الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثاني والتسعون بعد المائة:
(192)
سريت بهم حتّى تكلَّ مطيُّهم
…
وحتّى الجياد ما يقدن بأرسان
على أن "حتى" فيه ابتدائية، وزعم ابن السيد أنها عاطفة لجملة "تكل" على جملة "سريت بهم". أقول: قاله في "شرح شواهد الجمل الزجاجية" وهذه عبارته هناك: الباء متعلقة بسريت، وهي الباء التي تعاقب همزة النقل، نحو قولك: ذهبت به وأذهبته، وتكل مطيهم: جملة في موضع خفض بحتى، وتقديرها تقدير المصدر الساد مسد الظرف، كأنه قال: إلى حين كلال مطيهم. هذا في رواية من نصب تكل، ورفعه على وجهين، أحدهما: أن ترفعه مقدراً بالماضي، بمعنى إلى أن كلت، والثاني: أن يكون بمعنى الحال. وأما من رفع فليست الجملة مخفوضة الموضع، ولكنها معطوفة على سريت، كأنه قال: سريت بهم حتى كلت، فهي حال محكية بعد زمان وقوعها، فلذلك تقدر بفعل ماض، كأنه قال: سريت بهم حتى صاروا بهذه الحال، والحال محكي بعد وقوعها، كقولك: رأيت زيدًا أمس وهو راكب، فقولك: وهو راكب، حال بالإضافة إلى وقت الركوب والرؤية، وهي ماضية بالإضافة إلى وقت إخبارك. وقوله: ما يقدن بأرسان؛ جملة في موضع رفع على خبر المبتدأ، وكأنه قال: وحتى الجياد غير مقودات، أو غير مقودة، والباء في "بأرسان" متعلقة بـ"يقدن" والسرى: سرى الليل، ومعنى ما يقدن بأرسان: أنها قد أعيت، فلا تحتاج أن تقاد، كقول الآخر:
من الكلال ما يذقن عودا
…
لا عقلاً تبغي ولا قيودا
انتهى كلامه. وإليه ذهب ابن خلف في "شرح شواهد سيبويه" عند قوله: والزاد حتى نلعه ألقاها .. البيت المتقدم، قال: نعله فيمن رفع: مبتدأ، وألقاها: خبره، وتكون الجملة معطفوة على الجملة المتقدمة، ورده المصنف بأن شرط معطوفها أن يكون جزءًا مما قبلها أو كجزء، ولا يتأتى ذلك إلا في المفردات، واعترضه الدماميني بأنه يجوز في بعض الجمل أن يكون مضمون إحداها بعضًا من مضمون أخرى، كما تقول: أكرمت زيدًا بما أقدر عليه، حتى أقمت نفسي خادمًا له، فإقامة نفسك خادمًا بعض من الإكرام بما تقدر عليه، وكذا قولك: بخل علي زيد بكل شيء حتى منعمي دانقًا، فمنع الدائنق بعض من البخل بكل شيء، وقد نص علماء المعاني على أن الجملة الثانية تنزل منزلة البعض من الأولى، كقوله تعالى:(أمدّكم بما تعلمون أمّكم بأنعام وبنين)[الشعراء/132 و 133]. انتهى.
وأنشده سيبويه في موضعين من "كتابه" الأول على أن ما بعد حتى الثانية مرفوع، يعني أن حتى ابتدائية، والموضع الثاني "باب اسم الجمع" أنشده كذا:"سريت بهم حتى تكل ركابهم" وفي الموضع الأول رواه: "حتى تكل مطيهم".
