الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحباب الشاعر، وبه تخرج وعرض القرآن على يعقوب الحضرمي، وأخذ اللغة عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة. ومدح الخلفاء والوزراء، وكان في الشعر من الطبقة الأولى من المولدين، قال أبو عبيدة: هو للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين، وشعره عشرة أنواع، وهو مجيد في الكل، ومازال العلماء والأشراف يروون شعره ويتفكهون به، لأنه محكم القول لا يخطئ، ويفضلونه على أشعار القدماء. وقال أبو عمرو الشيباني: لولا أن أبا نواس أفسد شعره بهذه الأقذار لاحتجنا به.
وقد اعتنى بجمع شعره جماعة منهم أبو بكر الصولي، ومنهم علي بن حمزة الأصبهاني ومنهم إبراهيم بن أحمد الطبري، وجمع أبو هفان ما قاله على وجه الخلاعة والاستهتار، ونوادره المعجبة، وأخباره المطربة في مجلد لطيف.
"عوض"
وأنشد فيه، وهو الإنشاد الثالث والأربعون بعد المائتين:
(243)
رضيعي لبان ثدي أمِّ تقاسما
…
بأسحم داجٍ عوض لا نتفرَّق
على أنه ظرف لنتفرق، يرد عليه أن "لا" النافية لها الصدر فتمنع عمل ما بعدها فيها قبلها؛ وأجاب عنه المصنف في آخر النوع الثاني عشر من الجهة السادسة من الباب الخامس، بأنه مغتفر، لتوسعهم في الظروف. وكذا هو عند الرضي وابن يعيش وشارح "اللباب" والجميع تابعون لابن جني في "إعراب الحماسة" قال: روي قول الأعشي: "عوض لا نتفرق" بالفتح والضم، أي: لا نتفرق أبدًا، وذهب الكوفيون إلى أن "عوض" هنا قسم، وأن "لا نتفرق" إنما
هو جوابه، وليس الأمر عندنا كذلك، وإنما قوله:"لا نتفرق" جواب تقاسما،
كقوله تعالى: {تقاسَموا باللهٍ لنُبيّننّهُ} [النمل/49] أي: تحالفا على ذلك، انتهى. وممن قال: إن عوض في لبيت ظرف مستقبل لنتفرق، أبو زيد، قال: قوله: عوض لا نفترق، أي: لا نتفرق أبدًا.
ونقل الأزهري عنه بأنه يستعمل في ظرف الماضي أيضًا، قال: وقال أبو زيد: يقال: لا أفعله عوض، أي: أبدًا، ويقال: ما رأيت مثله عوض، لم أر مثله قط. وأنشد:
فلم أر عامًا عوض أكثر هالكًا
…
ووجه غلامٍ يشترى وغلامه انتهى.
وكذا، نقل العسكري في كتاب"التصحيف" عن ابن دريد قال: قرأت عن أبي بكر ابن دريد:
فلم أر عامًا عوض. . البيت."عوض": اسم معرفة، وهو اسم للدهر، يضم ويفتح، والبصريون يقولونه بالضم، ومثله قول الأعشى:"عوض لا نتفرق" أي: لا نتفرق الدهر. انتهى.
وقوله: وهو اسم معرفة، قصد به الرد على الليث فيما نقله الأزهري والصاغاني عنه، قالا: قال:
وبعض الناس يقول: هو الدهر والزمان، يقول الرجل لصاحبه: عوض لا يكون ذلك أبدًا، فلو كان عوض اسمًا للزمان لجرى بالتنوين، ولكنه حرف يراد به القسم، كما أن أجل ونعم، ونحوهما مما لم يتمكن في التصريف حمل على غير الإعراب. انتهى. ووجه كونه معرفة بناؤه على الضم لتضمنه معنى لام
التعريف. قال المرزوقي: عوض اسم الدهر معرفة مبني، وكما ينبني على الفتح ينبني على الضم.
