الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد النفي، عائد إلى بل العاطفة، لأن غير العاطفة لا تقرّر ما قبلها، بل إما أن تفيد إبطاله، وإما أن تقيد الانتقال منه إلى غرض آخر، فليتأمل.
هذا كلامه، وتأملناه فوجدنا قوله: لأن غير العاطفة لا تقرر ما قبلها، ممنوعًا، لأن ما قبلها إن كان موجبًا كالآيتين أبطلت إيجابه، وإن كان منفيًا، نحو: ما قام زيد بل قعد، كانت لتقرير ما قبلها على حاله، فإذا قلت: ما قام زيد لا بل قعد، كانت لتأكيد التقرير، وإن شئت قلت: لتقرير التأكيد.
وهذا البيت أيضًا لم أظفر بقائله وأصله إلى الآن، يسر الله تعالى ذلك.
والكاف من هجرتك، مكسورة. وزاد: يتعدى إلى مفعولين، أحدهما الياء، وثانيهما شغفًا، وهو مصدر شغفه الحب، كمنعه: أصاب شغافه، والشغاف كسحاب: غلاق القلب أو حجابه أو جنَّته أو سويداؤه. وهجر: فاعل زادني وتراخى: فعل ماض بمعنى تطاول وامتد، وروي بدله: تمادى، بمعناه، والأجل هنا: المدة.
بيد
أنشد فيه، وهو الإنشاد الثامن والستون بعد المائة:
(168)
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم
…
بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائب
على أن ابن مالك قال: بيد في ذلك الحديث على حد "غير" في هذا البيت. قال الدماميني في "المزج": هذا البيت عند أهل البديع من تأكيد المدح بما يشبه الذم، ووجهه في الحديث: أن الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال، فذكر
أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج شيء مما قبلها، فإذا وليها صفة مدح، جاء التأكيد لما فيه من المدح والإشعار بأنه لم يجد صفة ذم يثبتها، فاضطر إلى استثناء صفة مدح، وتحويل الاستثناء إلى الانقطاع، ووجهه في البيت من جهتين: إحداهما ما تقدم، والأخرى أنه كدعوى الشيء ببينة، إذ معناه إثبات شيء من العيب للممدوحين على تقدير كون فلول السيف من مضاربة الجيوش عيبًا فعلق نقيض المدَّعى، وهو إثبات شيء من العيب بالمحال، والمعلق بالمحال محال، فعدم العيب متحقق، فالبيت يفارق الحديث في هذه الجهة الأخيرة، ويشاركه في الأولى، وباعتبارها قال على حد قوله. انتهى. وكلام ابن مالك مبسوط في كتابه:"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" أورد قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد كلُّ أمة أوتوا الكتاب من قبلنا" وقال: بيد معنى غير، والمشهور استعمالها متلوّةً بأن، كقوله صلى الله عليه وسلم:"نحن الآخرون السابقون من قبلها، وأوتيناه من بعدهم" ومنه قول الشاعر:
بيد أن الله قد فضَّلكم
…
فوق من أحكي بصلبٍ وإزار
وقول الراجز:
عمدًا فعلت ذاك بيد أنِّي
…
إخال لو هلكت لم ترنِّي
والأصل في رواية من روى: "بيد كل أمة": بيد أنّ كل أمة، فحذفت أنّ وبطل عملها، وأضيف "بيد" إلى المبتدأ والخبر اللذين كانا معمولي أنّ، وهذا الحذف في أنّ نادر، لكنه غير مستبعد في القياس على حذف أن، فإنهما أختان في المصدرية، وشبيهتان في اللفظ، وقد حمل بعض النحويين على حذف أنّ قول الزبير:
فلولا بنوها حولها لخطبتها
ومما حذف فيه أن واكتفي بصلتها قوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} [الروم/ 24] والأصل: أن يريكم، لأن الموضع موضع مبتدأ خبره: من آياته.
والمختار عندي في "بيد" أن تجعل حرف استثناء، ويكون التقدير: إلا كل أمة أوتوا الكتاب من قبلنا، [على معنى لكن] لأن معنى إلا مفهوم منها، ولا دليل على اسميتها. انتهى كلامه.
