الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله لأمير المؤمنين طاعة خلقه! وأذلّ رقاب الباطل سيف حقه! وجعل الله ما هو قبضته في الأخرى قبضة أمير المؤمنين في الأولى، من الأرض التي هي موطوءة كالسموات العلى، وأدام نعمه على هذه الأمة بإمامته، وأظهر كرامة نبيّه عليه السلام بما يظاهره من كرامته، وعجّل لمن لا يقوم بفرض ولايته إقامة قيامته، وردّ بسيوفه التي لا تردّ ما الإسلام ممطول به من ظلامته، وأقام به مناهج الدّين لأهله، وأظهره بمظاهرته على الدّين كلّه، حتّى يلقى الله ما خلّف في الدنيا كافرا، ولا ضميرا إلا بالتوحيد عامرا، ولا بلدا إلا وقد بات الإسلام به آهلا وقد أصبح منه الكفر داثرا، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثالث (أن يبدأ بآية من كتاب الله تعالى تناسب الحال)
كما كتب القاضي الفاضل، عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى الخليفة المستضيء «1» ببغداد ببشرى بفتح بلد من بلاد النّوبة والنّصرة عليها:
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ
«2» : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ
«3» فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ
«4» . وصلاة يتبعها تسليم، وكأس يمزجها تسنيم وذكر من الله سبحانه في
الملإ الأعلى ورحمة الله وبركاته معلومة من النشأة الأولى على مولانا الإمام «المستضيء بالله» المستضاء بأنواره، المستضاف بداره، الداعي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، الراعي للخلق كما يرعى النسيم النّسيم، العامّ فضله، التامّ عدله، المطروق مورد فنائه، المصدوق في مورد ثنائه، المحقوق من كل وليّ بولائه، ابن السادة الغرّ، والقادة الزّهر، والذّادة الحمس، والشادة للحق على الأسّ، سقاة الكوثر وزمزم والسّحاب، وولاة الموسم والموقف والكتاب، والموصول الأنساب [يوم] إذا نفخ في الصور فلا أنساب، والصابرون على حساب أنفسهم فهم الذين يؤتون أجرهم بغير حساب.
مملوك العتبات الشريفة وعبدها، ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودّها، وكانت المشاهدة لأنواره العلية التي يودّها، ومن يقرن بفرض الله سبحانه فرضها، ويسابق بطاعته إلى جنة وصفها الله تعالى بقوله وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا*
«1» ، يلثم وجه ترابها، ويرى على بعد دارها الأنوار التي ترى بها، ويقف لديها وقوف الخاضع، ويضع أثقال الآثام عن ظهره منها بأشرف المواضع للواضع، ويخبت إليها إخبات الطائح الطائع، ويرجو فضلها رجاء الطامح الطامع. ولولا أنّ الكتاب حجاب بينه وبين المهابة التي تحول بين المرء وقلبه، والجلالة التي هو في تعظيمها على نور من ربّه، لكان خاطره في قبضة الهلع أسيرا، ولانقلب إليه البصر خاسئا حسيرا، ولكنّ قلمه قد تشاجع، أن كان لسانه عن الإبانة قد راجع.
فيقول:
إنّ الله قد رفع ملّة الإسلام على الملل، وكفل نصرها وكفى ما كفل، وحمى ملكها وحمل، وجعل لها الأرض في أيدي المخالفين ودائع، ومكّن يده من أعناقهم فهي إمّا تعقد الأغلال أو تصوغ الصّنائع، والحقّ بها قائم العمود، والسيف الكفاية لازم الغمود، والبشائر تمسّك الصّباح وتخلّق الدّجى، والخيل
على طول ما تشتمل الوحى تنتعل الوجى «1» ، والأيام زاهرة، والآيات باهرة، وعزّة أوليائها قاهرة، وذلّة أعدائها ظاهرة، وعنايات الله لديها متوالية متظاهرة، إذا تغرّب اسمها يوما عن منبر أعيد إلى وطنه غدا، وإذا أوقدت نار فتنة في معصيتها أوقدت في طاعتها نار هدى.
وقد كان النيل قدما فرّت عن الفرات أبناؤه، وتحصّنت غلل «2» المؤمنين عنه فلم يتغلغل إليها ماؤه، وكادت السماء لا تعينه بمطرها، والأرض لا توشّيه بزهرها، والأعناق قد تقاصر دون الراجين بدو منعصها «3» ، والقلوب قد لاذت بأستار الجدار معضها «4» ، والأوثان منصوبه، والآيات مغصوبه، والتّيجان بغير أكفائها من الهامات معصوبه، والّدين أديانا، والمذكّرون بالآيات يخرّون عليها صمّا وعميانا، والعادلون بالله قد وطّنوا ألسنة وصرّحوا عقائد، والمعتدون قد أضلّوا فعالا وضلّوا مقاصد، وكراسيّ خلافة الله قد ألقي عليها أجساد كانت تقعد منها مقاعد، ومنابر كلمات الله قد كاد كيدهم يأتي بنيانها من القواعد، وجرت على بنوة النّبوة أشدّ نبوه، وقصرت الأيدي فلا حدّ سوط ولا حدّ سطوه، ثم قست قلوب فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
«5» وغرّت الأيّام وما وعدت، وأوردت الهمم وما أصدرت، وطغى طوفان الطّغيان ولا عاصم، وسما بناء البهتان ولا هادم، وضاقت الصّدور، ورحلت بغليلها إلى القبور، وظنّ أنّ طيّ دولتهم معدوق بالنّشور، حتّى إذا جلّاها الله لوقتها، وأنجز جموع الضّلال إلى ميعاد شتّها، وأراهم آية معدلته وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها
«6»
جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ
«1» : وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
«2» .
