الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعلي إثرهم تساقط نفسي
…
حسرات وذكرهم لي سقام
وحذاق: مرخم حذاقة للضرورة في غير النداء، وهو بضم الحاء المهملة والذال المعجمة والقاف: بطن من إياد، وأبو داود منهم، والجواد: الكريم، وجمَّ النَّدى: كثير المعروف، والندى: السخاء، يقال: فلام أندى من فلان كفا، وضروب: مبالغة ضارب، ورقاق: جمع رقيق، والظبي: جمع ظبة، وهي طرف السيف، والصعار بالصاد والعين المهملتين: العظمة والخيبلء. وترجمة أبي داود تقدمت في الإنشاد الخامس والسبعين بعد المائة.
وأنشد بعده، وهو الإنشاد الخامس عشر بعد المائتين:
(215)
فإن أهلك فربَّ فتي سيبكى
…
عليَّ مهذَّبٍ رخص البنان
علي أن فيه دليلاً على جواز استقبال ما بعد ربّ، وليس بواجب دخولها على الماضي، فإن قوله: سيبكي، مضارع مستقبل، ولا يخفى أن الخلاف في جواز استقبال ما بعد رب إنما هو في جوابها العامل في موضع مجرورها، وأما وقوعالمستقبل صفة لمجرورها فلا يمنعه أحد، قال ابن مالك في "شرح التسهيل" عند قوله في المتن: ولا يلزم وصف مجرورها، خلافاً للمبرد ومن وافقه، ولا مضي ما تتعلق به، ما نصه: وأما كونه - يعني المضي - لازماً لا يوجد غيره، فليس بصحيح بل قد يكون مستقبلاً كقول حجدر اللص:
فإن أهلك فربَّ فتي سيبكي
…
البيت وكقول هند أم معاوية:
يا ربَّ قائلةٍ غداً
…
البيت
وكقول سليم القشيري:
ومعتصمٍ بالحيّ من خشية الردى
…
سيردى وغازٍ مشفقٍ سيؤوب
وقال الراجز:
ياربَّ يومٍ لي لا أظلِّله
…
أرمض من تحت وأضحي من عله
وقال آخر:
ياربَّ غابطنا لو كان يطلبكم
…
لا قي مباعدة منكم وحرمانا
قال: وقد يكون ما وقعت عليه ربَّ حالاً كقولك لمن قال: "ما في وقتنا امرؤ مستريح": ربَّ امرئ في وقتنا مستريح.
ومنه قوله ابن أبي ربيعة:
فقمت ولم تعلم علي خشياته
…
ألا ربَّ باغي الربح ليس برابح ومثله:
ألا ربَّ من تغتشُّه لك ناصحٍ
…
ومؤتمنٍ بالغيب غير أمين
وقد تأول بيت حجدر من ذهب إلي التزام مضيه بأنه يكون علي حكاية المستقبل بالنظر إلي المضي، قال: وكأنه قال: فإن أهلك فربَّ فتي بكى علي فيما كضى وإن كنت لم أهلك، فكيف يكون بكاؤه علي إذا هلكت! فأوقع سيبكي موقع بكى لأجل الحكاية، وحذف ما يتم به الكلام لفهم المعنى، والدليل علي أن المستقبل قد يحكى بالنظر إلي ما مضى أنك تقول: لم تركت زيداً وقد كان سيعطيك؟ ومن ذاك قوة امرأة من العرب ترثي زوجها:
يا موت لو تقبل افتداء
…
كنت بنفسي سأفتديه
وهذا التأويل إنما يحتاج إليه إن قدر سيبكي جواباً لاصفة للمخفوض بها، وأما إن قدرته في موضع الصفة للمخفوض بربّ، وجعلت لها جواباً محذوفاً يراد به المضي، فلا يحتاج إليه، ويكون التقدير إذ ذاك: فربّ فتي سيبكى عليَّ مخضب رخص البنان؛ لم أقض حقه، فحذف ذلك لدلالة ما بعده، وهو قوله بعد:
ولم أك قد قضيت حقوق قومي
…
ولا حقَّ المهنَّد والسِّنان
انتهي. وقال أبو حيان بعد ما نقل كلامه هذا: وأما استدلال المصنف بقول أم معاوية؛ فقولها: يا رب قائلة غداً .. هو من الوصف بالمستقبل، لا من باب تعلق ربّ بها، وأمَّا: ومعتصم، فإن سيردى يحتمل وأن يكون صفة لا متعلقاً به ربّ، وأمَّا: لا أظلله، فهو صفة أيضاً: وكذلك يا ربَّ غابطنا، فجميع ما استدل به علي استقبال ما يتعلق به ربّ لا دليل فيه، وأما قوله: فقمت .. البيت؛ وقوله: ألا ربَّ .. البيت، فما وصف فيها المجرور بالحال، لامما تعلقت به ربَّ.