وهذا البيت استشهد به سيبويه على أن نصب غير بالاستثناء المنقطع، وشرحه الرضي أحسن شرح، وهو عند علماء البديع قاعدة تأكيد المدح بما يشبه الذم وأورده صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى {لئّلا يكون للناس عليكم حجَّة إلّا الذين ظلموا منهم} [البقرة/ 150] على أن الآية أشبه بتأكيد الذم بما يشبه المدح عكس البيت، فإن إطلاق الحجة على الذين ظلموا ذم في صورة مدح.
والفلول: جمع فل، بفتح الفاء، وهو كسر في حد السيف، وسيف أفل بين الفلل، يقال: فلّه فانفل، وفللت الجيش، أي: كسرتهم وهزمتهم، وفلُّ الجيش
بفتح الفاء أيضًا: الهارب منهم قل أو كثر، والقراع: المضاربة، مصدر قارعه، وقرعته بالمقرعة؛ إذا ضربته بها، والكتائب: جمع كتيبة، وهي الطائفة المجتمعة من الجيش.
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني مدح بها عمرو بن الحارث الأصغر من ملوك الشام الغسانيين، ويقال لهم: بنوجفنة، وذلك لما هرب من النعمان بن المنذر اللخمي من ملوك الحيرة، وليس الممدوح بها النعمان بن الحارث، لأن النابغة صرح باسمه بقوله:
عليَّ لعمروٍ نعمةٌ بعد نعمةٍ
…
لوالده ليست بذات عقارب
ومطلع القصيدة:
كليني لهمِّ يا أميمة عازب
…
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
وشرحناه شرحً مفصلًا في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة من شواهد الرضي وبعد خمسة أبيات قال:
حلفت يمينًا غير ذي مثنويَّةٍ
…
ولا علم إلَّا حسن ظنِّ بصاحب
لئن كان للقبرين قبرٍ بجلَّقٍ
…
وقبرٍ بصيداء التي عند حارب
وللحارث الجفنيّ سيِّد قومه
…
ليلتمسن بالجمع أرض المحارب
البيت الأول من شواهد سيبويه، أنشده بنصب ما بعد إلا على الاستثناء المنقطع، لأن حسن الظن ليس من العلم، ورفعه جائز على البدر من موضع العلم، وإقامة الظن مقام العلم اتساعًا، والمثنوية: الاستثناء في اليمين، ولم يذكره
صاحبا "الصحاح" و"القاموس" وذكره الزمخشري في "الأساس" يقول: حلفت غير مستثن في يميني ثقة بفعل هذا الممدوح، وحسن ظن به، وأراد بالصاحب: الممدوح. وروى أبو عبيدة: "وما ذاك إلا حسن ظن بصاحب" فلا شاهد فيه، وجملة المصراع الثاني معترضة بين القسم وجوابه.
وقوله: لئن كان للقبرين .. الخ، اللام: موطئة للقسم، وطأت الجواب الذي بعد الشرط للقسم. وجملة ليلتمسن: هو الجواب، وجواب الشرط محذوف للاستغناء عنه بجواب القسم، واسم كان ضمير عمرو الممدوح. وأراد بالقبرين: المقبورين؛ الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر وهو الجفني الآتي ذكره. يقول: لئن كان عمرو ابن هذين الرجلين ليمضين أمره، وليلتمسنَّ أرض من حاربه. وجلَّق: الشام، وصيداء: مدينة بالساحل قريبة منها، وحارب جبلٌ.
وقوله: وللحارث الجفني، بفتح الجيم: نسبة إلى جفنة بن عمرو مزيقياء ابن عامر بن ماء السماء، والجمع: جموع العساكر، وبعده:
لهم شيمةٌ لم يعطها الله غيرهم
…
من الناس والأحلام غير عوازب
محلَّتهم ذات الإله ودينهم
…
قويمٌ فما يرجون غير العواقب
وثقت لهم بالنَّصر إذ قيل قد غزا
…
قبائل من غسّان غير أشائب
بنو عمِّه دنيًا وعمرو بن عامرٍ
…
أولئك قومٌ بأسهم غير كاذب
إذا ما غزوا بالجيش حلَّق فوقهم
…
عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب
يصانعنهم حتَّى يغرن مغارهم
…
من الضّاريات بالدِّماء الدَّوارب
لهنَّ عليهم عادةٌ قد عرفنها
…
إذا عرِّض الخطِّي فوق الكواثب
جوانح قد أيقنَّ أنَّ قبيله
…
إذا ما التقى الجيشان أوَّل غالب
تراهنَّ خلف القوم زورًا عيونها
…
جلوس الشُّيوخ في مسوك الأرانب
على عارفاتٍ للطّعان عوابسٍ
…
بهنَّ كلومٌ بين دامٍ وجالب
إذا استنزلوا عنهنّ للطَّعن أر قلوا
…
إلى الموت إر قال الجمال المصاعب
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم
…
البيت .............