وبناؤه على الضم حكاه الكوفيون، وإنما بني لتضمنه معنى الألف واللام. انتهى.
والقول بأنه حرف لا اسم واه جدًا. وقول المصنف: وقال ابن الكلبي: قسم؛ وهو اسم صنم،
هذا قول الكوفيين، جعلوه مقسمًا به، قال ابن السيد في شرح أبيات"الجمل" وفي شرح أبيات
"أدب الكاتب" وتبعه اللخمي: من جعل"عوض" اسم صنم جاز في إعرابه ثلاثة أوجه؛
أحدهما: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال: عوض قسمنا الذي نقسم به، وجاز أن يكون في موضع نصب، على أن تقدر فيه حرف الجر وتحذفه، كقولك: يمين الله لأفعلن، ويجوز أن يكون في موضع خفض على إضمار حرف القسم، وهو أضعف الوجوه. ومن اعتقد هذا لزمه أن يجعل الباء في قوله"بأسحم" بمعنى"في" انتهى. وقد ردَّ المصنف هذا القول بأنه لو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت، يريد: أنه فيه مبني بناء الظروف المقطوعة عن الإضافة. ولو كان اسم الصنم لأعرب كما أعرب في قوله: حلفت بمائراتٍ حول عوضٍ
وكان الواجب حينئذ إما جره بحرف القسم، أو نصبه بحذفها، بالتنوين فيها، لأنه عند هذا القائل مقسم به، وجملة"لا نتفرق" جوابه، فإنتفاء إعرابه ينتفي كونه اسم صنم، لتقدم المقسم به قبله، ولبنائه. وأيضًا لا يجوز حذف حرف القسم عند ذكر الفعل. انتهى.
ومراد المصنف أن عوض الواقع في بيت الأعشي اسم صنم عند ابن الكلبي، وهو مقسم به، كما بينه ابن السيد وغيره، فلا يتأتى ما تكلفه الدمامينى بقوله: يمكن أن يصحح كلام ابن الكلبي بأن يكون معنى قوله: إن عوض قسم، أنه ساد مد القسم، فأطلق عليه أنه قسم بهذا الاعتبار، وبناؤه حينئذ متجه، لأنه ظرف مقطوع عن الإضافة، وتقديمه على عامله لغرض جعله قائمًا مقام الجملة القسمية،
فإن قلت: قوله: وهو اسم صنم يأبى ذلك. قلت: هو عائد على عوض، لا باعتبار كونه ظرفًا سد مد القسم بل باعتبار لفظه فقط، فيكون من باب الاستخدام. هذا كلامه.
والبيت من قصيدة للأعشى، مدح بها المحلق العامري، وقبله:
لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ
…
إلي ضوء نارٍ في يفاعٍ تحرَّق
تشبُّ لمقرورين يصطليانها
…
وبات على النّار النَّدى والمحلَّق
رضيعي لبان ثدي أمٍّ تقاسما
…
البيت
وقد تقدم شرح البيتين مفصلاً في الإنشاد التاسع والثلاثين بعد المائة. وقوله: رضيعي لبان،
منصوب على المدح، وجوز ابن السيد واللخمي أن يكون حالً من الندى والمحلق، ويكون قوله: على النار، خبر بات والعكس، وأن يكونا خبرين. أقول: أما الأول، ففيه مع ضعف مجيء الحال
من المبتدأ المنسوخ، فساد المعنى، لأنه يقتضي أن يكونا غير رضيعين في غير بيانهما على النار،
وجودة المعنى تقتضى أنهما رضيعان مذ ولد. وأما الأخيران ففيهما قبح التضمين الذي هو من عيوب الشعر، وهذا يرد أيضًا على الحالية وعلى جعله بدلاً
من مقرورين، وعلى جعله صفة له، ورضيع هنا بمعنى مراضع. قال الرضي: وأما الفعيل بمعنى الفاعل
