الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الثاني والأربعون بعد المائتين:
(242)
دع عنك لومي فإنَّ اللَّوم إغراء
…
ودواني بالتي كانت هي الدَّاء
لما تقدم قبله، والبيت مطلع قصيدة لأبي نواس عدتها اثنا عشر بيتًا، وبعده:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
…
لو مسَّها حجرٌ مسَّته سرَّاء
من كفِّ ذات حرٍ في زيِّ ذي ذكرٍ
…
لها محبّان لوطيٌّ وزنَّاء
قامت بإبريقها واللَّيل معتكرٌ
…
فلاح في وجهها في البيت لالاء
فأرسلت من فم الإبريق صافيةً
…
كأنَّما أخذها بالعقل إغفاء
رَّقت عن الماء حتّى ما يلائمها
…
لطافةً وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نورًا لمازجها
…
حتّى تولَّد أنوارٌ وأضواء
دارت على فتيةٍ ذلَّ الزَّمان لهم
…
فما يصيبهم إلَّا بما شاؤوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ
…
كانت تحلُّ بها هندٌ وأسماء
حاشى لدرّة أن تبنى الخيام بها
…
وأن تروح عليها الإبل والشّاء
فقل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً
…
حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجًا
…
فإن حظركه بالدِّين إزراء
وهذان البيتان الأخيران تعويض بإبراهيم بن النظَّام، وكان مرَّ به يومًا وهو بناظر في الوعيد ويقول: إن من مات مرتكبًا لكبيرة غير تائب منها لم يعف
الله عنه، وخلده في النار، فأشار إليه بقوله: فقل لمن يدعي في العلم .. البيت. قال أبو حاتم السجستاني: إن أبا نواس كان صحب النظام صغيرًا، فأخذ الكلام منه، ثم فارقه وهجاه بقوله: فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
…
البيت. ومن العجيب هنا ما في "الحواشي الحسنية على المطول" عند ذكر قوله: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها .. البيت، فإنه قال: هو في صفاء الذهب، وقيل: هي الخمر، قال المرزباني في كتاب "الموشح": أخبرني محمد بن يحيى قال: قال المجنون:
تداويت من ليلى بليلى وحبَّها
…
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
فكان هذا من أحسن المعاني بأحسن الألفاظ، وإن كان الأصل فيه قول الأعشى:
وكأسٍ شربت على لذَّةٍ
…
وأخرى تداويت منها بها
فأخذه أبو نواس، فوالله ما بلغه وظهر في لفظه تكلف، فقال: دع عنك لومي .. البيت، والكلفة في قوله:"بالتي هي الداء". وقال البحتري سارقًا للفظ، ومقصرًا عن الطبع والمعنى:
تداويت من ليلى بليلى فما اشتفى
…
بماء الرُّبى من بات بالماء يشرق
انتهى: ولقد تحامل على أبي نواس في ادعاء الكلفة على أن مأخذ بيته ليس قول الأعشى، وإنما أخذ عجزه، وأما صدره فمن قول غلام نصراني، كما حكاه عنه أبو هفان فيما رواه جامع ديوانه على بن حمزة بن الحسن الأصبهاني قال: وروى أبو هفان عن أبي نواس قال: دخلت يومًا إلى بعض الخرابات، فرأيت قربة مملوءة ماء مسندة إلى حائط، فلما توسطت الخربة، أبصرت نصرانيًا قد علاه سقاء، فلما وقع بصره عليّ، انفصل عن النصراني، وأخذ قربته وعدا، فقام النصراني غير محتشم يشد سراويله في وجهي، وأقبل علي فقال:
أفزعت ذا نبعةٍ في رأسها كرةٌ
…
كانت شفائي وفقداني لها داء
فمرَّ يسعى بها مثل الحمار وهل
…
عارٌ بمثلي أن يعلوه سقَّاء
