الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أشعار القدماء. وقال أبو عمرو الشيباني: لولا أن أبا نواس أفسد شعره بهذه الأقذار، يعني: الخمور، لاحتججنا به، لأنه كان محكم القول لا يخطئ.
وديوان شعره مختلف لاختلاف جامعيه، فإنه اعتنى به جماعة، منهم أبو بكر الصولي، وهو صغير، ومنهم علي بن حمزة الأصفهاني، وهو كبير جدًا، وكلاهما عندي ولله تعالى الحمد، ومنهم إبراهيم بن أحمد الطبري المعروف بتوزون، ولم أره إلى الآن.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الرابع والسبعون بعد المائة:
(174)
قالوا أبو الصَّقر من شيبان قلت لهم
…
كلّا لعمري ولكن منه شيبان
وكم أبٍ قد علا بابنٍ ذرى شرفٍ
…
كما علت برسول الله عدنان
على أن ابن عصفور قال: إن الشرف قد يأتي إلى الأب من الابن، كما قال ابن الرومي في هذا الشعر، لأن الفرع قد يفوق الأصل بمآثر ومناقب، فيمدح أصله به وإن كان الأكثر في المدح توارث الشرف والسؤدد، كما قيل:
ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا
والشعر من قصيدة طويلة عدتها مائتان وأربعة وثلاثون بيتًا مدح بها أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، لما ولي الوزارة للمعتمد، مطلعها:
أجنت لك الورد أغصانٌ وكثبان
…
فيهنَّ نوعان تفَّاحٌ ورمَّان
وفوق ذينك أعنابٌ مهدَّلةٌ
…
سودٌ لهنّ من الظَّلماء ألوان
وتحت هاتيك عنَّابٌ تلوع به
…
أطرافهنَّ قلوب القوم قنوان
غصون بانٍ علها الدَّهر فاكهةٌ
…
وما الفواكه مّما يحمل البان
ونرجسٌ بات ساري الطَّلِّ يضربه
…
وأقحوانٌ منير النَّور ريَّان
ألفن من كلِّ شيءٍ طيِّبٍ حسنٍ
…
فهن فاكهةٌ شتَّى وريحان
ثمار صدقٍ إذا عاينت ظاهرها
…
لكنَّها حين تبلو الطَّعم خطبان
إلى أن قال في النسيب:
يا ربَّ حسَّانةٍ منهنّ قد فعلت
…
سوءًا وقد يفعل الأسواء حسَّان
تشكي المحبَّ وتلفي الدَّهر شاكيةً
…
كالقوس تصمي الرَّمايا وهي مرنان
إلى أن قال يخاطب نفسه:
إنَّ الرَّحيل إلى من أنت آمله
…
أمرٌ لمزمعه بالنُّجح إيقان
فادع القوافي ونصَّ اليعملات له
…
تجبك كلُّ شرودٍ وهي مذعان
إن لم أزر ملكًا أشجي الخطوب به
…
فلم يلدني أبو الأملاك يونان
أضحى أبو الصَّقر فردًا لا نظير له
…
بعد النبيِّ ومن والت خراسان
هو الذي حكمت قدمًا بسودده
…
عدنان ثمَّ أجازت ذاك قحطان
قالوا أبو الصَّقر من شيبان قلت لهم
…
كلاّ لعمري ولكن منه شيبان
وكم أبٍ علا بابنٍ ذرى شرفٍ
…
كما علا برسول الله عدنان
تسمو الرجال بآباءٍ وآونةً
…
تسمو الرجال بأبناء وتزدان
ولم أقصِّر بشيبان التي بلغت
…
بها المبالغ أعراقٌ وأغصان
لله شيبان قومًا لا يشوبهم
…
روعٌ إذا الرَّوع شابت منه ولدان
لا يرهبون إذا الأبطال أرهبهم
…
يومٌ عصيبٌ وهم في السِّلم رهبان
إذا رأيتهم أيقنت أنَّهم
…
للدِّين والملك أعلامٌ وأركان
إلى أن قال في مدحهم:
أفنوا عداهم وأقنوا من يؤمِّلهم
…
ففي الصُّدور لهم شكرٌ وأضغان
لكن أبو الصَّقر بدءٌ عند ذكرهم
…
وسادة النّاس أبداءٌ وثنيان
فردٌ جميعٌ يراه كلُّ ذي بصرٍ
…
