الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده، وهو الإنشاد السابع والثمانون بعد المائة:
(187)
ألقى الصَّحيفة كي يخفِّف رحله
…
والزّاد حتَّى نعله ألقاها
على أن فيه قوينة لدخول ما بعد حتى في حكم ما قبلها، وهي قوله: ألقاها، إذ أنه يقتضي أن النعل ملقاة قطعاً، وأنشد سيبويه على أن حتى فيه حرف جر، وأن مجرورها غاية لما قبله، كأنه قال: ألقى الصحيفة والزاد وما معه من المتاع حتى انتهى الإلقاء إلى الفعل، ويكون "ألقاها" تكرير الفعل على طريق التأكيد.
ويجوز نصب نعله من وجهين؛ أحدهما: بإضمار فعل يفسره ألقاها، كأنه قال: حتى ألقى نعله ألقاها، كما يقال في الواو وغيرها من حروف العطف. وثانيهما: أن تكون للعطف بمعنى الواو، وكأنه قال: ألقى الصحيفة ونلعه، فألقاها تكرير وتوكيد، والهاء عائدة على النعل أو الصحيفة. وكذا في الجر.
وفي البيت تقديم وتأخير، كأنه قال: ألقى الصحيفة، ألقاها كي يخفف رحله، والزاد حتى نعله.
ويجوز الرفع وهو أن يكون مبتدأ، وألقاها في موضع الخبر، والهاء تعود إلى النعل لا غير، وحتى ابتدائية، وكذلك في الوجه الأول من النصب. وقال ابن خلف: في الرفع تكون الجملة معطوفة على الجملة المتقدمة، ورده المصنف. والصحيفة: الكتاب، والرحل هنا: الأثاث والمتاع، وقد أنكره الحريري في "درة الغواص" بهذا المعنى، ورد عليه ابن برّي فيما كتبه عليه، فقال: قال، الجوهري: الرحل منزل الرجل وما يستصحبه من الأثاث، وقد فسرت بيت متمم
ابن نويرة على ذلك وهو قوله:
كريم الثّنا حلو الشَّمائل ماجد
…
صبور على الضَّراء مشترك الرَّجل
قالوا: أراد بالرحل: الأناث: ومثله قول الآخر: "ألقى الصحيفة كي يخفف رحله" قالوا: رحله: أثاثه وقماشه، والتقدير عندهم: ألقى قماشه وأثاثه، حتى ألقى نعله مع جملة أثاثه. وإنما قدروة بذلك ليصح كون ما بعد حتى في هذا الموضع جزءاً مما قبلها، وعليه فسر قوله تعالى:(قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه)[يوسف/74 - 75] قالوا: رحله: أثاثه، بدليل (فاستخرجها من وعاء أخيه) انتهى. وبعد هذا البيت:
ومضى يظنُّ بريد عمرو خلفه
…
خوفاً وفارق أرضه وقلاها
والبريد: الرسول، وعمرو: هو عمرو بن هند ملك الحيرة، وقلاها: أبغضها. والبيتان إشارة إلى قصة المتلمس حين فرّ من عمرو بن هند، وكان المتلمس، قد هجاه بقوله:
قولا لعمرو بن هند غير متَّئب
…
يا أخدس الوجه والأضراس كالعدس
ملك النهار وأمَّا الليل مومسة
…
ماء الرِّجال على فخذيك كالقرس
وكان طرفة بن العبد قد هجاه أيضاً بقوله من قصيدة:
ليت لنا مكان الملك عمرو
…
رغوثاً حول قبَّتنا تدور
فاتصل هجاؤهما به، فلم يظهر لهما شيئاً من التغير، ثم مدحاه بعد ذلك، فكتب لهما إلى عامل بالبحرين كتابين أوهمهما أنه أمر لهما بجوائز، وهو قد
أمره فيهما بقتلهما، فلما وصلا إلى الحيرة، دفع المتلمس كتابه إلى غلام ليقرأه، فإذا فيه: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه، وادفنه حياً، فرمى المتلمس كتابه في نهر الحيرة، وهرب إلى الشام، وأما طرفة فذهب إلى عامله بكتابه، وكان فيه الأمر بقتله أيضاً فقتله. وقد ذكرنا قصتهما بأبسط من هذا في الإنشاد السابع والثلاثين بعد المائة، وفي الإنشاد الرابع والستين بعد المائة أيضاً.
قال ابن خلف: وصف هذا الشاعر راكباً جهدت راحلته، فخاف أن تنقطع به، أو كان خائفاً من عدو يطلبه فخفف رحله بإلقاء ما كان عنده من كتاب وزاد ونعل، وهذا من الإفراط في الوصف، والمبالغة في الدلالة على شدة الجهد أو طلب الفوت وكان الواجب في الظاهر أن يقول: ألقى الزاد كي يخفف رحله والنعل حتى الصحيفة، فيبدأ بالأثقل محملاً، ثم يتبعه الأخف فلم يمكنه. أو يكون قدم الصحيفة، لأن الزاد والنعل أحق عنده بالإبقاء، لأن الزاد يبلغه الوجه الذي يريده، والنعل يقوم له مقام الراحلة إن عطبت فاحتاج إلى المشي، فقد قالوا: كاد المنتعل يكون راكباً. وأقول: إلقاء الصحيفة ابتداءً هو الأهم الواجب، لأنها متضمنة قتله، وهذا هو الواقع في نفس الأمر، ثم لما جدّ في الهرب خاف أن يدرك، فطرح ما يثقله من زاد ونعل وغير ذلك.
والشعر لأبي مروان النحوي قاله في قصة المتلمس حين فرَّ من عمرو بن هند، حكى ذلك الأخفش عن عيسى بن عمر فيما ذكره الفارسي، ونسبه الناس، إلى المتلمس. انتهى. وكذا في "شرح أبيات الجمل" لابن السيد ونسبه ياقوت في "معجم الأدباء" إلى مروان النحوي، لا أبي مروان، قال: سمعت بعض النحويين ينسب إليه هذا الشعر، وقال في ترجمته: هو مروان بن سعيد بن عبّاد بن حبيب