قال أبو نواس: فعجبت من بديهته، وقربت إليه، وقبضت على ركابه، فيما استوى في سرجه، نقر كتفي وقال: لا تلومن أحدًا على هواه، فإن لومك إياه إغراء، فانصرفت عنه سارقًا لفظته، فقتل من ساعتي:
دع عنك لومي فإنَّ اللَّوم إغراء
…
. . . . . البيت
قال ابن قتيبة في ديباجة "كتاب الشعراء": كان الناس يستجيدون قول الأعشى:
وكأسٍ شربت على لذَّةٍ
…
وأخرى تداويت منها بها
إلى أن قال أبو نواس: دع عنك لومي .. البيت، فزاد فيه معنى اجتمع له به الحسن في صدره وعجزه، فللأعشى فضل السبق، ولأبي نواس فضل الزيادة عليه. وقال الرشيد للمفضل الضبي: اذكر لي بيتًا يحتاج إلى مقارعة
الأذهان في إخراج خبيئه، ثم دعنى وإياه، فقال: أتعرف بيتًا أوله أعرابي في شملته، هابً من نومته، كأنما ورد على ركب جرى في أجفانهم الوسن، فظل يستفزهم بعنجهيّة البدو، وتعجرف الشدو، وآخره مدني رقيق، غذي بماء العقيق؟ قال: لا أعرفه، قال: هو بيت جميل:
ألا أيُّها الرَّكب النيام ألا هبُّوا
ثم أدركته رقة الشوق فقال:
أسائلكم هل يقتل الرَّجل الحبُّ
قال له: أفتعرف أنت بيتًا أوله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي ونبل العظة، وآخره إبقراط لمعرفته بالداء والدواء؟ قال: قد هوّلت علي، فليت شعري بأي مهر تفترع عروس هذا الخدر؟ ! قال: بإنصاتك وإنصافك، وهو بيت الحسن بن هانئ: دع عنك لومي .. البيت. وقد أورد هذه الحكاية ابن عبد ربه في "العقد الغوَّاص" حكاية ظريفة تتعلق ببيتي الأعشى وأبي نواس أحببت إيرادها هنا، قال: حكي أن حامد بن العباس سأل علي بن عيسى في ديوان الوزارة عن دواء الخمار وقد علق به، فأعرض عن كلامه، وقال: ما أنا وهذه المسألة! فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمر، فسأله عن ذلك، فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر /7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"استعينوا في الصناعات بأهلها" والأعشى هو المشهور بهذه الصناعة في الجاهلية، وقد قال:
وكأسٍ شربت على لذَّةٍ
…
. . . . . البيت
ثم تلاه أبو نواس في الإسلام وقال: دع عنك لومي .. البيت، فأسفر حينئذ وجه حامد، وقال لعلي بن عيسى: ما ضرك يا بارد أن تجيب ببعض ما أجاب به قاضي القضاة، وقد استظهر في جواب المسألة بقول الله، عز وجل، أولًا، ثم بقول الرسول، صلى الله عليه وسلم ثانيًا، وبينّ الفتيا، وأدى المعنى، وتفصّى من العهدة؟ ! فكان حجل علي بن عيسى من حامد بهذا الكلام أكثر من خجل حامد منه لما ابتدأه بالمسألة. هذا آخر كلام الحريري.
وأبو نواس: هو أبو علي، الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح الحكمي - بفتح الحاء والكاف - نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة، وهي قبيلة كبيرة باليمن، منها الجراح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان، وكان جد أبي نواس من مواليه، وإنما قيل له: أبو نواس؛ لذؤابتين كانتا له تنوسان على عاتقه، والذؤابة، بهمزة بعد الذال المضمومة: الضفيرة من الشعر إذا كانت مرسلة، فإن كانت ملوية فهي عقيصة، وناس ينوس: إذا تدلى وتحرك، وقيل غير ذلك. ومولده بالبصرة سنة خمس وأربعين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة، ونشأ بالبصرة، ثم خرج إلى الكوفة، وقيل غير ذلك. وأمه أهوازية واسمها جلبان، وأبوه من أهل دمشق من جند مروان الحمار، وقدم بغداد مع والبة بن