كأنَّه الناس طرّاً وهو إنسان
ومنها يفضله على من تقدمه من الوزراء:
يفديه من فيه عن مقدار فديته
…
عند المفاداة تقصيرٌ ونقصان
قومٌ كأنِّهم موتى إذا مدحوا
…
وما كسوا من حبير الشِّعر أكفان
ثوابهم أن يمنُّوا مستثيبهم
…
وهل يثيب على الأعمال أوثان
لله مختاره ما كان أعلمه
…
بكلِّ ما فيه للرَّحمن رضوان
ما اختار إلَّا امرأً أضحت فضائله
…
يثنى عليه بها راضٍ وغضبان
رأى أبا الصَّقر فردًا في شهامته
…
فاختار من فيه للمختار قنعان
من لا يزال لديه في مذاهبه
…
بين الرّشاد وبين الغيِّ فرقان
وللموفَّق تبصيرٌ يبصِّره
…
بالحظِّ والناس طرّا عنه عميان
يا من إذا الناس ظنُّوا أنَّ نائله
…
قد سال سائله فالناس كهَّان
إنِّي رأيت سؤال الباخلين زنًا
…
وفي سؤالك للأحرار إحصان
إذا تيمَّمك العافي فكوكبه
…
سعدٌ ومرعاه في واديك سعدان
قال المرزباني في "الموشح": أخبرني محمد بن يحيى قال: كنت يومًا عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فذكرنا قصيدة ابن الرومي في أبي القصر التي أولها: أجنت لك الورد أغصان وكثبان .. فقال عبيد الله: هي دار البطيخ؛ فضحك الجماعة، فقال: اقرؤوا تشبهًا فانظروا؛ هي كما قلت! قال محمد: وقد ملَّح عبيد الله وظرَّف، قال: وهذه القصيدة أكثر من مائتي بيت، مرّ له فيها إحسان كثير، فلما سمع أبو الصقر قوله: قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم .. البيت، قال: هجاني والله! قيل له: هذا من أحسن المدح، اسمع ما بعده: وكم أب قد علا بابن ذرى شرف .. البيت، فقال: أنا بشيبان، ليس شيبان بي! قيل له: فقد قال: ولم أقصر بشيبان التي بلغت .. البيت، فقال: والله لا أثيبه على الشعر وقد هجاني.
قال أبو عبيد الله المرزباني: وهذا ظلم من أبي الصقر لابن الرومي، وقلة علم منه بالفرق بين الهجاء والمدح. انتهى كلامه.
وأقول تمليحًا: إنما فهم هجاءه من طول مدحه في القصيدة، لأنه يفهم من طولها الإشعار ببخله، وأنه لا يخدع إلا بكثير من التملق في صورة المدح، كما قال، وهو من معانيه البديعة:
وإذا امرؤ مدح أمر لنواله
…
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدِّر فيه بعد لمستقى
…
عند الورود لما أطال رشاءه
وقد كرر هذا المعنى في قافية أخرى فقال:
إذا عزَّ رفدٌ لمسترفدٍ
…
أطال المديح له المادح
وقدمًا إذا استبعد المستقى
…
أطال الرِّشاء له الماتح
وما أحسن ما أخذه السراج الوراق فقال:
سامح بفضلك عبدًا
…
مقصِّرًا في الثَّناء
رأى قليبًا قريبًا
…
فلم يطل في الرِّشاء
وأبو الصقر، كما قال الصفدي في تاريخ "الوافي بالوفيات": إسماعيل بن بلبل الشيباني، أبو الصقر الكاتب، كان بليغًا كاتبًا شاعرًا كريمًا ممدحًا، ولي الوزارة للمعتمد سنة خمس وستين ومائتين بعد وزارة الحسن بن مخلد الثانية، فبقي مدة يسيرة ثم عزل، ثم وليها ثانية سنة خمس وستين ومائتين في شوال، ثم عزل في شهر رمضان سنة ست وستين، ونفي إلى بغداد، ثم أعيد إلى الوزارة نوبة ثالثة حين قبض على صاعد الوزير، ولقب بالشكور، وذلك في ثالث عشر رجب سنة اثنتين وسبعين بواسط.