كالجليس، فليس للمبالغة، فلا يعمل اتفاقًا، فإضافة رضيعي إلي لبان ليس من الإضافة إلي المفعول به المسرح، بل إلي المقيد على التوسع بحذف حرف الجر، لأنه يقال: رضيعه بلبان أمه، فحذف الباء،
فانتصب لبان، وأضيف إليه الوصف. وثدي بالجر: بدل من لبان، وعلى رواية النصب بدل أيضًا،
لكن بتقدير مضاف مجرور فيهما، أي: لبان ثدي، فلما حذف المضاف انتصب، أو هو منصوب بنزع الخافض، أي: من ثدي أمّ، ولا يجوز الإبدال على محل لبان، لأن شرطه كالعطف على المحل،
إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح، والأجود أن يكون رضيع بمعنى راضع، وتكون المشاركة
من التثنية، فيكون رضيعي مضافًا إلي مفعوله، لأنه ماض، واسم الفاعل الماضي تجب إضافته
إلي ما يجيء بعده، مما يكون في المعنى مفعولاً، فيكون ثدي أمٍّ بدلاً من لبان، بتقدير مضاف مجرور، أي: رضيعي لبان، لبان ثدي أمّ، أو يكون بدلاً من لبان على المحل، على قول من لا يشترط المحرز الطالب لذلك المحل. وقال الأندلسي: رضيع هنا للمبالغة، وعليه يكون عاملاً عما فعله.
واللبان بالكسر: لبن المرأة خاصة، واللبن عام يشمل لبنها ولبن غيرها. وقد أخذ هذا المعنى الكميت، وأوضحه في مدح مخلد بن يزيد فقال:
ترى النَّدى ومخلدا حليفين
…
كانا معًا في مهده رضيعين
تنازعا فيه لبان الثَّديين
…
. . . . . . . . . . . . .
وفيه لطف مبالغة، لجعلهما أخوين من جنس واحد. وتقاسما: تفاعلا، القسم، أي: أقسم كل منهما لا يفارق أحدهما الآخر. وروي: "تحالفا" وهو بمعناه. والباء في قوله: بأسحم، داخله على المقسم به، واختلف في معناه،
قال ابن السيد: فيه سبعة أقوال، أحدهما: هو الرماد، وكانوا يحلفون به،
قال الشاعر:
حلفت بالملح والرَّماد وبالنّار [وبالله] نسلم الحلقه
ثانيها: هو الليل، ثالثها: هو الرحم، رابعها: هو الدم، لأنهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا.
حكي هذه الأقوال الأربعة يعقوب. خامسها: هو حلمة الثدي، سادسها: هو زق الخمر،
سابعها: هو دماء الذبائح إلي تذبح للأصنام، وجعله أسحم لأن الدم إذا يبس اسود. وأبعد هذه الأقوال قول من قال: إنه الرماد، لأنه لا يوصف بأسحم ولا داج، وإنما يوصف بأنه أورق. انتهى. وقال الأزهري في"التهذيب": قال أبو زيد: أراد بأسحم داج: الليل، وقال الليث: أراد سواد حلمة الثدي، وقيل زق لخمر. انتهى. وقال الحريري في"درة الغواص": عني بالأسحم الداجي: ظلمة
الرحم المشار إليها في قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ في بطوُنِ أمّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ}
[الزمر/6] وقيل: بل عني به الليل، وعلى كلا هذين التفسيرين فمعنى تقاسما فيهما، أى: تحالفا،
وقد قيل: إن المراد بلفظة"تقاسما": اقتسما، وأن المراد بالأسحم الداجي: الدم، وقيل: اللبن،
لاعتراض السمرة فيه، وبالداجي: الدائم انتهى. ولا وجه لتفسير تقاسما باقتسما على تفسير الأسحم
بأحد المعنيين الأخيرين، وكيف يصح تفسير الداجي بالدائم، مع أنه من الدجية، وهو الظلام!
وجملة"لا نتفرق": جواب القسم،