الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنّني حيثما يدني الهوى بصري
…
من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور
فمن جوز إضافة حيث إلى المفرد فما مصدرية، أي: من حيث السلوك، ومن لا يجوز يقدر ما زائدة. وقال أبو حيان في "الارتشاف": والجملة التي تضاف إليها حيث شرطها أن تكون خبرية اسمية، أو فعلية مثبتة مصدرة بماضٍ أو مضارع مثبتين أو منفيين بلم أو لا، فأما قوله: من حيث ما سلكوا؛ فما زائدة. انتهى.
وكذلك "ما" في حيثما الأولى، والنجاح، بفتح النون: الظفر بالشيء، كالنجح بضمها، والغابر: من غبر غبورًا؛ إذا بقي، وغابر الأزمان: ماضيها ومستقبلها، لأن المستقبل باقٍ، وهذا هو المراد هنا، والأزمان: جمع زمن.
حرف الخاء المعجمة
خلا
أنشد فيه، وهو الإنشاد الرابع بعد المائتين:
(204)
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل
…
وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائل
على أن خلا إذا تقدمها ما المصدرية وجب نصب المستثنى بها. قال أبو حيان في "شرح التسهيل": وأجاز الكسائي والجومي وأبو علي في "كتاب الشعر" والرَّبعي الجر بعد ما خلا وما عدا، فعلى قولهم تكون ما زائدة، وخلا وعدا حرفا جر. قال بعض أصحابنا: النصب هو الكثير الشائع، والجرمي يخفض، فإن كان ذلك منه قياسًا فهو فاسد، لأنه ليس من مواضع زيادتها، وإن كان حكي ذلك فهو شذوذ. انتهى. والجرمي حكاه عن العرب، ذكر ذلك في باب الجر من كتاب "الفرح" فإن قلت: هلا جعلت ما زائدة مع النصب، كما جعلتها زائدة مع الخفض؛ فالجواب إن دخول ما المصدرية على الفعل منقاس، وزيادة ما قبل الفعل لا ينقاس، فكان حملها على ما ينقاس أولى. إلى هنا كلام أبي حيان.
والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي، رثى بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهذه أبيات من أولها:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
…
أنحب فيُقضى أم ضلال وباطل
حبائله مبثوثة في سبيله
…
ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل
إذا المرء أسرى ليلة خال أنَّه
…
قضى عملًا والمرء ما عاش عامل
فقولا له إن كان يقسم أمره
…
ألَّما يعظك الدَّهر أمُّك هابل
فتعلم أن لا أنت مدرك ما مضى
…
ولا أنت مّما تحذر النَّفس وائل
فإن أنت لم تصدُقك نفسك فانتسب
…
لعلَّك تهديك القرون الأوائل
فإن لم تجد من دون عدنان والدًا
…
ودون معدٍّ فلترعك العواذل
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
…
بلى كلُّ ذي رأي إلى الله واسل
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطل
…
وكلُّ نعيم لا محالة زائل
وكلُّ أناسٍ سوف تدخل بينهم
…
دويهية تصفرُّ منها الأنامل
وكلُّ امرئ يومًا سيعلم سعيه
…
إذا كشفت عند الإله الحصائل
ليبك على النعمان شرب وقينة
…
ومختبطات كالسَّعالى أرامل
قوله: ألا تسألان المرء
…
إلخ. يأتي شرحه، إن شاء الله تعالى، في بحث "ما". وقوله: حبائله مبثوثة .. إلخ: جمع حبالة، بالكسر، وهي الشرك، والضمير للموت المفهوم من المقام، وأراد بحبائله: الأحداث التي هي سبب الموت، ومبثوثة: مفرقة، والضمير في سبيله للمرء، ويفنى: يهرم.
وقوله: إذا المرء أسرى .. إلخ: لغة في سرى، يقول: إذا سهر المرء ليلة في عمل ظن أنه قد فزع منه، وهو ما عاش يعرض له مثل ذلك، وهو أبدًا ما دام حيًا لا ينقطع عمله ولا حوائجه.
وقوله: فقولا له .. إلخ، أقسم: بمعنى قدر، يعني: قولًا له إن كان يدبر أمره وينظر فيه: ألم يعظك من مضى قبلك في سالف الدهر، هل رأيته بقي عليه أحد؟ ثم دعا عليه، فقال: أمك هابل؛ يقال: هبلته أمه، أي: ثكلته، وقوله: فتعلم، بالنصب: جواب ألمّا، وأن: مخففة من الثقيلة، ووائل: من والت النفس، أي: نجت، والموئل: المنجى.
وقوله: فإن أنت لم تصدقك نفسك .. إلخ، يأتي إن شاء الله شرحه مع البيت الذي بعده في الباب الرابع.
وقوله: أرى الناس .. إلخ، الواسل: الطالب الذي يطلب، من قولك: أنت وسيلتي إلى فلان، واستشهد به صاحب "الكشاف" على أن الوسيلة في قوله تعالى:(وابتغوا إليه الوسيلة)[المائدة/35]: ما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الخيرات، واجتناب المعاصي. والواسل: هو الراغب إلى الله، بمعنى ذو وسيلة، أو هو كتامر ولابن، وروي "اللب" وهو العقل، بدل الرأي، والمعنى: أرى الناس لا يعرفون ما هم فيه من خطر الدنيا وسرعة زوالها، فالعاقل اللبيب من يتوسل إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح.
وقوله: وكل أناس سوف تدخل .. إلخ، تقدم شرحه في الشاهد الواحد والستين.
