم صيروا تميمًا اسمًا للحي، قالوا: هؤلاء تميم، ولو كان على حذف مضاف خاصة لقالوا: هذا تميم، كما يقولون: المسجد صلى، يريدون أهل المسجد. والجواب عن ذلك أن يقال: جهرمي وجهرم، بمنزلة هندي وهند، لأن أبا حاتم والزيادي زعما أن الجهرم أيضًا البساط من الشعر، وجمعه جهارم، فإنما نسب إلى جهرم بعد أن جعلت اسمًا لهذا الصنف من البسط المصنوع بها، كما نسب للهند بعد أن جعلت اسمًا لأهلها، فجاز أن يقال في جمع جهرمي: جهرم، كما جاز أن يقال في جمع هندي: هند.
وذهب ابن يسعون إلى أنه لا يحتاج إلى حمل "جهرمية" على حذف ياءي النسب، أو تقدير مضاف محذوف على ما حكاه أبو حاتم والزيادي، من أن جهرمًا اسم للبساط نفسه، وذلك باطل، لأن المعنى على الجمع، وذلك لا يتصور إلا بتقدير مضاف محذوف يدل على الجمع، أو حذف ياءي النسب، وأما ما ذهب إليه بعضهم
من أنه أراد: كتانه وجهرميه، فحذف ياءي النسب وهو يريدهما، فليس بشيء، لأن حذفهما على هذا الوجه ليس بقياس، وإنما هو من قبيل ضرورة الشعر. انتهى كلام شارح أبيات "الإيضاح".
وقوله: قطعت أمّا
…
الخ، هذا جواب رب، وهو العامل في محل بلد، النسب على المفعولية، وقدم عليه وجوبًا لأنه مجرور بحرف واجب التصدّر، لتضمنه لإنشاء التكثير، وإليه أشار المصنف بقوله: بل رب بلد موصوف بهذا الوصف قطعته، وكان ينبغي: قطعت، لكنه سهل، لأنه لم يستحضر البيت. وقطع البلد والأرض: سلوكها بالمشي. قال شارح شواهد "الإيضاح": وأمّا، أي: قصدًا لم أتعرض لغيره، وتيممه قصده. ويروى:"تأسمه" وهو مرتفع بقاصد الذي هو من صفة الأم، وإضافة التأمم إلى الحدث مجاز، وهو يريد صاحبه. انتهى.
وقوله: إلى ابن مجد: جعل الممدوح لعلو شأنه، ورفعة مكانه، ابن مجد، وأدمه: عرضه، أي: لم يطعن في عرضه بشيء. وترجمة رؤبة تقدمت في الإنشاد الخامس عشر.
وقد حظي الأصمعي عند هارون الرشيد بروايته لهذا الرجز، وروى السيد المرتضى، رضي الله عنه في "أماليه" بسنده إلى الأصمعي أنه قال: تصرفت بي الأسباب على باب الرشيد مؤملًا الظفر به والوصول إليه حتى أني صرت لبعض حرسه خدينًا، فإني في بعض ليلة قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادم فقال: أما بالحضرة أحد يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر! رب قيدٍ مضيِّق قد حلّه التيسير! فقال لي الخادم: ادخل، فلعلها أن تكون ليلة
يعرِّس في صاحبها الغنى إن فزت بالحظوة عند أمير المؤمنين، فدخلت فواجهت الرشيد في مجلسه، والفضل بن يحيى إلى جانبه، فوقف بي الخادم بحيث يسمع التسليم، فسلمت فرد علي السلام، ثم قال: يا غلام أرحه ليفرح روعه إن كان وجد للروعة حسًا، فدنوت قليلًا، ثم قلت: يا أمير المؤمنين: إضاءة مجدك، وبهاء كرمك، مجيران لمن نظر إليك، فقال: أدن، فدنوت، فقال: أشاعر أم رواية؟ فقلت: رواية لكل ذي جد وهزل بعد أن يكون محسنًا، فقال: تالله ما رأيت ادعاء أعظم من هذا، فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين، فقال:"قد أنصف القارة من راماها"، ثم قال: ما المعنى في هذه الكلمة؟ فقلت: فيها قولان: القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة للتبابعة، والملك إذ ذاك أبو حسان، فواقف عسكره عسكر السُّغد، فخرج فارس من السغد وقد وضع سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة العرب، فقالت العرب:"قد أنصف القارة من راماها" فقال لي الرشيد: أصبت، ثم قال: أتروي لرؤبة بن العجاج والعجاج شيئًا؟ فقلت: هما شاهدان لك بالقوافي، وإن غيبًا عن بصرك بالأشخاص. قال: أنشدني:
