الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد هذا أورد ابن الأنباري القصيدة أتم ما رواعا القالي.
وذو الإصبع العدواني اختلف في اسمه واسم أبيه، فقيل: حرثان بن محرِّث، هذا هو الكثير المشهور، وقيل العكس، وقيل غير ذلك، وحرثان، بضم أوله، وإسكان ثانية، ومحرث: اسم فاعل من التحريث، ونسبته إلى عدوان، بسكون الدال، واسمه: الحارث بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر، وإنما سمي. عدوان لأنه عدا على أخيه، فهمَّ بقتله، وقيل: فقأ عينه، وذو الإصبع: شاعر معمّر من شعراء الجاهلية، قال أبو حاتم في كتاب "المعمرَّين": عاش. ذو الإصبع، وهو حرثان بن المحرث العدواني، ثلاثمائة سنة، وقيل غير هذا، وهو أحد حكام العرب في الجاهلية، وسمي ذو الأصبع لأنه كانت له في رجله أصبع زائدة، وقيل: لأن حية نهشت أصبعه فقطعها، وقيل: لأن حية نهشته على أصبعه فشلت، أي: يبست واسترخت، وقد استقصينا ترجمته في الإنشاد الخامس والثمانين بعد الثلاثمائة من شواهد الرضي.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الخامس والثلاثون بعد المائتين:
(235)
ومنهلٍ وردته عن منهل
على أن "عن" فيه بمعنى "بعد" قال أبو حيان: هذا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي، وهذا المصنف، واستدلوا بقوله تعالى:{لتركبن طبقًا عن طبق} [الانشقاق /19] وبأبيات منها: {ومنهلٍ وردته عن منهل} .
ثم قال: وينبغي على قول الكوفيين ومن تبعهم أن تكون "عن" ظرفًا، لأنها بمعنى بعد، ولا أعلم أحدًا قال فيها إنها اسم، إلا إذا دخل عليها حرف الجر. وقال بعض أصحابنا: وقعت في هذه المواضع "عن" موقع "بعد"
لتقارب معنييهما، لأن "عن" يكون لما عدا الشيء وتجاوزه، و"بعد" لما تبعه وعاقبه، فإذا جاء الشيء فقد عدا وقته وتجاوزه. انتهى.
وهذا التأويل سائغ في:
قرّبا مربط النَّعامة منّي
…
لقحت حرب وائلٍ عن حيال
وفي:
لئن منيت بنا عن غبِّ معركةٍ
…
لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل
أي: ننتفي. وقال بعض شيوخنا في قوله:
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها
نوؤم الضُّخى لم تنتطق عن تفضُّل
الذي يظهر أن الانتطاق لما كان بعد التفضل، صار شبيهًا بما يكون مسببًا عنه، وكذا الكلام في قوله:
ومنهلٍ وردته عن منهل
انتهى. والبيت من شواهد "أدب الكاتب" ومنه أخذ المصنف، قال شارحه الحواليقي: هو للعجاج، وبعده:
قفرين هذا ثمَّ ذا لم يؤهل
يريد: رب! مورد وردته بعد آخر نزلته، قفرين لم يردهما أحد خاليين،
يعني: المنهلين. لم يؤهل: لم يحلَّ به قوم فيكونوا أهله. انتهى. وكذا قال ابن السيد في شرحه، وزاد بعده:
كأنَّ نسج العنكبوت المرمل
…
على ذرى قلَّامه المهدِّل
سبوب كتّانٍ بأيدي الغزَّل
ثم قال: وأنشده ابن الأعرابي في "نوادره" في رجز لعبد الله بن رواحة الأنصاري، وأنشد بعده:
قفرٍ به الأعطان لم تسهَّل
…
عليه نسج العنكبوت المرمل
طال ولم يقطع ولم يوصَّل
انتهى. أقول: الذي أورده ابن الأعرابي في "نوادره" أرجوزة، قال: أنشدني بكير بن عبيد الربعي:
يا زيد زيد اليعملات الذُّبَّل
إلى أن قال بعد أحد عشر بيتًا:
ومنهلٍ وردته عن منهل
…
قفرٍ به الأعطان لم تُسهَّل
عليه نسج العنكبوت المرمل
…
طال فلم يقطع ولم يوصَّل
قردانه هزلى كحبِّ الحنظل
…
يا زيد هل عندك من معوَّل