قوله: والأحلام غير عوازب، أي: لا تعزب ولا تبعد عقولهم عنهم، يعني: لا تغيب عنهم كما تعزب الماشية عن أهلها.
وقوله: محلتهم ذات الإله .. الخ. بالحاء المهملة، أي: مسكنهم، قال الأصمعي: أي منزلتهم بيت المقدس وأرض الشام، ومنازل الأنبياء القدس. وروى أبو عبيدة:"مجلتهم" بالجيم" يريد: كتابهم الإنجيل، وكانوا نصارى، وكل كتاب عند العرب مجلة، لأنه يجل. وروي أيضًا. "مخافتهم"، يريد: يخافون أمر الله تعالى، وذات الإله: كتابه. وقويم: مستقيم فما يرجون، أي: ما يطلبون إلا عواقب أمورهم. وقوله: غير أشائب، أي: كلهم صميم. والأشائب: الأخلاط، أي: مختلطون بغيرهم. وقوله: بنو عمه دنيًا .. الخ، هو من أبيات "أدب الكاتب" قال ابن السيد في شرحه: أراد بقوله دنيًا: الأدنين من القرابة، يروى بكسر الدال وضمها، فمن كسر جاز أن ينوّن، وأن لا ينون، ومن ضمّ لا ينون، لأن ألف فعلى كحبلى لا تكون أبدًا إلا للتأنيث. وقوله: بأسهم غير كاذب، أي: أنهم لا ينكصون عند الحرب، والعرب تستعمل الصدق والكذب في الأفعال كما تستعملونها في الأقوال، فيستعملون الصدق، بمعنى التحقيق والإحكام للشيء، والكذب فيما لا يتحقق ولا يحكم، يقولون: حمل عليه
فصدق، أي: حقق الحملة ولم يرجع، وحمل عليه فكذب: إذا رجع ولم يحقق ولذا قالوا: صدقوهم القتال، ونظر صادق، أي: محقق.
وقوله: حلق فوقهم، أي: ارتفع فوقهم، وأراد بعصائب طيرٍ: العقبان، والنسور وما أشبهها، تأتي القتلى لتأكل منها، الواحدة: عصابة وعصبة، أي، فرقة، وكذلك من الناس. يقول: إذا رأت الطيور- كالنسور- أهبة القتال علمت أن ستكون ملحمةٌ، وهي ترفرف فوق رؤوسهم وتتبعهم، تهتدي بعصائب، أي: يهدي بعضها بعضًا.
وقوله: يصانعنهم
…
الخ، أصل المصانعة الاتباع، والمراد: يطرن قريبًا منهم حتى يغيروا، فتصيب من الدماء والقتلى، والدوارب: المتعوّدات، يقال: درب بذاك الأمر دربة ودرابة: إذا اعتاده. والضاريات: اللواتي ضريت بشرب الدماء وأكل اللحوم. وقوله: إذا عرّض الخطِّي، أي: إذا وضعت الرماح عرضًا فوق الكواثب، جمع كاثبة، وهي من الفرس ما تقدم من قربوس السرج، وهو المنسج أيضًا، ومن البعير الغارب، ومن الرجل الكاهل.
وقوله: جوانح، أي: مائلة في أحد شقيها تجنح للوقوع، وقوله: تراهنّ خلف القوم زورًا عيونها، أي: منتظرات على شرف الأرض، وشبّه الطير وبياض ريشها بالشيوخ في فراءٍ من جلود الأرانب، لأن الشيوخ ألزم للفراء لرقتهم على البرد. والمسوك: جمع مسك، بالفتح، الجلد. وقوله: على عارفات، أي: صابرات، والعارف: الصابر، يقول: على خيل قد عرفت الطعان، قوتل عليها، وعلمت ذاك من طول ما عوّدته وعوابس: كوالح تخاف الطعن والرمي، وإنما تعبس لأنها مجرِّبة. وقوله: بهنّ كلوم، أي: بهذه الخيل جروح بين دام، أي: جرح طري فهو يدمى، وآخر قد يبس وعلته جلبة، بالضم، وهي قشرة تعلو الجرح عند البرء.