أرَّقني طارق همِّ أرَّقا
فمضيت فيها مضي الجواد في سنن ميدانه، تهدر به أشداقي، فلما صرت إلى مديحه لبني أمية ثنيت لساني إلى امتداحه لأبي العباس في قوله:
قلت لزيرٍ لم تصله مريمه
فلما رآني قد عدلت من أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرة أم عن عمد؟ قلت: عن عمد تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به جدك من مجده، فقال الفضل: أحسنت! بارك الله فيك، مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس! فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد: أتروي كلمة عدي بن الرقاع:
عرف الدِّيار توهُّما فاعتادها
…
؟
قلت: نعم، قال: هات، فمضيت فيها، حتى إذا صرت إلى وصف الجمل، قال لي الفضل: ناشدتك بالله أن تقطع علينا ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب، فقال الرشيد: اسكت، فالإبل هي التي أخرجتك من دارك، واستلبت تاج ملكك، ثم ماتت وعملت جلودها سياطًا، ضربت بها أنت وقومك، فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب والحمد لله، فقال الرشيد: أخطأت، الحمد لله على النعم، ولو قلت: أستغفر الله كنت مصيبًا. ثم قال لي: امض في أمرك، فأنشدته، حتى إذا بلغت إلى قوله:
تزجي أغنَّ كأنَّ إبرة روقه ..
استوى جالسًا، ثم قال: أتحفظ في هذا ذكرًا؟ قلت: نعم، ذكرت الرواة أن الفرزدق قال: كنت في المجلس، وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدة، قلت لجرير مسرًّا إليه: هلم نسخر من هذا الشامي، فلما ذقنا كلامه يئسنا منه، فلما قال: تزجي أغن كأن إبرة روقة .. وعدي كالمستريح، قال جرير: أما تراه يستلب بها مثلًا؟ فقال الفرزدق: يا لكع إنه يقول:
قلمٌ أصاب من الدَّواة مدادها
فقال عدي: قلم أصاب من الدواة مدادها.
فقال جرير: أكان سمعك مخبوءًا في صدره؟ ! فقال له: اسكت، شغلني سبك عن جيد الكلام! فلما بلغ إلى قوله:
فلقد أراد الله إذ ولّاكها
…
من أمَّةٍ إصلاحها ورشادها
قال الرشيد: ما تراه قال حين أنشد هذا البيت؟ قلت: قال: كذاك أراد الله، فقال الرشيد: ما كان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال: ما شاء الله، قلت: وكذا جاءت الرواية، فلما أتيت على آخرها قال: أتروي لذي الرمة شيئًا، قلت: الأكثر، قال: فما أراد بقوله:
ممرُّ أمرتَّ فتله أسديَّةٌ
…
ذراعيَّةٌ حلَّالةٌ بالمصانع
قلت: وصف حمار وحش أسمنه بقل روضه تواشجت أصوله، وتشابكت فروعه، من مطر سحابة كانت بنوء الأسد، ثم في الذراع من ذلك، فقال الرشيد: أرح فقد وجدناك ممتعًا، وعرفناك محسنًا، ثم قال: أجد ملالة، ونهض، فأخذ الخادم يصلح عقب النعل في رجله، وكانت عربية، فقال الرشيد: عقرتني يا غلام، فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم، أما إنها لو كانت سندية لما احتجت إلى هذه الكلمة! فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي، كما نعارض فلا تترك من جواب ممض! ثم قال: يا غلام، يؤمر صالح الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه، ولا يحجب في المستأنف، فقال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين، ولا يأمر فيه غيره، لأمرت لك بمثل ما أمرت لك، وقد أمرت لك به إلا ألف درهم، فتلق الخادم صباحًا. قال الأصمعي: فما صليت من غد إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.