وبقي بعد هذا أبيات أربعة لا حاجة لنا بها. قوله: يا زيد زيد اليعملات
الذبل: هذا من شواهد سيبويه، قال الأعلم: الشاهد فيه إقحام زيد الثاني بين الأول وما أضيف إليه، والتقدير: يا زيد اليعملات زيدها، فحذف الضمير اختصارًا، وقدم فاتصل باليعملات، فوجب له النصب، وقد كان زيد الأول مضافًا إليها، فبقي على نصبه، وجاز هذا لأن النداء كثير الاستعمال، فحتمل التغيير، ورفع زيد الأول أكثر وأقيس، لأنه منادى مفرد بيِّن باسم مضاف على طريق البدل، وعطف البيان الذي يقوم مقام الصفة. واليعملات، بفتح التحتيّة والميم: الإبل القوية على العمل، والذبل: الضامرة لطول السفر، وأضاف زيدًا إليها لحسن قيامه عليها ومعرفته بحدائها. وقد وقع هذا البيت أول بيتين لعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه، قالها في غزوة مؤتة خاطب بهما يتيمًا كان في حجره، خرج به إلى غزوة مؤنة، وهو زيد بن أرقم، وثانيهما:
تطاول اللَّيل عليك فانزل
والله أعلم بحقيقة الحال. وقوله: ومنهل، أي: ربَّ منهل، قال الصاغاني في "العباب": المنهل: المورد، وهو عين ماء تردها الإبل في المراعي، وتسمى المنازل التي في المفاوز على طريق السفار: مناهل، لأن فيها ماء، وما كان على غير الطريق لا يسمى منهلًا، ولكن يقال: ماء بني فلان. انتهى.
وقفر، بالجر: صفة لمنهل، والأعطان: جمع عطن –بفتحتين – وهو مبرك الإبل حول الحوض، وقوله: لم تسهل، يريد: ترعرت وصارت فيها الحجارة، فإن السهل ضد الحزن، وقوله: عليه نسج العنكبوت المرمل؛ والمرمل: اسم مفعول من أرملت الخوص ورملته ترميلًا: إذا رفقت نسجه وسفيفه، يقول: نسج عليه العنكبوت نسجًا رقيقًا لخلوه من الواردين، وطول العهد بالمارة عليه،
وكان حق المرمل أن يكون مرفوعًا، لأنه صفة نسج، لكنه جره لمجاورة العنكبوت، ومثله ما استشهد به سيبويه من قول العجاج:
كأنَّ نسج العنكبوت المرمل
…
على ذرا قلَّمه المهدَّل
سبوب كتّانٍ بأيدي الغسُّل
القلام كزَّار: ضرب من النبت الذي يعرف بالقاقّلى، زالذرا: الأعالي، جمع ذروة، والمهدّل: المتدلي الأغصان، يعني: أن العنكبوت قد نسجت على القَّلام الذي حول هذا الماء، والسبوب: جمع سب، بالكسر، وهو ثوب رقيق من كتان أبيض، شبه ما نسجت العنكبوت على هذا الماء بثوب رقيق من الكتان، والغسَّل: جمع غاسل وغاسلة، وجاء بالمرمل مجرورًا بمجاورته للعنكبوت المجرور وحقه النصب، لأنه نعت لنسج وقوله: قردانه: جمع قراد، وهزلي: جمع هزيل بمعنى مهزول، كقتلى جمع فتيل، وهزاله من جوعه، لأن هذا المنهل لا يأتيه حيوان حتى يمصَّ دمه، فهو قفر، والعرب تفتخر بقطع القفار التي لا يهتدي فيها أحد، وقال ابن السيد: المرمل: المنسوج، يقال: رملت الحصير وأرملته، وهو مخفوض على الجوار، ويجوز أن يكون صفة للعنكبوت على أنه يريد: المرمل نسجه، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه النسج مقامه، فاستتر في المرمل، لأن الضمير المرفوع إذا كان مفردًا استتر في الفعل وما ينوب مناب الفعل، وإنما يظهر في التثنية والجمع، وعلى هذا الوجه يحمل قول العرب:"هذا حجر ضبّ خربٍ" فيكون خرب صفة لا مخفوضًا. وهذا الشعر فسرناه على ما رواه النحويون، لأنهم رووه بفتح الميم من المرمل، فاحتيج فيه إلى هذا التكلف، ولو روي بكسر الميم لم يحتج إلى هذا، وكان صفة للعنكبوت على ما بحث.