الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى المقام الباهر الأنوار، العزيز الجوار، فواصل هذا الموضع قبل مقدم العبد عليه، مقرّرا ما نزل به، ومستأذنا في الوجه الذي تعرّض لطلبه، فأذن له في مقصده، وانصرف عن التأهّب للحركة من بلده. ثم لما وصل العبد هذه الجهة وفرغ هو من شأنه أقبل متوجّها إلى الباب الكريم، ومتوسّلا بأمله إلى فضله العميم، والظاهر من حنقه على أهل أرغون وشدّه عداوته لهم، وما تأكّد من القطيعة بينه وبينهم، أنه إن صادف وقت فتنة معهم ووجد ما يؤمّله من إحسان الأمر العالي، أيّده الله، فينتهي من نكايتهم والإضرار بهم إلى غاية غريبة الآثار، مفضية به إلى درك الثار، وكثير من زعماء أرغون ورجالها أقاربه وفرسانه، وكلّهم في حبله حاطب، ولإنجاده متى أمكنه خاطب، وللمقام الكريم أعلى الرأي فيه أبقاه الله شافيا للعلل، وكافيا طوارق الخطب الجلل، مأمولا من ضروب الأمم وأصناف الملل، وهو سبحانه يديم سعادة جدّه، ويخصّه من البقاء الذي يسرّ أهل الإيمان ويضاعف بهجة الزمان بأطوله وأمدّه، والسّلام.
الأسلوب الثالث (أن تفتتح المكاتبة بأوصاف الخلافة والثناء عليها، والخطاب فيه بأمير المؤمنين وعن المكتوب عنه بنون الجمع)
وهذه المكاتبة من المكاتبات البديعة المسفرة عن صبح البلاغة.
ونسختها بعد البسملة على ما كتب به ابن الخطيب «1» عن سلطانه ابن الأحمر «2» صاحب الأندلس إلى المستنصر بالله أبي إسحاق إبراهيم خليفة «3»
الموحّدين يومئذ بالأندلس. والاستفتاح:
الخلافة التي ارتفع عن «1» عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلّت مباني فخرها الشائع وعزّها الذائع على ما أسّسه الأسلاف، ووجب لحقّها الجازم وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسّلاف «2» ، وثناؤنا على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرّجت الرّياض الأفواف [لمّا زارها الغمام الوكّاف]«3» ودعاؤنا بطول بقائها، واتّصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا «4» الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة، وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود ولا تدركه الأوصاف. وإن عذر في التقصير، عن نيل ذلك المرام الكبير، الحقّ والإنصاف، خلافة وجهة تعظيمنا إذا توجّهت الوجوه، ومن نؤثره إذا همّنا ما نرجوه، ونفدّيه ونبدّيه إذا استمنح المحبوب واستدفع المكروه، السلطان [الخليفة]«5» الجليل، الكبير، الشهير، الإمام، الهمام، الأعلى، الأوحد، الأصعد، الأسعد، الأسمى، الأعدل، الأفضل، الأسنى، الأطهر، الأظهر، الأرضى، الأحفل، الأكمل، أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن الخليفة الإمام البطل الهمام، عين الأعيان، وواحد الزمان، الكبير، الشهير، الطاهر، الظاهر، الأوحد، الأعلى، الحسيب، الأصيل، الأسمى، العادل، الحافل، الفاضل، المعظّم، الموقّر، الماجد، الكامل، الأرضى، المقدّس، أمير المؤمنين أبي يحيى أبي بكر، ابن السلطان الكبير، الجليل، الرفيع، الماجد، الظاهر،
الطاهر، المعظّم، الموقّر، الأسمى، المقدّس، المرحوم أبي زكريا، ابن الخليفة الإمام، المجاهد الهمام الإمام ذي الشهرة الجامحة، والمفاخر الواضحة، علم الأعلام، فخر السّيوف والأقلام، المعظّم، الممجّد، المقدّس، الأرضى، أمير المؤمنين، المستنصر بالله أبي عبد الله بن أبي زكريا ابن عبد الواحد بن أبي حفص أبقاه الله. ومقامه مقام إبراهيم رزقا وأمانا، لا يخصّ جلب الثمرات إليه وقتا ولا يعيّن زمانا وكان على من يتخطّف الناس من حوله مؤيّدا بالله معانا،؛ معظّم قدره العالي على الأقدار، ومقابل داعي حقّه بالابتدار، المثني على معاليه المخلّدة الآثار، في أصونة النّظام والنّثار، ثناء الروضة المعطار على الأمطار، الداعي إلى الله بطول بقائه «1» في عصمة «2» منسدلة الأستار، وعزّة «3» ثابتة المركز مستقيمة المدار، وأن يختم له بعد بلوغ غايات الآجال ونهايات الأعمار، بالزّلفى وعقبى الدار.
سلام كريم كما حملت نسمات الأسحار، أحاديث الأزهار، وروت ثغور الأقاحيّ والبهار، عن مسلسلات الأنهار، وتجلّى على منصّة الاشتهار، وجه عروس النّهار، [يخصّ خلافتكم الكريمة النّجار]«4» العزيزة الجار، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي أخفى حكمته البالغة عن أذهان البشر، فعجزت عن قياسها، وجعل الأرواح كما ورد في الخبر، أجنادا مجنّدة تحنّ إلى أجناسها. منجد هذه الملّة، من أوليائه الجلّة، بمن يروض الآمال بعد شماسها، وييسّر الأغراض قبل التماسها، ويعنى بتجديد المودّات في ذاته وابتغاء مرضاته على حين إخلاق لباسها، الملك الحقّ واصل الأسباب بحوله بعد انتكاث
أمراسها، ومغني النّفوس بطوله بعد إفلاسها- حمدا يدرّ أخلاف النّعم بعد إبساسها، وينشر رمم الآمال من أرماسها، ويقدّس النفوس بصفات ملائكة السموات بعد إبلاسها «1» .
والصلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله سراج الهداية ونبراسها، عند اقتناء الأنوار واقتباسها، مطهّر الأرض من أوضارها وأدناسها، ومصطفى الله من بين ناسها، وسيد الرّسل الكرام ما بين شيثها وإلياسها، الآتي مهيمنا على آثارها في حين فترتها، ومن بعد نضرتها واستئناسها، مرغم الضّراغم «2» في أخياسها «3» ، بعد افترارها وافتراسها، ومعفّر أجرام الأصنام ومصمت أجراسها.
والرّضا عن آله وعترته وأحزابه حماة شرعته البيضاء وحرّاسها، وملقحي غراسها، ليوث الوغى عند احتدام مراسها، ورهبان الرجاء تتكفّل بمناجاة السميع العليم، في وحشة الليل البهيم، بإيناسها، وتفاوح نواسم الأسحار عند الاستغفار بطيب أنفاسها.
والدعاء لخلافتكم العلية المستنصريّة بالسعادة التي تشعشع أيدي العزّة القعساء من أكواسها، ولا زالت العصمة الإلهية كفيلة باحترامها واحتراسها، وأنباء الفتوح، المؤيدة بالملائكة والرّوح، ريحان جلّاسها، وآيات المفاخر، التي ترك الأوّل للآخر، مكتتبة الأسطار بأطراسها، وميادين الوجود مجالا لجياد جودها وباسها، والعزّ والعدل منسوبين لفسطاطها وقسطاسها، وصفيحة النصر العزيز تفيض كفّها المؤيدة بالله على رياسها، عند اهتياج أضدادها وشرّة إنكاسها، لانتهاب البلاد وانتهاسها، وهبوب رياح رياحها وتمرّد مرداسها.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من كتائب نصره أمدادا تذعن أعناق الأنام «1» ، لطاعة ملككم المنصور الأعلام، عند إحساسها، وآتاكم من آيات العنايات آية تضرب الصخرة الصّماء ممن عصاها بعصاها فتبادر بانبجاسها «2» - من حمراء غرناطة- حرسها الله- وأيام الإسلام، بعناية الملك العلّام، تحتفل وفود الملائكة الكرام لولائمها وأعراسها، وطواعين الطّعان، في عدوّ الدّين المعان، تجدّد عهدها «3» بعام عمواسها.
والحمد لله حمدا يعيد شوارد النّعم، ويستدرّ مواهب الجود والكرم، ويؤمّن من انتكاب الجدود وانتكاسها، وليّ الآمال ومكاسها. وخلافتكم هي المثابة التي يزهى الوجود بمحاسن مجدها زهوّ الرّياض بوردها وآسها، وتستمدّ أضواء الفضائل من مقباسها، وتروي رواة الإفادة والإجادة غريب الوجادة عن ضحّاكها وعبّاسها، وإلى هذا أعلى الله معارج قدركم وقد فعل، وأنطق بحجج فخركم من احتفى وانتعل، فإنه وصلنا كتابكم الذي حسبناه على صنائع الله لنا تميمة لا تلقع بعدها عين، وجعلناه على حلل مواهبه قلادة لا يحتاج معها زين، ودعوناه من جيب الكناية آية بيضاء الكتابة لم يبق معها شكّ ولا مين «4» ، وقرأنا منه وثيقة ودّ هضم فيها عن غريم الزمان دين، ورأينا منه إنشاء، خدم اليراع بين يديه وشّاء، واخترع بهميان عقدته مشّاء، وسئل عن معانيه الاختراع فقال: إنّا أنشأناهنّ إنشاء، فأهلا به من عربيّ أتى يصف السانح وألبانه، ويبين فبحسن الإبانة أدّى الأمانة، وسئل عن حيّه فانتمى إلى كنانة، وأفصح وهو لا ينبس، وتهلّلت قسماته وليل حبره يعبس، وكأنّ خاتمه المقفل على صوانه، المتحف بباكر الورد في غير أوانه، رعف من مسك عنوانه. ولله
من قلم دبّج تلك الحلل، ونقع بمجاج الدّواة المستمدّة من عين الحياة الغلل، فلقد تخارق في الجود، مقتديا بالخلافة التي خلّد فخرها في الوجود، فجاد بسرّ البيان ولبابه، وسمح في سبيل الكرم حتّى بماء شبابه، وجمح لفرط بشاشته وفهامته، بعد شهادة السيف بشهامته، فمشى من التّرحيب في الطّرس الرّحيب على أمّ هامته.
وأكرم به من حكيم أفصح بملغوز الإكسير، في اللفظ اليسير، وشرح بلسان الخبير، سرّ صناعة التدبير، كأنما خدم الملكة الساحرة بتلك البلاد، قبل اشتجار «1» الجلاد، فآثرته بالطارف من سحرها والتّلاد، أو عثر بالمعلّقة، وتيك القديمة المطلّقة بدفينة دار، أو كنز تحت جدار، أو ظفر لباني الحنايا، قبل أن تقطع به عن أمانيّه المنايا، ببديعة، أو خلف جرجير الروم، قبل منازلة القدوم «2» ، على وديعة، أو أسهمه ابن أبي سرح، في نشب للفتح وسرح، أو حتم «3» له روح بن حاتم ببلوغ المطلب، أو غلب الحظوظ بخدمة آل الأغلب، أو خصّه زيادة الله بمزيد، أو شارك الشّيعة في أمر ابن أبي يزيد؛ أو سار على منهاج، في مناصحة بني صنهاج، وفضح بتخليد أمداحهم كلّ هاج.
وأعجب به! وقد عزّز منه مثنّى البيان بثالث، فجلب سحر الأسماع، واسترقاق الطباع بين مثاني الإبداع ومثالث. كيف اقتدر على هذا المجيد، وناصح مع التثليث مقام التوحيد. نستغفر الله وليّ العون، على الصّمت والصّون، فالقلم هو الموحّد قبل الكون، والمتّصف من صفات السادة، أولي العبادة، بضمور الجسم وصفرة اللون، إنما هي كرامة فاروقيّة، وأثارة من حديث سارية وبقيّة، سفر وجهها في الأعقاب، بعد طول الانتقاب، وتداول الأحقاب، ولسان مناب، عن كريم جناب، وإصابة السّهم لسواه محسوبة،
وإلى الرامي الذي سدّده منسوبة، ولا تنكر على الغمام بارقة، ولا على المتحقّقين بمقام التوحيد كرامة خارقة، فما شاءه الفضل من غرائب برّ وجد، ومحاريب خلق كريم ركع الشّكر فيها وسجد. حديقة بيان استثارت نواسم الإبداع من مهبّها، واستزارت غمائم الطّباع من مصبّها، فآتت أكلها مرتين بإذن ربّها، لا، بل كتيبة عزّ طاعنت بقنا الألفات سطورها، فلا يرومها النقد ولا يطورها، ونزعت عن قسيّ النّونات خطوطها، واصطفّت من بياض الطّرس وسواد النّقس بلق تحوطها.
فما كأس المدير على الغدير، بين الخورنق «1» والسّدير «2» ، تقامر بنرد الحباب عقول ذوي الألباب، وتغرق كسرى في العباب، وتهدي وهي الشّمطاء نشاط الشّباب، وقد أسرج ابن سريج وألجم، وأفصح الغريض «3» بعد ما جمجم، وأعرب الناي الأعجم، ووقّع معبد بالقضيب، وشرعت في حساب العقد بنان الكفّ الخضيب، وكأنّ الأنامل فوق مثالث العود ومثانيه، وعند إغراء الثقيل بثانيه، وإجابة صدى الغناء بين مغانيه، المراود تشرع في الوشي، أو العناكب تسرع في المشي، وما الخبر بنيل الرغائب، أو قدوم الحبيب الغائب، لا بل إشارة البشير، بكمّ المشير على العشير- بأجلب للسّرور، من زائره المتلقّى بالبرور، وأدعى للحبور، من سفيره المبهج للسّفور، فلم نر مثله من
كتيبه كتاب تجنب الجرد [تمرح]«1» في الأرسان، وتتشوّف مجالي ظهورها إلى عرائس الفرسان، وتهزّ معاطف الارتياح، من صهيلها الصّراح، بالنّغمات الحسان، إذا وجدت الصريخ نازعت أثناء الأعنّة، وكاثرت بأسنّة آذانها مشرعة الأسنّة، فإن ادّعى الظليم أشكالها فهو ظالم، أو نازعها الظّبي هواديها وأكفالها فهو هاذ أو حالم، وإن سئل عن عيوب الغرر والأوضاح قال مشيرا إلى وجوهها الصّباح، جلدة بين العين والأنف سالم، من كلّ عبل الشّوى، مسابق للنجم إذا هوى، سامي التّليل، عريض ما تحت الشّليل، ممسوحة أعطافه بمنديل النّسيم البليل، من أحمر كالمدام، تجلى على النّدام عقب الفدام، أتحف لونه بالورد، في زمن البرد، وحيّي أفق محيّاه بكوكب السّعد، وتشوّف الواصفون إلى عدّ محاسنه فأعيت على العدّ، بحر يساجل البحر عند المدّ، وريح تباري الرّيح عند الشدّ، بالذّراع الأشدّ، حكم له مدير فلك الكفل باعتدال فصل القدّ، وميّزه قدره المميّز يوم الاستباق، بقصب السباق، عند اعتبار الحدّ، وولّد مختطّ غرّته أشكال الجمال، على الكمال، بين البياض والحمرة ونقاء الخدّ، وحفظ رواية الخلق الوجيه [عن جدّه الوجيه]«2» ولا تنكر الرواية على الحافظ بن الجدّ- وأشقر أبي الخلق والوجه الطّلق أن يحقر كأنّما صيغ من العسجد، وطرّف بالدّرّ وأنعل بالزبرجد، ووسم في الحديث بسمة اليمن والبركة، واختصّ بفلج الخصام، عند اشتجار المعركة، وانفرد بمضاعف السّهام [المنكسرة على الهام]«3» في الفرائض المشتركة، واتصف فلك كفله بحركتي الإرادة والطّبع من أصناف الحركة، أصغى إلى السماء بأذن الملهم، وأعرب لسان الصّهيل، عند التباس معاني الهمز والتسهيل، ببيان المبهم، وفتنت العيون من ذهب جسمه، ولجين نجمه بحبّ الدينار والدّرهم، فإن انقضّ فرجم أو ريح لها هجم، وإن اعترض فشفق لاح به للنّجم نجم- وأصفر قيّد الأوابد الحرّة،
وأمسك المحاسن وأطلق الغرّة، وسئل من أنت في قوّاد الكتائب، وأولي الأخبار العجائب، فقال أنا المهلّب بن أبي صفرة؛ نرجس هذه الألوان، في رياض الأكوان، تحيا به وجوه الحرب العوان، أغار بنخوة الصائل، على معصفرات الأصائل فارتداها، وعمد إلى خيوط شعاع الشمس، عند جانحة الأمس، فألحم منها حلّته وأسداها، واستعدت عليه ملك المحاسن فما أعداها، فهو أصيل تمسّك بذيل الليل عرفه وذيله، وكوكب يطلعه من القتام ليله، فيحسده فرقد الأفق وسهيله- وأشهب تغشّى من لونه مضاضه، وتسربل منه لأمة «1» فضفاضة، قد احتفل زينه، لما رقم بالنّبال لجينه، فهو الأشمط، الذي حقّه لا يغمط، والذّراع المسارع، والأعزل الدّارع، وراقي الهضاب الفارع، ومكتوب الكتيبة البارع، وأكرم به من مرتاض سالك، ومجتهد على غايات السابقين الأوّلين متهالك، وأشهب يروي من الخليفة، ذي الشّيم المنيفة، عن مالك- وحباريّ كلّما سابق وبارى استعار جناح الحبارى «2» ، فإذا أعملت هذه الحسبة، قيل من هنا جاءت النّسبة، طرد النّمر، لما عظم أمره وأمر، فنسخ وجوده بعدمه، وابتزّه الفروة ثم لطّخه بدمه، وكأن مضاعف الورد نثر عليه من طبقه، أو الفلك، لما ذهب الحلك، مزج فيه بياض صبحه بحمرة شفقه- وقرطاسيّ حقّه لا يجهل، حتّى ما ترقى العين فيه تشهل، إن نزع عنه جلّه، فهو نجم كلّه، انفرد بمادّة الألوان، قبل أن تشوبها يد الأكوان، وتمزجها أقلام الملوان «3» ، يتقدّم منه الكتيبة المقبلة لواء ناصع، أو أبيض مماصع «4» ، لبس وقار المشيب، في ريعان العمر القشيب، وأنصتت الآذان من صهيله المطيل المطيب، لما ارتدى بالبياض إلى نغمة الخطيب، وإن تعتّب منه للتأخير المتعتّب، قلنا الواو لا
ترتّب، ما بين فحل وحرّه، وبهرمانة «1» ودرّه، ويالله من ابتسام غرّه، ووضوح يمن في طرّه، وبهجة للعين وقرّه، وإن ولع الناس بامتداح القديم، وخصّوا الحديث بفري الأديم، وأوجب المتعصّب، وإن أبى المنصب مرتبة التقديم، وطمح إلى رتبة المخدوم طرف الخديم، وقرن المثري بالعديم، وبخس في سوق الحسد الكيل، ودجى الليل، وظهر في فلك الإنصاف الميل، لما تذوكرت الخيل، فجيء بالوجيه والخطّار، والذائد وذي الخمار «2» ، وداحس والسّكب، والأبجر وزاد الرّكب، والجموح واليحموم «3» ، والكميت ومكتوم، والأعوج وحلوان، ولا حق والغضبان، وعفور (؟) والزّعفران، والمحبر، واللعّاب، والأغرّ والغراب، وشعلة والعقاب، والفيّاض واليعبوب [والمذهّب واليعسوب، والصحون والقطيب، وهيدب والصبيب وأهلوب «4» ] وهدّاج، والحرون وخرّاج، وجلوى، والجناح والأحوى، ومجاج والعصا، والنّعامة، والبلقاء والحمامة، وسكاب والجرادة، وحوصاء، والعرادة. فكم بين الشاهد والغائب، والفروض والرّغائب، وفرق ما بين الأثر والعيان، غنيّ عن البيان، وشتّان بين الصّريح والمشتبه، ولله القائل في مثلها «خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به» والناسخ يختلف به الحكم، وشرّ الدوابّ عند التفضيل بين هذه الدوابّ الصّمّ البكم، إلا ما ركبه نبي، أو كان له يوم الافتخار برهان خبي؛ ومفضّل ما سمع على ما رأى غبي، فلو أنصفت محاسنها التي وصفت لأقضمت حبّ القلوب علفا، وأوردت ماء الشّنينة نطفا، واتّخذت لها من عذر الخدود الملاح عذر موشيّة، وعلّلت بصفير ألحان القيان كلّ عشية، وأنعلت بالأهلّة، وغطّيت بالرّياض بدل الأجلّة.
إلى الرقيق، الخليق بالحسن الحقيق، تسوقه إلى مثوى الرعاية روقة الفتيان رعاته ويهدي عقيقها من سبجه «1» أشكالا تشهد للمخترع سبحانه بإحكام مخترعاته، وقّفت ناظر الاستحسان لا يريم، لمّا بهره منظرها الكريم، وتخامل الظليم وتضاءل الرّيم، وأخرس مقوله اللسان وهو بملكات البيان الحفيظ العليم، وناب لسان الحال، عن لسان المقال، عند الاعتقال، فقال يخاطب المقام الذي أطلعت أزهارها غمائم جوده [واقتضت اختيارها بركة وجوده] «2» : لو علمنا أيّها الملك الأصيل، الذي كرم منه الإجمال والتفصيل، أنّ الثناء يوازيها لكلنا لك بكيلك، أو الشّكر يعادلها ويجازيها لتعرّضنا بالوشل «3» إلى نيل نيلك، أو قلنا: هي «4» التي أشار إليها مستصرخ سلفك المستنصر «5» بقوله: أدرك «6» بخيلك، حين شرق بدفعه الشّرق، وانهزم الجمع واستولى الفرق واتسع فيه والحكم لله الخرق، ورأى أنّ مقام التوحيد بالمظاهرة على التثليث، وحزبه الخبيث، هو الأولى والأحقّ. والآن قد أغنى الله بتلك النّيّة،
عن إنجاد الطّوال الرّدينية، وبالدعاء من تلك المثابة الدينية إلى ربّ البنيّة، عن الأمداد السّنيّة، والأجواد تخوض بحر الماء إلى بحر المنيّة، وعن الجرد العربية في مقاود الليوث الأبيّة، وجدّد برسم هذه الهديّة، مراسيم العهود الودّية، والذّمم الموحّدية، لتكون علامة على الأصل، ومكذّبة لدعوى الوقف والفصل، وإشعارا بالألفة التي لا تزال ألفها ألف الوصل، ولامها حراما على النّصل.
وحضر بين يدينا رسولكم فلان فقرّر من فضلكم، ما لا ينكره من عرف علوّ مقداركم، وأصالة داركم، وفلك إبداركم، وقطب مداركم، وأجبناه عنه بجهد ما كنّا لنقنع من حناه المهتصر، بالمقتضب المختصر، ولا نقابل طول طوله بالقصر، لولا طروء الحصر.
وقد كان بين الأسلاف- رحمة الله عليهم ورضوانه- ودّ أبرمت من أجل الله معاقده، ووثّرت للخلوص، الجليّ النصوص، مضاجعه القارّة ومراقده، وتعاهد بالجميل توجّع لفقده فاقده، أبى الله إلا أن يكون لكم الفضل في تجديده، والعطف بتوكيده، فنحن الآن لا ندري أيّ مكارمكم نذكر، أو أيّ فواضلكم نشرح أو نشكر، أمفاتحتكم التي هي عندنا في الحقيقة فتح، أم هديّتكم وفي وصفها للأقلام سبح، ولعدوّ الإسلام بحكمة حكمتها كبح، إنما نكل الشكر لمن يوفّي جزاء الأعمال البرّة، ولا يبخس مثقال الذّرة ولا أدنى [من] مثقال الذّرة، ذي الرحمة الثّرّة، والألطاف المتصلة المستمرّة، لا إله إلا هو.
وإن تشوّفتم إلى الأحوال الراهنة، وأسباب الكفر الواهية بقدرة الله الواهنة، فنحن نطرفكم بطرفها، ونطلعكم على سبيل الإجمال بطرفها، وهو أننا لمّا أعاد الله من التمحيص، إلى مثابة التخصيص، من بعد المرام العويص، كحلنا بتوفيق الله بصر البصيرة، ووقفنا على سبيله مساعي الحياة القصيرة، ورأينا كما نقل إلينا، وكرّر على من قبلنا وعلينا، أنّ الدنيا- وإن غرّ الغرور، وأنام على سرر الغفلة السّرور، فلم ينفع الخطور على أجداث الأحباب والمرور- جسر يعبر، ومتاع لا يغبط من حبي به ولا يحبر، إنما هو خبر يخبر،
وأن الحسرة بمقدارها على تركه تجبر، وأنّ الأعمار أحلام، وأنّ الناس نيام، وربّما رحل الراحل عن الخان، وقد جلّله بالأذى والدّخان، أو ترك به طيبا، وثناء يقوم بعده للآتي خطيبا، فجعلنا العدل في الأمور ملاكا، والتفقّد للثّغور مسواكا، وضجيع المهاد، حديث الجهاد، وأحكامه مناط الاجتهاد، وقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ
«1» من حجج الاستشهاد، وبادرنا من الحصون المضاعة وجنح التّقيّة دامس، وساكنها بائس، والأعصم في شعفاتها من العصمة يائس، فزيّنّا ببيض الشّرفات ثناياها، وأفعمنا بالعذب الفرات ركاياها، وغشّينا بالصّفيح المضاعف أبوابها، واحتسبنا عند موفّي الأجور ثوابها، وبيّضنا بناصع الكلس أثوابها، فهي اليوم توهم حسّ العيان، أنها قطع من بيض العنان، تكاد تناول قرص البدر بالبنان، متكفّلة للمؤمن من فزع الدنيا والآخرة بالأمان، وأقرضنا الله قرضا، وأوسعنا مدوّنة الجيش عرضا، وفرضنا إنصافه مع الأهلة فرضا، واستندنا من التوكّل على الله الغنيّ الحميد إلى ظلّ لواء، ونبذنا إلى الطاغية عهده على سواء، وقلنا: ربّنا أنت العزيز وكلّ جبّار لعزّك ذليل، وحزبك هو الكثير وما سواه فقليل [أنت الكافي، ووعدك الوعد الوافي، فأفض علينا مدارع الصابرين «2» ] واكتبنا من الفائزين بحظوظ رضاك الظافرين، وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
فتحرّكنا أولى الحركات، وفاتحة مصحف البركات، في خفّ من الحشود، واقتصار على ما بحضرتنا من العساكر المظفّرة والجنود، إلى حصن «3» آش البازي المطل، وركاب العدوّ الضالّ المضل، ومهدي نفثات الصّلّ «4» ،
على امتناعه وارتفاعه، وسموّ يفاعه، وما بذل العدوّ فيه من استعداده، وتوفير أسلحته وأزواده، وانتخاب أنجاده، فصلينا بنفسنا ناره، وزاحمنا عليه الشهداء نصابر أواره، ونلقى بالجوارح العزيزة سهامه المسمومة، وجلامده الملمومة، وأحجاره، حتّى فرعنا بحول من لا حول ولا قوّة إلا به أبراجه المنيعة وأسواره، وكففنا عن العباد والبلاد أضراره، بعد أن استضفنا إليه حصن «1» السهلة جاره، ورحلنا عنه بعد أن شحنّاه رابطة وحامية، وأزوادا نامية، وعملنا بيدنا في رمّ ما ثلم القتال، وبقر من بطون مسالحه الرجال، واقتدينا بنبينا صلوات الله عليه وسلامه في الخندق لمّا حمى ذلك المجال، ووقع الارتجاز المنقول خبره والارتجال، وما كان ليقرّ للاسلام مع تركه القرار، وقد كتب الجوار، وتداعى الدّعرة وتعاوى الشّرار.
وكنا أغزينا الجهة «2» الغربية من المسلمبن بمدينة برغة «3» التي سدّت بين القاعدتين: مالقة ورندة الطريق، وألبست ذلّ الفراق ذلك الفريق، ومنعتهما أن يسيغا الرّيق، فلا سبيل إلى الإلمام، لطيف المنام في الأحلام، ولا رسالة إلا في أجنحة هديّ الحمام، فيسّر الله فتحها، وعجّل منحها، بعد حرب انبتّت فيها النّحور، وتزيّنت الحور، وتبع هذه الأمّ بنات شهيرة، وبقع للزّرع والضّرع خيرة، فشفي الثّغر من بوسه، وتهلّل وجه الإسلام بتلك الناحية بعد عبوسه.
ثم أعملنا الحركة إلى مدينة الجزيرة «4» على بعد المدى، وتعلّقها على بلاد العدا، واقتحام هول الفلا وغول الرّدا، مدينة بنتها حمص «5» فأوسعت
الدار، وأغلت الشّوار، وراعت الاستكثار، وبسطت الاعتمار، رجّح إلينا قصدها على البعد، والطريق الجعد، ما آسفت به المسلمين، من استئصال طائفة من أسراهم مرّوا بها آمنين، وبطائرها المشؤوم متيمّنين، قد أنهكهم الاعتقال، والقيود الثّقال، وأضرعهم الإسار، وجلّلهم الانكسار، فجدّلوهم في مصرع واحد، وتركوهم عبرة للرائي والمشاهد، وأهدوا بوقيعتهم إلى الإسلام ثكل الواحد، وترة الماجد، فكبسناها كبسا، وفجأناها بإلهام من لا يضلّ ولا ينسى، فصبّحتها الخيل، ثم تلاحق الرّجل «1» كما جنّ الليل، وحاق بها الويل، فأبيح منها الذّمار «2» ، وأخذها الدّمار، ومحقت من مصانعها البيض «3» الأهلّة وخسفت الأقمار، وشفيت من دماء أهلها الضّلوع الحرار «4» ، وسلطت على هياكلها النار، واستولى على الآلاف العديدة من سبيها الإسار، وانتهى إلى إشبيلية الثّكلى المغار، فجلّل وجوه من بها من كبار النصرانية الصّغار، واستولت الأيدي على ما لا يسعه الوصف ولا تقلّه الأوقار.
وعدنا والأرض تموج سبيا، لم نترك بعفرّين»
شبلا ولا بوجرة «6» ظبيا، والعقائل حسرى، والعيون تبهرها الصّنع الأسرى، وصبح السّرى قد حمد بعد بعد المسرى، فسبحان الذي أسرى. [ولسان الحميّة ينادي، في تلك الكنائس المخرّبة والنوادي، يا لثارات الأسرى «7» ] .
ولم يكن إلا أن نفّلت الأنفال، ووسمت بالأرضاخ الأغفال، وتميزت
الهوادي والأكفال، وكان إلى غزو مدينة جيّان «1» الاحتفال، قدنا إليها الجرد تلاعب الظّلال نشاطا، والأبطال تقتحم الأخطار رضا بما عند الله واغتباطا، والمهنّدة الزّرق تسبق إلى الرقاب استلالا واختراطا، والرّدينيّة «2» السّمر تسترط حياة النفوس استراطا، وأزحنا العلل عمّن أراد جهادا منجيا غباره من دخان جهنّم ورباطا، ونادينا الجهاد الجهاد، يا أمة الجهاد، راية النبيّ الهاد، الجنّة الجنة تحت ظلال السيوف الحداد، فهزّ النداء إلى الله تعالى كلّ عامر وغامر، وأتمر الجمّ من دعوة الحقّ إلى أمر آمر، وأتى الناس من الفجوج العميقة رجالا وعلى كلّ ضامر، وكاثرت الرايات أزهار البطاح لونا وعدّا، وسدّت الحشود مسالك الطريق العريضة سدّا، ومدّ بحرها الزاخر مدّا، فلا يجد لها الناظر ولا المناظر حدّا.
وهذه المدينة هي الأمّ الولود، والجنة التي في النار لسكّانها من الكفّار الخلود، وكرسيّ الملك ومجنبته الوسطى من الممالك باءت بالمزايا العديدة ونجحت، وعند الوزان بغيرها من أمّات البلدان رجحت، غاب الأسود، وجحر الحيّات السّود، ومنصب التماثيل الهائلة، ومعلق النواقيس الصائلة.
وأدنينا إليها المراحل، وعيّنّا لتجّار المحلات المستقلات منها الساحل، ولما أكثبنا جوارها، وكدنا نلمح نارها، تحرّكنا ووشاح الأفق المرقوم؛ بزهر النجوم، قد دار دائره، والليل من خوف الصّباح، على سرحه المستباح، قد شابت غدائره، والنّسر يرفرف باليمن طائره، والسّماك الرامح يثأر ثغر الإسلام ثائره، والنعائم راعدة فرائص الجسد، من خوف الأسد، والقوس يرسل سهم السعادة، بوتر العادة، إلى أهداف النّعم المعادة، والجوزاء عابرة نهر المجرّه،
والزّهرة تغار من الشّعرى العبور بالضّرّة، وعطارد يسدي في حيل الحروب على البلد المحروب ويلحم، ويناظر على أشكالها الهندسيّة فيفحم، والأحمر يبهر، والعلم الأبيض يفري وينهر، والمشتري يبديء في فضل الجهاد ويعيد، ويزاحم في الخلفات على ما للسعادة من الصفات ويزيد، وزحل على الطالع منزحل، وعن العاشر مرتحل، وفي زلق السّقوط وحل، والبدر يطارح حجر المنجنيق، كيف يهوي إلى النّيق، ومطلع الشمس يرقب، وجدار الأفق يكاد بالعيون عنها ينقب.
ولمّا فشا سرّ الصّباح، واهتزّت أعطاف الرايات لتحيّات مبشّرات الرّياح، أطللنا عليها إطلال الأسود على الفرائس، والفحول على العرائس، فنظرنا منظرا يروع بأسا ومنعه، ويروق وضعا وصنعه، تلفّعت معاقله الشمّ للسّحاب ببرود، ووردت من غدير المزن في برود، وأسرعت لاختطاف أزهار النّجوم، والذراع بين النطاق معاصم رود، وبلدا يعيي الماسح والذارع، وينتظم المحاني والأجارع، فقلنا: اللهم نفّله أيدي عبادك، وأرنا فيه آية من آيات جهادك، فنزلنا بساحتها العريضة المتون، نزول الغيث الهتون «1» ، وتيمّنّا من فحصها الأفيح بسورة التّين والزيتون، متربة من أمان الرحمان للبلد المفتون، وأعجلنا الناس بحميّة نفوسهم النّفيسه، وسجيّة شجاعتهم البئيسه، عن أن نبوّيء للقتال المقاعد، وندني بإسماع شهير النّفير منهم الأباعد؛ وقبل أن يلتقي الخديم بالمخدوم، ويركع المنجنيق ركعتي القدوم، فدفعوا من أصحر إليهم من الفرسان، وسبق إلى حومة الميدان، حتّى أجحروهم في البلد، وسلبوهم لباس الجلد، في موقف يذهل الوالد عن الولد، صارت السّهام فيه غماما، وطارت كأسراب الحمام تهدي حماما، وأضحت القنا قصدا، بعد أن كانت شهابا رصدا، وماج بحر القتام بأمواج النّصول، وأخذ الأرض الرّجفان لزلزال الصّياح الموصول، فلا ترى إلا شهيدا تظلّل مصرعه الحور، وصريعا تقذف به إلى
الساحل أمواج تلك البحور، ونواشب تبأى بها الوجوه الوجيهة عند الله والنّحور، فالمقضب فوده يخضب، والأسمر غصنه يستثمر، والمغفر حماه يخفر، وظهور القسيّ تقصم، وعصم الجند الكوافر تفصم، وورق اليلب في المنقلب يسقط، والبتّر تكتب والسّمر تنقط؛ فاقتحم الرّبض الأعظم لحينه، وأظهر الله لعيون المبصرين والمستبصرين عزّة دينه، وتبرّأ الشيطان من خدينه «1» ، ونهب الكفّار وخذلوا، وبكلّ مرصد جدّلوا، ثم دخل البلد بعده غلابا، وجلّل قتلا واستلابا. فلا تسل، إلا الظّبى والأسل، عن قيام ساعته، وهول يومها وشناعته، وتخريب المبائت والمباني، وغنى الأيدي من خزائن تلك المغاني، ونقل الوجود الأوّل إلى الوجود الثاني، وتخارق السيف فجاء بغير المعتاد، ونهلت القنا الرّدينيّة من الدماء حتّى كادت تورق كالأغصان المغترسة والأوتاد، وهمت أفلاك القسيّ «2» وسحّت، وأرنّت حتّى بحّت، ونفدت موادّها فشحّت بما ألحّت، وسدّت المسالك جثث القتلى فمنعت العابر، واستأصل الله من عدوّه الشأفة «3» وقطع الدابر، وأزلف الشهيد وأحسب الصابر، وسبقت رسل الفتح الذي لم يسمع بمثله في الزمن الغابر، تنقل البشرى من أفواه المحابر، إلى آذان المنابر.
أقمنا بها أيّاما نعقر الأشجار، ونستأصل بالتخريب الوجار «4» ، ولسان الانتقام، من عبدة الأصنام، ينادي يالثارات الإسكندرية تشفّيا من الفجّار، ورعيا لحقّ الجار، وقفلنا وأجنحة الرايات، برياح العنايات خافقه، وأوفاق التوفيق الناشئة من خطوط الطريق موافقه، وأسواق العزّ بالله نافقه، وحملاء الرفق مصاحبة- والحمد لله- مرافقه، وقد ضاقت ذروع الجبال، عن أعناق
الصّهب السّبال، ورفعت على الاكفال، ردفاء كرائم الأنفال، وقلقلت من النواقيس أجرام الجبال بالهندام والاحتيال، وهلك بمهلك هذه الأمّ بنات كنّ يرتضعن ثديّها الحوافل ويستوثرن حجرها الكافل، شمل التخريب أسوارها، وعجّلت النار بوارها.
ثم تحرّكنا بعدها حركة الفتح، وأرسلنا دلاء الإدلال قبل المنح، فبشّرت بالمنح، وقصدنا مدينة أبّدة «1» وهي ثانية الجناحين، وكبرى الأختين، ومساهمة جيّان «2» في حين الحين؛ مدينة أخذت عرض الفضاء الأخرق، وتمشّت فيه أرباضها تمشّي الكتابة الجامحة في المهرق «3» المشتملة على المتاجر والمكاسب، والوضع المتناسب، والفلج المعيي ريعه عمل الحاسب، وكوارة الدّبر اللّاسب، المتعدّدة اليعاسب، فأناخ العفاء بربوعها العامرة، ودارت كؤوس عقار الحتوف، ببنان السيوف، على متديّريها المعاقرة، وصبّحتها طلائع الفاقرة، وأغريت ببطون أسوارها عوج المعاول الباقرة، ودخلت مدينتها عنوة السيف، في أسرع من خطرة الطّيف، ولا تسأل عن الكيف، فلم يبلغ العفاء من مدينة حافلة، وعقيلة في حلل المحاسن رافلة، ما بلغ من هذه البائسة التي سجدت لآلهة النّيران أبراجها، وتضاءل بالرّغام معراجها، وضفت على أعطافها ملابس الخذلان، وأقفر من كنائسها كنّاس الغزلان.
