الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويفرد بالسلام من دونها.
وقد كانت العادة جارية أن يقال في آخر الكتب النافذة عن الإمام «وكتب فلان بن فلان» باسم الوزير واسم أبيه، ثم بطل هذا الرسم في الدولة العلويّة ولا يكتب أحد بالتصدير إلا الإمام ووليّ عهده. وهذه المكاتبة عامّة للناس جميعا في الأمور السلطانية التي تنشأ فيها الكتب من الدواوين، ولا يخاطب أحد عن الخليفة إلا بالكاف.
الجملة الثانية (في الكتب العامة؛ وهي على أسلوبين)
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح الكتاب بلفظ: «من عبد الله ووليه أبي فلان فلان الإمام الفلاني» على ما تقدّم ترتيبه)
وعلى هذا الأسلوب كان الحال في ابتداء دولتهم وإلى أوساطها.
وهذه نسخة كتاب كتب به الإمام العزيز بالله نزار «1» الفاطميّ إلى عامله بمصر يبشّره بالفتح حين خرج إلى قتال القرمطيّ بالشام في سنة سبع وستين وثلاثمائة، مما أورده المسبّحيّ في تاريخه:
من عبد الله ووليّه نزار أبي المنصور العزيز بالله أمير المؤمنين، إلى حسين بن القاسم.
سلام عليك، فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جده محمد نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأئمة من عترته الأبرار، الطاهرين المطهرين وسلّم تسليما.
أما بعد، فالحمد لله الملك العظيم، العليم الحليم، ذي الطّول الكريم، والمنّ الجسيم، والعزّ المديد، والمحال الشّديد، وليّ الحقّ ونصيره وما حق الباطل ومبيره، المتكفّل بالنصر والتمكين، والتأييد والتحصين، لأوليائه المتقين وخلفائه المصطفين الذابّين عن دينه، والقائمين بحقّه، والدالين على توحيده؛ الحاكم بإعلاء كلمتهم، وإفلاج حججهم وظهورهم على أعدائه المشاقّين له، الضالّين عن سبيله، الملحدين في آياته، الجاحدين نعمه، المنزّل رجزه، وقوارع بأسه على من عصاه فحادّه، وصدّ عنه فنادّه، القاضي بالعواقب الحسنى والفوز والنعماء لمن أسلم وجهه له وتوكل عليه في أمره، وفوّض إليه حكمه كلّ ذلك فضلا منه وعدلا، وقضاء فصلا، وهو الحكم العدل الذي لا يظلم الناس شيئا ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون. فتبارك الله الغالب على أمره الفرد في ملكه، سبحانه وتعالى علوّا كبيرا. والحمد لله الذي ابتعث عبده المصطفى، وأمينه المرتضى، من أكرم سنخ «1» ونبعة، وأظهر ملّته وشرعه في أفضل دهر وعصر، وأنزل عليه كتابا من وحيه حكيما غير ذي عوج قيّما بديع النظام، داخلا في الأفهام، خارجا عن جميع الكلام، ليس كسجع الكهّان، ولا كتحبير ذوي اللسن والبيان، وقد تفرّقت بالأمم أهواؤهم، وتوزّعتهم آراؤهم، فضلّت أحلامهم وعميت أفهامهم واستحوذ عليهم الشيطان، فعبدوا الأصنام والأوثان، جهلا بعبادة الرحمن، فدعاهم إلى الإقرار بإلههم، وعرّفهم وحدانية ربّهم وكان حريصا على إرشادهم، جادّا في الاجتهاد، هاجرا للدّعة والمهاد، صابرا على تكذيب المشركين، وتفنيد الملحدين، ينصح لهم فيستكبرون، ويهديهم فيضلّون، ويحذّرهم فيستهزئون، حتّى ظهر دين الله فسما، وطمس
الكفر فانمحق وعفا؛ وعمّت بركته، وفضّلت على الأمم أمّته، وعلت على الملل ملّته، صلّى الله عليه أفضل صلاة المصلّين، وزاده شرفا في العالمين إلى يوم الدين.
والحمد لله الذي حبا أمير المؤمنين وانتخبه لخلافته، وجعله صفيّه من خلقه وأمينه على عباده وهاديا إلى سبيله، قائما بحقه، مقسطا في أرضه، ذابّا عن دينه، محييا ما أماته أهل الكفر من أحكامه، وأيّده بنصره، وأمدّه بقوّته، وتكفّل له بالنّجح في مسعاه، والظّفر بمبتغاه، ونيل طلبته فيما أمّه وارتآه. وحكم بكبت كلّ عدوّ له وخزيهم، وإذلالهم ومحقهم وخذلهم، وإيهان كيدهم. وضرب الذّلّة عليهم حيث كانوا وأين كانوا، فلا ينعق ناعق منهم بطلال، أو يسعى بفسق وخبال، أو يدفع إلى افتراء على الله أو مروق عن دينه أو إذهاب ما فرض الله عز وجل من طاعة إلا اصطلمه وأخزاه، وأكبّه لوجهه وأرداه، وقضى عليه بالشّقوة في دنياه، وعذاب الآخرة في أخراه.
والحمد لله الذي منح فأجمل، وأعطى فأجزل، من نعمه السابغة، وآلائه المتتابعة، التي لا يوازيها شكر، ولا يدرك كنهها ذكر، حمدا يوجب منه المزيد، ويستدعي المنن والتّجديد، وإليه يرغب أمير المؤمنين خاضعا ويسأله راغبا حسن العون على ما بلّغ رضوانه، وامترى فضله وإحسانه. وتقدّم أمير المؤمنين إليك بما هيّأه الله من وصوله إلى مدينة الرملة «1» على أجمل صنع وألطف كفاية، وأتمّ أمن، وأكمل عزّ وأوطد حال، وأحسن انتظام، وأبسط يد، وأظهر قدرة، وأشمل هيبة وبما أولى الله أمير المؤمنين في حلّه وظعنه، وارتحاله وثوائه، من نعمه العميمة، ومواهبه الجسيمة، ومنحه الجليلة، ومننه الجزيلة، وإنه مما يستغرق الحمد والشّكر، ويفوت الإحصاء والنّشر، وذكر أمير المؤمنين أمر اللعين التركيّ وهربه من بين يديه، وأنه لم يلو
على شيء إلى أن بلغ طبريّة للذي تداخله من الفرق «1» ، واستولى عليه من القلق، ولما سكن قلبه من الرّعب، وحشاه من الرّهب، بقصد أمير المؤمنين إيّاه وإغذاذه «2» السير في طلبه ومواصلته الأسباب، ومتابعته الإدآب. ووصف أمير المؤمنين ما عليه عزمه في تتبّعه واقتفاء أثره، والحلول بعقوته «3» حيث قصد وحلّ، لثقته بالله ربّه، وتوكّله عليه، وتفويضه إليه. ولم يزل جلّ وعز يولي أمير المؤمنين- بعد نفوذ كتابه- من عزّ يؤيده، وظفر يؤكّده، ونصر يوطّئه؛ وآلاء يجدّدها، ومواهب يتابعها، وعدوّ يذلّه، ومناو يقلّه، وشارد يصرفه إلى طاعته، ومارق يعيده إلى موالاته، إلى أن تمّ له من ذلك ما واصل به حمد الله عليه، وتهيّأ له ما تواتر شكره له جل وعزّ فيه وكان مع ذلك مواصلا إلى.
اللعين الإعذار، ومتابعا الإنذار، ومحذّرا له ما يعذر، ومستدعيه إلى ما يختار ويؤثر، وممنّيا له مما يمنّى به مثله من العفو عنه، وتغمّد ما جرى منه، والإقالة لعثرته، والتجاوز عن هفوته، والامتنان عليه بما رغب فيه من تقليده ناحية من نواحي الشام، وإدرار الأرزاق عليه وعلى رجاله وأصحابه، وإيثارة بالفضل الجليل، واختصاصه بالطّول الجزيل. فما نجح في الفاسق وعد، ولا نجع فيه وعظ، ولا وفّق إلى قبول حظ، ولا أصغى إلى قبول تذكرة، ولا أناب إلى تبصرة. وما زال جادّا في تهوّكه «4» ، متماديا على تمهّكه «5» ، جاريا على ضلالته، سالكا سبيل عمايته، مترددا في غوايته، متلدّدا في جهالته، مقدّرا أن بأس الله لا يرهقه، وسطوته لا تلحقه، ورجزه لا يمحقه، وذنوبه لا تزهقه، وأجرامه لا توبقه. وما زال اللّعين في خلال ذلك يبسط آمال العرب ويرجّيها، ويرغّبها ويمنّيها؛ بأقوال كاذبة، وآمال خائبة، ومواعيد باطلة، حتّى أصغى أكثرها إلى غروره، وقبول إفكه
وزوره، وأجابته طائفة طاغية، ووصلت إليه متتابعة، فتوفّر جمعه، وكثر عدده واشتدّ طعمه، وقوي أمله، وتمكن له باستدراج الله إيّاه وغضبه عليه أن يورّط عصبته ومن اختدعه بغيّه واستفزّه معه جهله، ويوردهم جميعا ونفسه الرّذلة موردا لا صدر له، ولا علل بعده؛ فخرج من طبريّة وحلّ بيسان، محلّ الخزي والهوان، فعندها انتهى إلى أمير المؤمنين خبره وهو يومئذ في المنهل، الذي حصل فيه بعد رحيله من الرملة وهو الموضع المعروف بالطّواحين. فعندما قرب استجرار الفاسق اللعين، واعتمد ما يعود بأطماعه، أقام في الموضع أياما ناظرا فيما يحتاج إليه، متأهّبا لما يريده، وكان ذلك هو السبب الذي أطعمه. فبعد ما طمع قاده الحين «1» الغالب، والقدر الجالب، وما أراد الله عز وجل من استدراجه إلى موضع نكاله، ومنهل وباله، ورحل من بيسان «2» رحيل من استعجلته البليّة، واستدعته الرّزيّة، فحلّ بموضع يعرف بكفر «3» سلّام، كافرا بحدود الإسلام، متجرّئا على الله محاربا لنجل نبيّه عليه السلام، وأقام بها متلدّدا في حيرته، متردّدا في سكرته؛ ثم استجرّه شؤمه، وقاده حينه ولؤمه، إلى أن رحل فنزل بكفر «4» سابا البريد، فأنبأه اسمها بما حلّ به من السّبي المبيد والخزي الشديد ثم لم يلبث أن ضرب مضاربه المأكولة، ونصب أعلامه المخذولة، وأقام صفوفه المفلولة، وأظهر آلة الحرب إقداما، و [أخفى] عن اللقاء إحجاما.
فأمر أمير المؤمنين بتزيين العساكر المنصورة والجيوش المظفّرة وتعبئتها على مراتبها، وترتيبها على مواكبها. وتقدّم إلى قوّادها أن لا يمشوا إلا صفّا، ولا يسيروا إلا زحفا، وعرّفهم أنه سيسير بنفسه، ويقصد اللعين بموكبه وجمهوره
ومن معه من حماة رجاله، وأنه لا يثنيه عن الفاسق ثان ولا يصرفه عن الاقتحام صارف، فبدا من عزائمهم، وشدّة شكائمهم، وخلوص بصائرهم، وسكون أفئدتهم، وثبات أقدامهم، ما كانت به دلائل النصر واضحة، وشواهد الفلج لائحة، وعلامات الفتح ظاهرة، وآيات النّجح باهرة، فمشوا على ما أمروا، وساروا على ما سيّروا، فعند ما دنوا من عدوّ الله أصابوه للجلاد معدّا، وفي المحاربة مجدّا، واستخاروا الله عز وجل وتدانوا للتّلاق، والأخذ بالنواصي والأعناق وقامت الحرب على ساق، وتجرّع منها أمرّ مذاق، فاستطار شرارها، وتأججّت نارها، وارتفع دخانها، وعظم شانها، والتزم الأقران بالأقران، واشتدّ الضّرب والطّعان، إلى أن مشى أمير المؤمنين بنفسه، وجمهور موكبه، متوكّلا على الله، ماتّا إليه بجدّه محمد صلى الله عليه وسلم، متوسّلا بمتقدّم وعده، وسالف إنعامه عنده، وقصد اللعين غير متلوّم عن مصادمته، ولا معرّج عن ملاحمته، فقويت نفوس أوليائه وعبيده، ومن اشتملت عليه عساكره المنصورة، وجيوشه المظفّرة بما تبيّنوه من إقدامه، وشاهدوه من اعتزامه، وحملوا على الفاسق وأحزابه، وقذف الله في قلوبهم الرّعب فتزلزلت أقدامهم، وأرعشت أيديهم ونخبت أفئدتهم، وولّوا الدّبر منهزمين، ومنحوا ظهورهم مولّين، وافترقوا ثلاث فرق:
فرقة قتلت في المعركة، وصرعت في الملحمة؛ فاحتزّت رؤوسهم، وفرقة أحسّت وقع السّيوف وإرهاق الحتوف، فاستأمنت تحت الذّلّة والصّغار، والغلبة والاقتدار، فبقّيت عليهم الأرواح، وحقنت منهم الدّماء. وفرقة أسرت أسرا، وقيّدت قيدا، وهرب التّركيّ اللعين رئيس ضلالتهم، وعميد كفرهم، في شر يذمة من أصحابه، فظنّ أن ذلك من بأس الله ينجيه، ومن الأخذ بكظمه يوقيه، هيهات! كما قال الله عز وجل: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ «1»
: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «2»
فاتّبعه سرعان الخيل
وخفاف الرّجال، مع مفرّج بن دغفل بن جراح، فأخذه قبضا وأتى به قودا أسيرا من غير عهد، وذليلا من غير عقد، واستولى أهل العساكر المنصورة، والجيوش المظفّرة، على مناخه وسواده، وما كان فيه من مال وأثاث وكراع «1» وقناع «2» ، وقليل وكثير، وجليل وحقير، فحازوه واتّسعوا به، وأكثروا من حمد الله، وانصرفوا إلى معسكرهم سالمين، بالمغنم والظّفر آمنين، لم يكلم منهم أحد، ولم ينقص لهم عدد. وكان جملة ما أتوا به معهم من رؤوس الفسقة زائدا على ألف رأس، ومن أسراهم ثمانمائة أسير، غير من استؤمن وقت الإيقاع بهم، ولم يفلت من الفسقة إلا من هرب بحشاشة نفسه مع من لاءم التركيّ اللعين، وصاحب عقده ومورّطه في هلاكه، وقائده إلى نقماته، وسائقه إلى موبقاته «3» ، وهو كاتبه المعروف بابن الحمارة. فلحق بطبريّة فقتل هو وجلّ من كان معه واحتزّ رأسه وأتي به، فكملت النعمة، وتمت الموهبة، وتجدّد حمد أمير المؤمنين واتصل شكره، لما أولاه من جليل عطائه، وكريم حبائه، وسنيّ آلائه.
وكان ما آتاه الله من عظيم آياته، وأكبر شواهده، واختصاص الله إيّاه وانتخابه له.
فالحمد لله! ثم الحمد لله! ثم الحمد لله ربّ العالمين على عطائه الهنيّ، وحبائه السّنيّ، وما أيّد أمير المؤمنين، وأعزّ الدين، وقمع المشركين، إذ كان الفاسق اللعين، التركيّ الغويّ المبين، ثلّة من ثللهم وركنا من أركانهم، وحزبا من أحزابهم، ووثنا من أوثانهم، وطاغية من طواغيتهم. ولم يكن لهم في بلد المسلمين يد تصدّ عنهم بأس غيرهم، ولا عضد يدفعون بها سواه. وأمير المؤمنين يرغب إلى الله عز وجل أن يوزعه الشّكر على ما أولاه، ويوجده سبيلا إلى بلوغ مبتغاه، من إعزاز الملّة والدّين، وإحياء شريعة جدّه سيد المرسلين، ومجاهدة التّرك والمشركين، وقمع الظالمين والقانطين والمارقين، حتّى يكون الدين كلّه لله، ويجمع القلوب على طاعته بإذن الله.