وقوله: وكل امرئ يومًا .. إلخ، سعيه: عمله، والحصائل: الحسنات سيئات التي حصّلها وبقيت له عند الله. ثم شرع بعد هذا في ذكر تقلب الدهر بأهله، وبدأ بذكر النعمان وما فيه من سعة الملك ونعيم الدنيا، ثم ذكر ملوك الشام إلى غسان، وما فعل الدهر بهم فبادوا كأن لم يكونوا.
وقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وقع في بعض الروايات هذا البيت مطلع القصيدة، ورى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
وفي رواية لهما: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء .. إلخ". وقد روي أيضًا بألفاظ مختلفة منها: "إن أصدق بيت قاله الشاعر" ومنها: "أصدق بيت قالته الشعراء" وكلها في الصحيح، وكلها من وصف المعاني بما يوصف به الأعيان، كقولهم شعر شاعر، ويصاغ منهما أفعل باعتبار ذلك المعنى، فيقال: شعرك أشعر من شعره.
وروى ابن إسحاق في مغازيه أن عثمان بن مظعون مرَّ بمجلس من قريش في صدر الإسلام، ولبيد بن ربيعة ينشدهم: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل، فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول أبدًا، فقال لبيد: يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم! فقال رجل: إن هذا سيفه من سفهائنا، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من وقوله، فرد عليه عثمان، فقام إليه ذلك الرجل، فلطم عينه فخضّرها، فقال الوليد بن المغيرة لعثمان: إن كانت عينك لغنية عما أصابها لم رددت جواري! ؟ فقال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة لمثل ما أصاب أختها في الله، لا حاجة لي في جوارك!
وروى أحمد بن حنبل في "زوائد الزهد" أن لبيدًا قدم على أبي بكر الصديق، فقال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل .. فقال: صدقت، فقال: وكل نعيم لا محالة زائل. فقال: كذبت، عند الله نعيم لا يزول، فلما ولَّى قال أبو بكر: ربما قال الشاعر الكلمة من الحكمة.
وأخرج السَّلفي في "المشيخة البغدادية" من طريق هاشم عن يعلى عن ابن جراد قال: أنشد لبيد النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال:"صدقت" فقال: وكل نعيم لا محالة زائل، فقال له: "كذبت، نعيم
الآخرة لا يزول" وأجاب العيني عن ذلك من وجهين، الأول: أن لبيدًا إنما قال ذلك قبل أن يسلم، فيمكن أن يكون في اعتقاده في ذلك الوقت أن الجنة لا وجود لها، أو كان يعتقد وجودها ولكن لا يعتقد دوامها، كما ذهب إليه طائفة من أهل الأهواء والضلال. والثاني: أنه يمكن أراد به ما سوى الجنة من نعيم الدنيا؛ لأنه كان في صدد ذم الدنيا، وبيان سرعة زوالها، وأما تكذيب عثمان إياه، فلكونه حمل الكلام على العموم. انتهى.
وقال ابن حجر في "شرح البخاري" في باب الشعر: التعبير يوصف كل شيء بالبطلان تندرج فيه العبادات والطاعات، وهو حق لا محالة. وأجيب بأن المراد ما عدا الله، وما عدا صفاته الذاتية والفعلية من رحمة وعذاب، أو المراد بالبطلان الفناء لا الفساد، وكل شيء سوى الله سوى الله جائز عليه الفناء لذاته، حتى الجنة والنار، وإنما يبقيان بإبقاء الله تعالى لهما، وخلق الدوام لأهلهما، والحق على الحقيقة: من لا يجوز عليه الزوال لذاته. انتهى.
ومثله للسيوطي في "البدور السافرة" عند ذكر قوله تعالى: (كلُّ شيء هالك
…
) [القصص/88] أي: قابل للهلاك، وكل محدث قابل لذلك وإن لم يهلك، بخلاف القديم الأزلي، ويؤيد ذلك أن العرش لم يرد خبر أنه يهلك، فلتكن الجنة مثله، وقال في موضع آخر من ذلك الكتاب: وفي بحر الكلام قال أهل السنة: سبعة لا تفنى: العرش، والكرسي، واللوح، والقلم، والجنة، والنار بأهلهما، والأرواح. وقال صاحب "المفهم شرح مسلم": وكذا
البيهقي وغيره من المحدّثين: إن هذه السبعة يقع لها هلاك نسبي، وهو غشيان يمنع الإحساس وقتًا ما من الأوقات. قلت: والظاهر قلة ذلك على تقدير صحته بين النفختين عند قوله تعالى: (لمن الملك اليوم)[غافر/16] فلا يجيبه أحد كما وردت به الروايات. انتهى.
والباطل هنا: الذاهب الزائل، ومعناه: الهالك الفاني، أي: القابل للهلاك والفناء، وقال بعضهم: الباطل في الأصل: ضد الحق، والمراد به هنا ضد الحق، وقال العيني: الباطل: ضد الحق، وفي عرف المتكلمين: الباطل: الخارج عن الانتفاع، والفاسد يقرب منه، والصحيح ضده، وفي عرف الشرع: الباطل من الأعيان: ما فات معناه المقصود المخلوق له من كل وجه بحيث لم يبق إلا صورته، ولهذا يذكر في مقابلة الحق الذي هو عبارة عن الكائن الثابت، وفي الشرع يراد به ما هو المفهوم منه لغة، وهو ما كان فائت المعنى من كل وجه مه وجود الصورة، إما لانعدام محلية التصرف كبيع الميتة والدم، أو لانعدام أهلية المتصرف، كبيع المجنون والصبي الذي لا يعقل. فإن قلت: ما معناه هنا؟ قلت: المعنى: كل شيء سوى الله تعالى زائل فائت مضمحل ليس له دوام. انتهى. والمحالة بالفتح قال الجوهري: قولهم: لا محالة، أي: لا بدّ. وترجمة لبيد تقدمت في الإنشاد الواحد والستين.