الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع من المقالة الثالثة (في الفواتح والخواتم واللّواحق، وفيه فصلان)
الفصل الأوّل (في الفواتح، وفيه ستة أطراف)
الطّرف الأوّل (في البسملة، وفيه ثلاث جمل)
الجملة الأولى (في أصل الافتتاح بها)
كانت قريش قبل البعثة تكتب في أوّل كتبها «باسمك اللهم» والسبب في كتابتهم ذلك ما ذكره المسعوديّ في «مروج الذهب» عن جماعة من أهل المعرفة بأيّام الناس وأخبار من سلف، كابن دأب، والهيثم بن عديّ، وأبي مخنف لوط ابن يحيى، ومحمد بن السائب الكلبيّ، أن أميّة بن أبي الصّلت «1» الثّقفيّ خرج إلى
الشأم في نفر من ثقيف وقريش في عير لهم «1» ، فلما قفلوا راجعين [نزلوا منزلا واجتمعوا لعشائهم، إذ]«2» أقبلت حيّة صغيرة حتّى دنت منهم فحصبها «3» بعضهم بحجر في وجهها فرجعت، فشدّوا سفرتهم، ثم قاموا فشدّوا على إبلهم وارتحلوا من منزلهم، فلما برزوا من المنزل»
، أشرفت عليهم عجوز من كثيب رمل متوكّئة على عصا «5» ، فقالت: ما منعكم أن تطعموا رحيبة «6» ، اليتيمة الصغيرة التي باتت لطعامكم عليلة، قالوا: وما «7» أنت؟ قالت أمّ العوام، أرملت «8» منذ أعوام؛ أما وربّ العباد، لتفرّقنّ «9» في البلاد، ثم ضربت بعصاها الأرض وأثارت بها الرمل، وقالت: أطيلي إيابهم، وفرّقي ركابهم! فوثبت الإبل كأنّ على ذروة كلّ منها شيطانا، ما يملكون منها شيئا حتّى افترقت في الوادي، فجمعوها من آخر النهار إلى غدوة، فلما أناخوا الرّواحل طلعت عليهم العجوز وفعلت كما فعلت أوّلا وعادت لمقالها الأوّل، فخرجت الإبل كما خرجت في اليوم الأوّل، فجمعوها من غد. فلما أنا خوها ليرحلوها، فعلت العجوز مثل فعلها في اليوم الأوّل والثاني فنفرت الإبل؛ وأمسوا في ليلة مقمرة ويئسوا من ظهورهم؛ فقالوا لأميّة بن أبي الصّلت: أين ما كنت تخبرنا به عن نفسك وعلمك؟
[فقال: اذهبوا أنتم في طلب الإبل ودعوني]«1» . فتوجّه إلى الكثيب الذي كانت تأتي منه العجوز حتّى هبط من ثنيّته «2» الأخرى، ثم صعد كثيبا آخر حتّى هبط منه؛ ثم رفعت له كنيسة فيها قناديل ورجل معترض مضطجع على بابها، وإذا رجل جالس أبيض الرأس واللحية. قال أميّة: فلمّا وقفت قال لي: [إنك لمتبوع.
قلت أجل. قال: فمن أين يأتيك صاحبك؟ قلت: من أذني اليسرى. قال: فبأيّ الثّياب يأمرك؟ قلت: بالسّواد. قال: هذا خطيب الجنّ، كدت ولم تفعل، ولكن صاحب هذا الأمر يكلّمه في أذنه اليمنى، وأحبّ الثياب إليه البياض. فلما جاء بك وما «3» ] . حاجتك؟ فحدّثته حديث العجوز. فقال «4» : هي امرأة يهوديّة هلك زوجها منذ أعوام، وإنها لن تزال تفعل بكم ذلك حتّى تهلككم إن استطاعت- قال أميّة: قلت فما الحيلة- قال: اجمعوا ظهركم فإذا جاءتكم وفعلت ما كانت تفعل، فقولوا سبعا من فوق وسبعا من أسفل «باسمك اللهمّ» فإنها لن تضرّكم.
فرجع أميّة إلى أصحابه فأخبرهم بما قيل له وجاءتهم العجوز ففعلت كما كانت تفعل فقالوا سبعا من فوق وسبعا من أسفل باسمك اللهمّ فلم تضرّهم. فلما رأت الإبل لا تتحرّك، قالت: قد علّمكم صاحبكم، ليبيّضنّ الله أعلاه وليسوّدنّ أسفله. وساروا فلما أدركهم الصبح، نظروا إلى أميّة قد برص في غرّته «5» ورقبته وصدره واسودّ أسفله. فلما قدموا مكة ذكروا هذا الحديث، فكتبت «6» قريش في أوّل كتبها «باسمك اللهمّ» فكان أوّل ما كتبها أهل مكة وجاء الإسلام والأمر على ذلك.
قال إبراهيم بن محمد الشيبانيّ: ولم تزل الكتب تفتتح «باسمك اللهم» حتّى نزل قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«1» فاستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت سنّة بعده. وروى محمد بن سعد في طبقاته، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كات يكتب كما تكتب قريش «باسمك اللهمّ» حتّى نزل عليه وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها
«2» . فكتب باسم الله، حتّى نزل قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ
«3» . فكتب «بسم الله الرحمن» حتّى نزل إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
«4» فكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» . وذكر في «موادّ البيان» نحوه.
وعن سفيان الثوريّ أنه كان يكره للرجل أن يكتب شيئا حتّى يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» . وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يكره أن يكتب كتابا أو غيره حتّى يبدأ ب «بسم الله الرحمن الرحيم» . وعن سعيد بن جبير أنه كان يقول: لا يصلح كتاب إلا أن يكون أوّله «بسم الله الرحمن الرحيم» .
وهذه الأحاديث والآثار كلّها ظاهرة في استحباب الابتداء بالبسملة فيما يكتب به من أصناف المكاتبات والولايات وغيرها، وعلى ذلك مصطلح كتّاب الإنشاء في القديم والحديث، إلا أنهم قد اصطلحوا على حذفها من أوائل التّواقيع والمراسيم الصّغار، كالتي على ظهور القصص ونحوها، وكأنهم أخذوا ذلك من مفهوم ما رواه أبو داود وابن ماجة في سننهما وأبو عوانة الأسفرايينيّ في مسنده عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» يعني ناقص البركة، وما يكتب في التواقيع والمراسيم الصغار ليس من الأمور المهمّة فناسب ترك البسملة في أوّلها