كانت نعمة من الله يمنّها على المملوك أن انتجبه من بين أهل أرضه، وانتخبه لإقامة ما أمات الباطل من فرضه، ويسّره لما يسّره من نصرة الحق وأهله، وبشّره بما بشّره من لواء النصر ومدّ من ظلّه، وألهمه الهمّة التي افترع منها بكرا، ومنحه النّصرة فما يستطيع العدوّ صرفا ولا نصرا. مكّنه من صياصيهم «3» فحلّها، ومن دمائهم فطلّها، ومن سيوفهم ففلّها، ومن أقدامهم فاستزلّها، ومن منابر دعاتهم فعجّل تداعيها، ومن أنفس أعدائهم فأكثر تناعيها، وأبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم؛ ويسّر الذين كتب لهم العفو إلى منافعهم، ونثر خرزات الملك من تيجانها، وفضح على يده وبلسانه ما زوّرته من أنسابها، وحاسبها فأظهر زيف حسابها، ونقلها من ظهور أسرّتها إلى بطون ترابها، وعمد إلى أهل دعوتها الذين بسقوا بسوق النخل فأعلاهم على جذوعها، وحملت قلوبهم فوف «4» الحقد فأخرجها من أكمام طلوعها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لاغية، أو تجد إليهم من صاخية، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم أو مساكينهم، وحصدوا حصد الحشيش ثم لا تخاف سيوفهم ولا سكاكينهم.
واستنزلوا من عقاب اللّوح، وسجنوا في الهمّ من طول مداومة عقاب الرّوح، ثم تداركوا إلى الدّرك، واشتركوا في الشّرك، وأقفرت منهم عراص، وزهدت فيهم خواص، وعلم أن ليس لله غالب، وأن ليس يفوته طالب، وأنّ الملك لله وحده، وأنّ الويل لمن تجاوز أمره وحدّه.
وكان المملوك ممن عطّل من أوثانهم، وأبطل من أديانهم، فائزا بحسنة ينظر إلى حسنات خليل الله صلى الله عليه وسلم في كيده الأصنام وتكسيرها، وتضليله عابديها وتكفيرها. وعمد المملوك إلى المحاضر فجمعها، وإلى المنابر فرفعها، والجمعة فأطاع من شرعها، وأسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصلها باسمه وما قطعها، وعمومته رضوان الله عليهم فتلاها له واتّبعها، وأشاد باسم أمير المؤمنين لتكون الصلاة جامعه، والذّكرى شاملة والإمامة للجماعة شارعه، والهداية للضّلالة صارعه، فعادت للملّة أعياد، واخضرّت للمنبر أعواد، وأنجز للأمّة ميعاد.
وبعد ذلك تحاشدت أولياء الذاهبين وتنادت، وتساعت نحو مستقرّ المملوك وتعادت وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ
«1» وكانوا حميّة حاميّة من بني حام كالجراد أرجلا، إلا أنّ الله أصلاها بنيرانه، وكالماء مدّا إلا أنّ الله أغرقها بطوفانه، وكالنمل لونا وطرقا إلا أنّ الله حطمها بسليمانه «2» ، مع من انضمّ إليهم من ألفاف وأطراف، وأوشاب وأوباش، من جنديّ كسبه سيفه ذلّه، وطرده عن مواقف الكرام وبمحالّ الخزي أحلّه، ومن أرمنيّ كانوا يفزعون إلى نصرة نصرانيّته، ويعتمدون منه على ابن معموديّته، ومن عامّيّ أجابهم لفرط عماه وتفريط عامّيّته، فملأ العيون سوادهم الأعظم، ووراءهم بأس الله الذي لا يردّ عمن أجرم، فأمطرتهم السيوف مطرا كانوا غثاء «3» لسيوله الجوارف، وعصفت بهم الأعنّة عصفا كانوا هباء لهوجه
العواصف، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ
«1» وعوتبت الأنفس والأرؤس قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ
«2» . وظلّت قحاف «3» بني حام تحت غربان الفلا غربانا، وشوهدت ظلمات بعضها فوق بعض أفعالا وألوانا، وصفت موارد السلطان من القذى، وطفيء ذلك الفحم فلا يجد النّفاق بعده ما تتعلق به الجذى «4» ، وبلغت الغايات في كشف كلّ أذى، لا بضرب بموعد يقال فيه إذا.
وكاتب المملوك، واسم أمير المؤمنين قد كتب سطره على جبين النقدين، وسمع لفظه من فم المنبرين بالبلدين، ومدّ كلّ منبر يدا بل يدين، فحين سمع الناس قالوا حقّا ما قاله ذو اليدين، وصارت تلك الأسماء دبر الآذان ووراء الظّهور، وحصّلت المحبّة العباسية سرّا من أسرار القلوب إذا حصّل ما في الصّدور، والخلائق مبايعة متابعة وافية بعهده متوافية، داخلون في الحق أفواجا، سالكون منه شرعة ومنهاجا.
والحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين إماما لخلقه، ووارثا لأرضه ولم يذر فوق الأرض منازعا لحقّه، ولا مناهبا لأرضه، وارتجع له الحقّ الذي كان نادّا، وردّ عليه الأمر الذي لم يكن له غير الله رادّا، وبلّغ كلّ مؤمن من إعلاء كلمة الإيمان به ما كان له وادّا، وأخذ بيد انتقامه من كان عن سبيله صادّا، والإسلام قد استنار كنشأته، والزمان قد استدار كهيئته، والحقّ قد قرّ في نصابه، والأمر قد فرّ عن صوابه، فقد وفي الله القرار له بضمانه، وأخذ بيده ما روى عن ابن عمه صلى الله عليه وسلم وأصفى من لسانه.