وكان واسع النفس، وظيفته في كل يوم سبعون جديًا، ومائة حمل، ومائة رطل من سائر الحلوى. ولم يزل على وزارته إلى أن توفي الموفق أخو المعتمد، وبعد موته بيومين لخمس ليال بقين من صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين، قبض أحمد بن الموفق الملقب بالمعتضد وعمه المعتمد هو الخليفة على أبي الصقر الوزير، وكبله بالحديد، وألبسه جبة صوف مغموسة بدبس وماء الأكارع، وتركه في الشمس، وعذبه بأنواع العذاب إلى أن هلك، وكانت وزارته الثالثة خمس سنين وسبعة أشهر واثنين وعشرين يومًا. ولما مات رآه إبراهيم الحربي، أو غيره من العلماء الصلحاء في منامه فقال له: ما فعل الله بك يا أبا الصقر؟ قال: غفر لي بما لقيت، ولم يكن الله عز
وجل ليجمع علي عذاب الدنيا والآخرة. إلى هنا كلام الصفدي، ومن خطه نقلت.
وأنشد جحظة لأبي الصقر:
ما آن للمعشوق أن يرحما
…
قد أنحل الجسم وأبكى الدَّما
ووكَّل العين بتسهيدها
…
تفديه نفسٌ ظالما حكَّما
وسنَّة المعشوق أن لا يرى
…
في قتل من يعشقه مأثما
لو راقب الله شفا غلَّتي
…
فالعدل أن يبرئ من أسقما
وأقول: إن وصفهم أبا الصقر بالجود والبلاغة في الشعر والكتابة ينافي ما عامل ابن الرومي من سوء الفهم والحرمان، في مقابلة تلك التي تستحسنها كملة الأذهان وتدخل بلا إذن في الآذان! ولقد أجاد ابن الرومي في قوله فيه بعد ذلك في نكبته:
خفِّض أبا الصَّقر فكم طائرٍ
…
خرَّ صريعًا بعد تحليق
زوِّجت نعمى لم تكن كفأها
…
فصانها الله بتطليق
لا قدست نعمى تسربلتها
…
كم حجةٍ فيها لزنديق
وقال فيه أيضًا:
لا زال يومك عبرةً لغدك
…
وبكت بشجوٍ عين ذي حسدك
فلئن نكبت فطالما نكبت
…
بك همَّةٌ لجأت إلى سندك
لو تسجد الأيَّام ما سجدت
…
إلّا ليومٍ فتَّ في عضدك
يا نعمةً ولَّت غضارتها
…
ما كان أقبح حسنها بيدك
فلقد غدت بردًا على كبدي
…
لمَّا غدت حرّا على كبدك
ورأيت نعمى الله زائدةً
…
لَّما استبان النقص في عددك
ولقد تمنَّت كلُّ صاعقةٍ
…
[لو أنَّها صبَّت على كتدك]
لم يبق لي فيما برى جسدي
…
إلَّا بقاء الرُّوح في جسدك
وأخذ ابن الرومي بعض هذا الكلام من كلام لأبي العيناء، فإن أبا العيناء حكى عن نفسه، فقال: كان عيسى بن فرحشاه يتيه في ولايته، فلما صرف رهبني فلقيني فسلم علي فأحفى، فقلت لغلامي: من هذا؟ قال: أبو موسى، فدنوت منه وقلت: أعزك الله، والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون ثنائك، وبلحظك دون لفظك، فالحمد لله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة، لقد أصابت فيك النقمة، ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك، لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك! ولله المنة إذ أغنانا عن الكذب عليك، ونزهنا عن قول الزور فيك، فقد والله أسأت حمل النعم، وما شكرت حق المنعم. فقيل له: يا أبا العيناء! لقد بالغت في السب، فما كان الذنب؟ قال: سألته حاجة أقل من قيمته، فردني عنها بأقبح من خليقته.
وقول ابن الرومي في تلك القصيدة النونية: كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان .. أعاد هذا المعنى في قصيدة يصف فيها قوس البندق:
لها رنَّة أولى بها من تصيبه
…
وأجدر بالإعوال من كان موجعا
وقوله فيها: كأنه الناس طرًا وهو إنسان. مأخوذ من قول أبي نواس:
وليس لله بمستنكرٍ
…
أن يجمع العالم في واحد
وهذه ترجمة ابن الرومي من "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي:
علي بن العباس بن جريج أبو الحسن مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر يعرف بابن الرومي: أحد الشعراء المكثرين المجودين في الغزل والمديح والهجاء والأوصاف، روى عنه غير واحد من أهل الأدب، أخبر أبو الحسين علي بن جعفر الحمداني قال: كنت في غلمان دار القاسم ابن عبيد الله الوزير، فدخل يومًا القاسم داره، وكان في جملة حاشيته حينئذ رجل أراه يدخل الدار كثيرًا وينادمه، فالتقت القاسم إليه فقال له: يا أبا الحسن أمل الأبيات على كاتب يكتبها، وهاتها، فأملى ثلاثة أبيات، وهي:
ما أنس لا أنس خبَّازًا مررت به
…
يدحو الرِّقاقة وشك اللَّمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفِّه كرةً
…
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلَّا بمقدار ما تنداح دائحةٌ
…
في حومة الماء يرمى فيه بالحجر
وقال للكاتب: اكتب: تنداح دائحة، وتندار دائرة، فسألت عنه فقيل: هذا ابن الرومي.
وحدث جحظة قال: كنت مع ابن الرومي في سماريةٍ، فرأينا أبا رياح على
دار ابن طاهر، فقلت له: صف هذه الشرفات وأبا رياح، فقال:
ترى شرفاتها مثل العذارى
…
خرجن لنزهةٍ فقعدن صفّا
عليهنَّ الرقيب أبو رياحٍ
…
فليس لخوفه يبدين حرفا
وأخبر الصولي قال: حدثني علي بن العباس قال: كان البحتري معي جالسًا، فسلم علينا ابن لعيسى بن منصور، فقال لي: من هذا؟ فقلت: هذا ابن عيسى بن المنصور، الذي يقول ابن الرومي في أبيه:
يقتِّر عيسى على نفسه
…
وليس بباقٍ ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره
…
تنفّس من منخرٍ واحد
فقال لي: أفّ وتفّ، هذا من خاطر الجن لا من خاطر الإنس! ووثب ومضى، وقيل: الشعر في عيسى بن موسى بن المتوكل.
وقال غير الخطيب: كانت ولادته في بغداد في رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتوفي في سنة ثلاث وثمانين، وقيل: أربع وثمانين ومائتين، وقيل غير ذلك.
وكان إذا أبدع معنى يستقصيه حتى لا يدع لغيره فيه بقية.
حكى ابن درستويه أن لائمًا لامه، فقال له: لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟ ! فقال: أنشدني من قوله الذي استعجزتني عن مثله، فأنشده قوله في الهلال:
انظر إليه كزورقٍ من فضّةٍ
…
قد أثقلته حمولةٌ من عنبر
فقال له: زدني، فأنشده قوله في الآذريون، وهو زهر أصفر في وسطه حمل
أسود، وليس بطيب الرائحة، والفرس تعظمه بالنظر، وفرشه في المنزل:
كأنّ آذريونها
…
والشمس فيه كاليه
مداهنٌ من ذهبٍ
…
فيه بقايا غاليه
فصاح: واغوثاه! تالله لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون بيته، لأنه ابن خليفة، ولكن انظر إذا وصفت ما أعرف أين يقع قولي من الناس! هل لأحد مثل قولي في قوس الغمام؟ :
وساقٍ صبيحٍ للصَّبوح دعوته
…
فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجمٍ
…
فمن بين منقضٍّ علينا ومنفضٍّ
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفًا
…
على الجوِّ دكنًا والحواشي على الأرض
يطرِّزه قوس السحاب بأخضرٍ
…
على أحمرٍ من أصفرٍ إثر مبيضِّ
كأذيال خودٍ أقبلت في غلائل
…
مصبَّغةٍ والبعض أقصر من بعض
وقولي في صانع الرقاق:
ما أنس لا نس خبّازًا مررت به
…
..... الأبيات المتقدمة
وقولي في قالي الزلابية:
ومستقرٍّ على كرسيّه تعبٍ
…
روحي الفداء له من منصب تعب
رأيته سحرًا يقلي زلابيةً
…
في رقَّة القشر والتجويف كالقصب
كأنّما زيته المغليُّ حين بدا
…
كالكيمياء التي قالوا ولم تصب
يلقي العجين لجينًا من أنامله
…
فيستحيل شبابيكًا من الذهب