وفي قول المصنف: ولا مضي ما تتعلق به، نص علي أنها تتعلق كحروف الجر غير الزوائد، وهذه مسألة اختلف فيها، فذهب الرماني وابن طاهر إلي أنها لا تتعلق بشيء، وقد حقق أبو حيان القول في عدم تعلقها. ونقل ما يتعلق فيها
من الخلاف وقد نصّ ابن السراج في "الأصول" علي جواز استقبال صفتها لا جوابها، وأن صفة مجرورها لابدَّ منه، وأن جوابها لابد من مضيه، ومذهبه تعلق ربَّ بجوابها، وننقل لك كلامه من "الأصول" حتى تراه، قال: واعلم أن الفعل العامل فيها أكثر ما تستعمله العرب محذوفاً، لأنه جواب، وقد علم فحذف، وربما جيء توكيداً وزيادة في البيان، تقول: ربً رجل عالم قد أتيت، فتجعل هذا هو الفعل الذي تعلقت به ربّ حتى يكون في تقدير: برجل عالم مررت، وكذلك إذا قال: ربّ رجل جاءني فأكرمته، هنا فعل أيضاً محذوف كأنه قال له قائل: ما جاءك رجل فأكترمته؟ فتقول: ربّ رجل جاءني فأكرمته، أي قد كنت فعلت ذاك، فيكون جاءني وما بعده صفة رجل، والصّفة والموصوف بمنزلة اسم واحد، والكلام بعد ما تمَّ، فإن لم تضمر: قد فعلت، وما أشبهه؛ لم يجز. واعلم أنه لابد للنكرة التي تعمل فيها ربّ من صفة، إما اسم وإما فعل، لا يجوز أن تقول: ربّ رجل، وتسكت، حتى تقول: صالح ونحوه،
…
إلي أن قال:
واعلم أن ربهً تستعمل علي ثلاث جهات؛ فالوجه الأول: هو الذي قد ذكرت من دخولها علي الاسم الظاهر النكرة، وعملها فيه وفي صفته الجر. والوجه الثاني: دخولها علي المضمر على شريطة التفسير، وشرحه مفصلاً. والوجه الثالث: أن تصلها بما، فتستأنف ما بعدها، وتكفها "ما" عن العمل ويقع بعدها الفعل، فتقول: ربمّا قام زبد، وربّما زيد قام، وربّما فعلت كذا. ولما كانت ربّ إنما تأتي لما مضى، فكذلك ربّما وقع بعدها الفعل كان حقه أن يكون ماضياً، فإذا رأيت الفعل المضارع بعدما؛ فثم إضمار كان .. إلي أن قال: ولا يجوز: ربَّ رجل سيقول، وليقو منّ غداً، إلا أن تريد: ربّ رجل يوصف بهذا، تقول: ربَّ رجل مسيء اليوم محسن غداً، أي: يوصف بهذا، ويجوز: ربَّما رجل عندك، فتجعل "ما" صلة ملغاة.
ثم ذكر مسائل من هذا الباب، قال: تقول ربّ رجل قائم وضارب، وربّ رجل يقوم ويضرب، وربّ رجل قائم نفسه وعمور، وربّ رجل قائم ظريفاً، فتنصب علي الحال من قائم، وتقول: ربّ رجل قد رأيت، وربّ امرأة، فالاختيار أن تعيد الصفة، لأنك قد أعدت ربَّ، وقد جاء عن العرب إدخال ربّ من على من إذا كانت نكرة غير موصولة، إلا أن من إذا لم توصل لم يكن بدُّ من أن توصف، لأنها مبهمة، حكي عنهم: مورت بمن صالح، و: ربّ من يقوم ظريف، وقال الشاعر: ألا ربّ من تغتشُّه لك ناصح
…
، وتقول: ربَّ رجل يختصم وامرأة وزيد، ولا يجوز الخفض، لأنه لا يتم إلا باثنين، فإن قلت: ربّ رجلين مختصمين وامرأتين؛ جاز لك الخفض والرفع، فتقول: وامرأتان وامرأتين، أما الخفض فبالعطف على رجلين، وأما لرفع فبالعطف على ما في مختصمين، ولو قلت: ربّ رجلين مختصمين هما وامرأتان، وأكدت ثم عطفت؛ لكان أوجه، وتقول: ربّ ضاربك قد رأيت، لأن التنوين نيتك، تريد: ضارب لك، فإن قلت: ضاربك أمس؛ لم يجز عندنا، لأنه معرفة، والأحمر النحوي يعترض بالأيمان فيقول: ربّ – والله – رجل قد رأيت، وربّ – أقسم – رجل قد رأيت، وهذا لا يجوز لأن حرف الجر لا يفصل بينه وبين ما عمل فيه، وسائر النحويين يخالفونه. هذا آخر ما اخترته، وفيه مسائل جيدة تركتها خوف الإطناب. ورأيت في "نوادر أبي زيد" الفصل بين ربّ ومجرورها بالظرف، أنشد لزيد الخيل:
ويقذف شمَّاخ بن عمروٍ ورهطه
…
ويا ربّ منهم دارعٍ وهو أشوس
وقال: إنما لم يقبح الفصل بين ربّ ودارع لأنه بظرف، والظرف لا يعتد به فضلاً. انتهي.
والبيت الشاهد من قصيدة لجحدر بن مالك، قالها لما سجنه الحجاج الثقفي، وأرسل يطلب أسداً ليقتله به، فقالها جحدر يتشوق إلي أهله وبلاده، وأوردها السكري في جملة أشعار جحدر من "كتاب اللصوص" وهي:
تأوَّبني فبتُّ لها كبيعاً
…
هموم لا تفارقني حوان
كبيع وكابع بمعني، أي: مشدود، قلت: وحوانٍ: جمع حانية، من الحنوّ.
هي العوَّاد لأعوّاد قومي
…
أطلن عياني في ذا المكان
إذا ما قلت قد أجلين عنّي
…
ثنى ريعانهن عليَّ ثاني
ريعانهن: أوائلهنً، وهي مفعول.
وكان مقرُّ منزلهنَّ، قلت: وأنفهنه، بالنون والفاء والهاء بمعني: أعيينه، والضمير للقلب، يقال: أنه ماقته: إذا أكلها وأعياها.
أليس الله يعلم أنَّ قلبي
…
يحبك أيُّها البرق اليماني
وأهوى أن أعيد إليك طرفي
…
علي عدواء من شغل وشان
نظرت وناقتاي علي تعادٍ
…
مطاوعتا الأزمَّة ترحلان
إلي ناريها وهما قريب
…
تشوقان المحب وتوقدان
وهيَّجني بلحن أعجميَّ
…
علي غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمي
…
وفي الغرب اغتراب غير دان
أليس اللَّيل يجمع أمَّ عمروٍ
…
وإيّانا قذاك بنا تداني
بلي وترى الهلال كما أراه
…
ويعلوها النَّهار كما علاني
فما بين التَّفرُّق غير سبعٍ
…
بقين من الحرَّم أو ثمان
فيا أخويَّ من جشم بن سعدٍ
…
أقلَاّ اللَّوم إن لن تنفعاني
إذا جاوزتما سعفات جحرٍ
…
وأودية اليمامة فانعياني
إلي قومٍ إذا سمعوا بنعيي
…
بكي شبَّانهم وبكى العواني
وقولا جحدر أمسى رهيناً
…
يجاذر وقع مصقولٍ يمان
يخاذر صولة الحجّاج ظلماً
…
وما الحجّاج ظلاّماً لجان
ألم ترتي غذيت أخا خروبٍ
…
إذا لم أجن كنت مجنَّ جان
تركت أبا نميلة وهو يدعو
…
فلم أر ذاك في الدُّنيا صراني
فلو خدني نميلة كان حيّاً
…
إذا لعني نميلة ما عناني
وإبراهيم أرجي النّاس عندي
…
فكيف فلا أراه ولا يراني
وكان هو العدوَّ بغير لوم
…
بعزمٍ ما عداه وما عداني
فإن أهلك فربَّ فتى سيبكي
…
عليَّ مخضَّبٍ رخص البنان
ولم أك ما قضيت ديون نفسي
…
ولا حقَّ المهَّند والسَّنان
وهذا آخر القصيدة. وقد أورد الجاحظ قصة مسك جحدر في محاسن الشجاعة من كتاب "المحاسن والمساوئ" قال: كان باليمامة رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بم مالك، وكان لسَّاناً فاتكا شجاهاً، وكان قد أبرّ – أي: غلب – علي أهل هجر وناحيتها، ويأمره بالتجرد في طلبه حتى يظفر به، فبعث العامل إلي فتية من بني يربوع بن حنظلة، فجعل لهم جعلاً عظيماً إن هم قتلوا جحدراً أو أتوه به أسيراً، ووعدهم أن يوفدهم إلي الحجّاج ويسني فرائضهم، فخرج الفتية، حتى إذا كانوا قريباً منه بعثوا إليه رجلاً منهم أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرم به، فوثق بهم واطمأن إليهم، فبينما هم علي ذلك إذ شدُّوه وثاقاً، وقدموا به إلي العامل، فبعث به معهم إلي الحجّاج، وكتب يثني علي الفتية، فلما قدموا علي الحجَّاج قال له: أنت جحدر؟ قال: نعم، قال: ما حملك علي ما بلغني عنك؟ قال: جراءة الجنان، وجفوة السلطان، وكلب الزمان! قال وما الذي بلغ من أمرك فيجترئ جنانك، ويصلك سلطانك، ولا يكلب زمانك؟ !
قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، وممن أوفي علي أهل الزمان، قال الحجّاج: إنا قاذفوك في قبة فيها أسد، فإن قتلك كفانا مؤونتك، وإن قتله خليناك ووصلناك، قال: قد أعطيت - أصلحك الله - المنية، وأعظمت المنية، وقرَّبت المحنة. فأمر به فاستوثق بالحديد، وألقي في السجن، وكتب إلي عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسداً ضارباً، فلم يلبث العامل أن بعث له بأسد ضاريات، قد أبرَّت علي أهل تلك الناحية، ومنعت عامة مراعيهم ومسارح دوابهم، فجعل منها واحداً في تابوت يجر علي عجلة، فلما قدموا به أمر، فألقي في حير، وأجيع ثلاثاً، ثم بعث إلي جحدر، فأخرج وأعطي سيقاً ودلي عليه، فمثي إلي الأسد، وجعل يقول:
ليث وليث في مجالٍ ضنك
…
كلاهما ذو أنفٍ ومحك
وصولهٍ في بطشةٍ وفتك
…
إن يكشف الله قناع الشَّكِّ
وظفراً بجوجؤٍ وبرك
…
فهو أحقُ منزلٍ بترك
الذِّئب يعوي والغراب يبكي
حتي إذا كان منه علي قدر رمح، تمطَّى الأسد وزأر، وحمل عليه فتلقّاه جحدر بالسّيف، فضرب هامته ففلقها، وسقط الأسد كأنه خيمة قوضتها الريح، ولم يلبث جحدر لشدة حملة الأسد عليه مع كونه مكبّلاً أن وقع علي ظهره متلخطاً بالدَّم، وعلت أصوات الجماعة بالتكبير، فقال له الحجَّاج، لما رأى منه ما هاله:
يا جحدر إن أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن جائزتك فعلت ذاك بك، وإن