والبيت من قصيدة لامرئ القيس، قالها عندما تشقق لحمه من الحلة المسمومة التي أرسلها قيصر إليه، فلبسها بعد خروجه من الحمام، ومطلعها:
قفانبك من ذكرى حبيب وعرفان
…
ورسم عفت آياته منذ أزمان
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
…
فليس على شيء سواه بخزَّان
فإمَّا تريني في رحالة جابر
…
على حرج كالقرِّ يخفق أكفاني
فياربَّ مكروب كررت وراءه
…
وعان فككت الغلَّ عنه ففدّاني
وهكذا سلَّى نفسه، وافتخر بما فعه في شبابه وصحته، إلى أن قال:
ومجر كغلّان الأنيعم بالغ
…
ديار العدوِّ ذي زهاء وأركان
سريت بهم حتّى تكلَّ مطيّهم
…
البيت
وحتّى ترى الجون الذي كان باديًا
…
عليه عواف من نسور وعقبان
قال السعدي في كتاب "مساوئ الخمر": لما ذهب امرؤ القيس إلى قيصر يستمده لأخذ ثأره من بني أسد القاتلين أباه خف على قلب قيصر حتى نادمه، ففي ذلك يقول:
ونادمت قيصر في ملكه
…
فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكَّة
…
سبقت الغرانق سبقًا بعيدا
ولطف محله منه، فأدخله الحمام معه، فرأى غلفة قيصر، فقال:
لقد حلفت يمينًا غير كاذبة
…
أنَّك أغلف إلاّ ما جنى القمر
ختانة القمر: مثل تضربه العرب للأغلف، لأن القمر لا يختن أبداً. وفي مدة منادمته لقيصر، رأته ابنة قيصر، فعشقته وراسلته وراسلها، وصار إليها، وفيها يقول:
سموت إليها بعدما نام أهلها
…
سموَّ حباب الماء حالاً على حال
وهو من قصيدة طويلة. قالوا: ولم يزل يصير إليها، ثم أخبر بذلك أصحابه، وفيهم الطمَّاح بن قيس الأسدي، فقال له: ائتنا بأمارة، فأتاه بقارورة من طيب الملك، وذلك بفضل سكره، وكان حجر أبو امرئ القيس قد قتل قيسًا أبا الطمَّاح أيام أوقع ببني أسد، فتحيل الطماح حتى أخذها، فأنفذ بها إلى قيصر، وأخبر بالحديث فعرفه، وعلم صحته. ثم إن امرأ القيس ندم على إفشاء سره إلى الطمَّاح، ففيه يقول: إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
…
البيت.
فلما نفذ امرؤ القيس بالجيش، أتى الطمَّاح قيصروقد تغير على امرئ القيس، فقال له: أيها الملك: أهلكت جيشًا بعثته مع المطرود الذي قتل أبوه وأهل بيته، وما تريد إلى نصره! قال: فما الرأي؟ قال أن تدارك جيشك، وترده، وتبعث إلى امرئ القيس بحلة مسمومة، ففعل وعزم على امرئ القيس أن يلبسها، فدخل امرؤ القيس الحمام، فاطلَّى ولبسها، وقد رق جلده لقروح كانت به فتساقط لحمه، ورد قيصر جيشه، وقدم امرؤ القيس أنقرة، فأقام بها مدنفًا يعالج قروحه، وكان الذي حمله عندما تقرح لحمه صاحبه جابر بن حنيّ التغلبي على سرير، وإياه عنى امرؤ القيس: فإما تريني في رحالة جابر
…
البيت. قال: ونزل إلى جنب جبل يقال له عسيب، وإلى جنبه قبر لابنة بعض ملوك الروم، فسأل عن القبر فأخبر به، فقال:
أجارتنا إنَّ الخطوب تنوب
…
وإنِّي مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنّا غريبان ههنا
…
وكلُّ غريب للغريب نسيب
فلما أيقن بالموت قال:
كم طعنة مثعنجره
…
وخطبة مسحنفره
وجفنة مدعثره
…
قد غودرت بأنقره
وكان هذا آخر ما تكلم به، ومات. انتهى. ومطلع القصيدة يأتي شرحه إن شاء الله تعالى، في "مذ". وقوله: فإما تريني: خطاب لامرأة، وما زائدة، أي: فإن تريني، والرحالة بالكسر، قال الأزهري: الرحالة: أكبر من السرج، وتغشى بالجلود، تكون للخيل والنجائب من الإبل. والحرج، بفتح الحاء والراء المهملتين وبالجيم: سرير الميت، أبو عبيد عن الأصمعي: الحرج: خشب يشد بعضها إلى بعض يحمل فيه الموتى، وأنشد هذا البيت، والقر بفتح القاف: مركب للنساء، وأنشد البيت أيضًا، ويخفق: يضطرب، والعاني: الأسير، والغل بالضم: واحد الأغلال، يقال في رقبته غل من حديد، والمجر، بفتح الميم وسكون الجيم: الجيش العظيم، والغلان؛ بضم الغين المعجمة: جمع غالّ، وهو نبت، والأنيعم، بالتصغير: اسم واد، شبه الجيش بنبات ذلك الوادي في الكثرة، وبما عليهم من خضرة الأسلحة، وبالغ بالجر: صفة لمجر، وديار بالنصب: مفعوله، يعني أنه لا يمكن رده عن الموضع الذي يتوجه إليه لكثرته وعزه، وإنه لا يقاومه جيش، والزهاء، بضم الزاي والمد: المقدار في العدد، يريد: إنه لا يمكن: ضبطه بالعدد، وإنما يحزر حزرًا، فيقال: زهاء مائة ألف ونحوه، والأركان: النواحي المحيطة بالجيش.
وقوله: سريت بهم: هذا جواب ربَّ المقدرة في قوله: ومجر، وروي بدله: مطوت بهم، قال الجوهري: مطوت بالقوم مطوًا؛ إذا مددت بهم في السير، والكلال الإعياء، والمطية: الدابة التي تمطو في سيرها، وروى سيبويه: