الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: إلى حفرة: متعلق بـ "غاديًا"، وأراد بها القبر. وأهوي إليها، أي: أنزل فيها. وروى الأعلم بدله: "أهدى إليها" بالبناء للمفعول، من الإهداء. ووصف الحفرة بكونها مقيمة إما على معتقد الجاهلية من أنه لا فناء للعالم ولا بعث، وإما على معنى طول المدة، والسائق الذي يحث على الغدو إلى تلك الحفرة هو الزمان، فإنه المفني المبيد عندهم.
وأنشد بعده وهو الإنشاد الثالث والسبعون بعد المائة:
(173)
إنَّ من ساد ثمَّ أبوه
…
ثمَّ قد ساد قبل ذلك جدُّه
على أن ابن عصفور أجاب عنه بأن المراد أن الجد أتاه السؤود من قبل الأب، والأب من قبل الابن، وخدشه المرادي في "الجنى الداني" بأن قول الشاعر قبل ذلك يمنعه، قال الدماميني: وذلك لأن مضمون الكلام على ما أجاب به ابن عصفور أن سؤدد الابن سابق لسؤدد الأب، وسؤدد الأب سابق لسؤدد الجد، والسابق للسابق الشيء سابق لذلك الشيء، فتكون سيادة الابن سابقة لكل من سيادة أبيه وجده، وسيادة الأب سابقة لسيادة الجد. وقول الشاعر قبل ذلك مناف لهذا بلا شك. انتهى. وردّ عليه أيضًا بأن ثم تدل على التراخي، فما معنى التراخي والمهلة هنا؟ وأجاب الفراء عن البيت ونحوه بأن ثم فيه للترتيب الذكري، ويقال له: الترتيب الإخباري، وترتيب اللفظ أيضًا، وذلك أن الفاء وثم يكونان لترتيب الأفعال والأقوال، وثم هنا لترتيب القول بحسب الذكر والإخبار والتلفظ، وفي هذا الجواب نظر، فإن ثم حينئذ تكون للترتيب بدون تراخ ومهلة، كما صرح به الرضي، وهو خلاف وضعها.
وأجاب الأخفش بأن ثم هنا بمعنى الواو لمطلق الجمع، وردّ عليه بعضهم بأنه لو صح هذا لجاز: اختصم زيد ثم عمرو، وهو غير جائز باتفاق. قال الدماميني: لا خفاء في كون القائل بأن ثم تستعمل بدون ترتيب كالواو، يقول بأن ذلك استعمال مجازي، ولا يشترط في آحاد المجاز أن تنقل أعيانها عن أهل اللغة، بل يكتفي بالعلاقة على المذهب المختار، والعلاقة المصححة هنا الاتصال الذي بين هذين الحرفين، من جهة أن الواو لمطلق الجمع، وثم لجمع مقيد، والمطلق داخل في المقيد، فثبت أن بينهما اتصالًا معنويًا، فجاز استعمال ثم بمعنى الواو مجازًا لذلك، وحينئذ السعي في تأويل تلك الأمثلة بما يصحح الترتيب فيها نظر في أمر جزئي لا يقتضي بطلان المدعى من أصله. انتهى.
والبيت من شعر المولدين، وأوله مغير قد اشتهر بالتغيير، وهو أول أبيات سبعة لأبي ناس الحكمي، واسمه الحسن بن هانئ، مدح بها العباس بن عبيد الله ابن أبي جعفر، وهي:
قل لمن ساد ثمَّ ساد أبوه
…
قبله ثم قبل ذلك جدُّه
وأبو جدّه فسادا إلى أن
…
يتلاقى نزاره ومعدُّه
ثمَّ آباؤه إلى المبتدا من
…
أبه لا أبٌ وأمّ تعدُّه
يا ابن بحبوحة البطاح عبيد الله غوثًا من مستغيث تودُّه
فاهتبل عندي الصَّنيعة واذخرني لقولٍ أجيده وأجدُّه
واستزدني إلى مكارمك الغرَّ وفضلٍ إليك خيَّم مجده
عبدريٍّ إذا انتمى أبطحيٍ
…
تالدٍ نسجه عتيقٍ فرنده
والعباس هذا عم هارون الرشيد، ولم يعرفه ابن الملا، قال: لعله العباس ابن المأمون بن الرشيد؛ وأبو نواس مات قبل أن يصير ابن المأمون في عداد من يمدح، والمأمون اسمه عبد الله، وأبو الممدوح اسمه عبيد الله بالتصغير، كما في الشعر. وقوله: وأبو جده: معطوف على جده، وقوله: فساد، يريد: فساد من بقي من جدوده واحدًا بعد واحد إلى أن يلاقيه جده نزار بن معد بن عدنان، وهو عمود النسب المحمدي، صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقال ابن الملا: قوله: وأبو جده فساد: مبتدأ وخبر، والفاء زائدة.
وقوله: ثم آباؤه، أي: بعد معدّ، وقوله: إلى المبتدا من أب: هو آدم عليه السلام، خلقه الله تعالى من تراب. وقوله: لا أب وأمّ تعدّه، أي: ليس له أب وأم تعدهما، وعبيد الله بالجر: بدل من بحبوحة، وقوله: غوثًا: مفعول لأطلب محذوفًا، وهو اسم الإغاثة، بمعنى الإعانة والنصر. وقوله: من مستغيث، أي: من أجل مستغيث، وتودّه: تحبه، أنت، والاهتبال: الاغتنام، والصنيعة: الفعل الجميل، واذخرني: أمر من ذخرته ذخرًا، من باب نفع: إذا أعددته لوقت الحاجة إليه، والاسم: الذُّخر بالضم وأجيده: من الإجادة، أي: أحنه. وأجدّه، أي: أحدثه جديدًا.
وقوله: استزدني، أي: اجعلني زيادة مضمومة إلى مكارمك، أي: اجعلني بعض مكارمك، أي: أفعالك التي تمدح بها، والغرّ: جمع أغرّ وغراء، والأغر: الواضح، المشهور، وقوله: وفضل، بالجر معطوف على مكارمك، وخيم: أقام، والمجد: الشرف والعز.
وقوله: عبدري بالجر: صفة لفضل، منسوب إلى عبد الدار وهو أحد أولاد قصي بن كلاب، وانتمى: انتسب، وأبطحي؛ بالجر أيضًا: يريد أنه من قريش البطاح، وهم أشرف من قريش الظواهر، وقوله: تالدٍ نسجه بالجر: صفة سببية لفضل، ونسجه: فاعل، والتالد: القديم الأصلي، والهاء في نسجه ضمير فضل، وعتيق بالجر أيضًا، والفرند بكسرتين: جوهر الحديد وحسنه.
وأبو نواس هو أبو علي الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصَّبَّاح الحكمي، نسبة إلى الحكم- بفتحتين- ابن سعد العشيرة، وهي قبيلة باليمن، منها الجرّاح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان، وكان جدُّ أبي نواس من مواليه، وإنما قيل له: أبو نواس لذؤابتين كانتا له تنوسان على عاتقه. والذُّؤابة: بهمزة بعد الذال المضمومة، وهي الضفيرة من الشعر إذا كانت مرسلة، فإن كانت ملويّة فهي عقيصة، والذُّؤابة: طرف العمامة، وناس ينوس نوسًا: إذا تدلّى وتحرك، والعاتق: ما بين المنكبين والعنق، وهو موضع الرداء، وقيل: إن خلفًا الأحمر كان له [ولاء] في اليمن، وكان أميل الناس إلى أبي نواس، فقال له يومًا: أنت من اليمن، فتكنّ باسم ملك من ملوكهم الأذواء، فاختار ذا نواس، فكنّاه أبا نواس، بحذف صدره، وغلبت عليه.
ومولده بالبصرة سنة خمس وأربعين ومائة، وقيل: ست وثلاثين ومائة. ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة، وقيل: سنة ست، وقيل سنة: ثمان، ونشأ بالبصرة، ثم خرج إلى الكوفة، وقيل: ولد بالأهواز، وقيل: بكورة من كور خوزستان سنة إحدى وأربعين ومائة، ونقل منها وعمره سنتان إلى البصرة، وأمه أوازية، اسمها جلبَّان، وكان أبوه من أهل دمشق من جند مروان الحمار، انتقل إلى الأهواز للرّباط فتزوجها.
وقدم أبو نواس بغداد مع والبة بن الحباب الشاعر، وبه تخرّج، وعرض القرآن على يقوب الحضرمي، وأخذ اللغة عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة، ومدح الخلفاء والوزراء، وكان في الشعر من الطبقة الأولى من المولدين. قال أبو عبيدة: أبو نواس للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين وشعره عشرة أنواع، وهو مجيد في الجميع، ومازال العلماء والأشراف يروون شعره، ويتفكهون به، ويفضلونه