ثم تأهّبنا لغزو أمّ القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، وربّة الشّهرة السافرة، [والأنباء المسافرة]«4» قرطبة «5» وما أدراك ماهيه، ذات الأرجاء الحالية
الكاسيه، والأطواد الراسخة الراسيه، والمباني المباهية والزهراء «1» الزاهيه، والمحاسن غير المتناهيه، حيث هالة بدر السماء، قد استدارت من السّور المشيد البناء، ونهر المجرّة من نهرها الفيّاض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جارا، وفلك الدّولاب المعتدل الانقلاب قد استقام مدارا، ورجّع الحنين اشتياقا إلى الحبيب الأوّل وادّكارا، حيث الطّود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج؛ فيزري بتاج كسرى ودارا، حيث قسيّ الجسور المديره، كأنها عوج المطيّ الغريره، تعبر النهر قطارا، حيث آثار العامريّ المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد، شذى معطارا، حيث كرائم السّحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدّرّ نثارا، حيث شمول الشّمال تدار على الأدواح، بالغدوّ والرّواح، فترى الغصون سكارى وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح تفتضّ من شقائق البطاح، أبكارا، حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبّلها بالسّحر زوّار النّواسم، فتخفق قلوب النّجوم الغيارى، حيث المصلّى العتيق قد رحب مجالا وطال منارا، وأزرى ببلاط الوليد احتقارا، حيث الظّهور المثارة بسلاح الفلاح تجبّ عن مثل أسنمة المهارا، والبطون كأنها لتدميث الغمائم بطون العذارى، والأدواح العالية تخترق أعلامها الهادية بالجداول الخبارا، فما شئت من جوّ صقيل، ومعرّس للحسن ومقيل، ومالك للعقل وعقيل، وخمائل كم فيها للبلابل من قال وقيل، وخفيف يجاوب بثقيل، وسنابل تحكي من فوق سوقها، وقضب بسوقها، الهمزات فوق الألفات، والعصافير البديعة الصّفات، فوق القضب المؤتلفات، تميل بهبوب الصّبا والجنوب، مائلة الجيوب بدرر الحبوب، وبطاح لا تعرف عين المحل، فتطلبه بالذّحل، ولا تصرف في خدمة بيض قباب الأزهار، عند افتتاح السّوسن والبهار، غير العبدان من سودان النّخل، وبحر الفلاحة الذي لا يدرك ساحله، ولا يبلغ
الطّيّة البعيدة راحله، إلى الوادي، وسمر النّوادي، وقرار دموع الغوادي، المتجاسر على تخطّيه، عند تمطّيه، الجسر العادي؛ والوطن الذي ليس من عمرو ولا زيد، والفرا الذي في جوفه كلّ صيد، أقلّ كرسيّه خلافة الإسلام، وأعار بالرّصافة والجسر دار السّلام، وما عسى أن تطنب في وصفه ألسنة الأقلام، أو تعبّر به عن ذلك الكمال فنون الكلام.
فأعملنا إليها السّرى والسّير، وقدنا إليها الخيل وقد عقد الله بنواصيها الخير.
ولما وقفنا بظاهرها المبهت المعجب، واصطففنا بخارجها المنبت المنجب، والقلوب تلتمس الإعانة من منعم مجزل، وتستنزل مدد الملائكة من منجد منزل، والركائب واقفة من خلفنا بمعزل، تتناشد في معاهد الإسلام: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» - برز من حاميتها المحاميه، ووقود النار الحاميه، وبقية السيف الوافرة على الحصاد الناميه، قطع الغمائم الهاميه، وأمواج البحور الطاميه، واستجنّت بظلال أبطال المجال أعداد الرجال الناشبة والراميه، وتصدّى للنّزال، من صناديدها الصّهب السّبال، أمثال الهضاب الراسيه، تجنّها جنن السّوابغ الكاسيه، وقواميسها المفادية للصّلبان يوم بوسها بنفوسها المواسيه، وخنازيرها التي عدتها عن قبول حجج الله ورسوله ستور الظّلم الغاشيه، وصخور القلوب القاسيه، فكان بين الفريقين أمام جسرها الذي فرق البحر، وحلي بلجينه ولآليء زينه منها النّحر، حرب لم تنسج الأزمان على منوالها، ولا أتت الأيّام الحبالى بمثل أجنّة أهوالها، من قاسها بالفجار أفك وفجر، أو مثّلها بجفر الهباءة خرف وهجر؛ ومن شبّهها بحرب داحس والغبراء فما عرف الخبر، فليسأل من جرّب وخبر، ومن نظّرها بيوم شعب جبله، فهو ذو بله، أو عادلها ببطن عاقل، فغير عاقل، أو احتجّ بيوم ذي قار، فهو إلى المعرفة ذو افتقار
أو ناضل بيوم الكديد، فسهمه [غير السّديد،]«1» إنما كان مقاما غير معتاد، ومرعى نفوس لم يف بوصفه لسان مرتاد، وزلزال جبال أوتاد، ومتلف مذخور لسلطان الشيطان وعتاد، أعلم فيه البطل الباسل، وتورّد الأبيض الباتر وتأوّد الأسمر العاسل، ودوّم الجلمد المتكاسل، وانبعث من حدب الحنيّة إلى هدف الرّمية الناشر النّاسل، ورويت لمرسلات السّهام المراسل. ثم أفضى أمر الرّماح إلى التّشاجر والارتباك؛ ونشبت الاسنّة في الدّروع نشب السّمك في الشّباك؛ ثم اختلط المرعى بالهمل، وعزل الرّدينيّ عن العمل، وعادت السّيوف من فوق المفارق تيجانا، بعد أن شقّت غدر السوابغ خلجانا، واتّحدت جداول الدّروع فصارت بحرا، وكان التعانق فلا ترى إلا نحرا، يلازم نحرا، عناق وداع، وموقف شمل ذي انصداع، وإجابة مناد إلى فراق الأبد وداع، واستكشفت مآل الصبر الانفس الشّفّافه، وهبّت بريح النصر الطلائع المبشّرة الهفّافه، ثم أمدّ السيل ذلك العباب، وصقل الاستبصار الألباب، واستخلص العزم صفوة اللّباب، وقال لسان النصر ادخلوا عليهم الباب، فأصبحت طوائف الكفّار، حصائد مناجل الشّفار، فمفارقهم قد رضيت حرماتها بالاعقار، ورؤوسهم محطوطة في غير معالم الاستغفار، وعلت الرايات من فوق تلك الأبراج المستطرفة والأسوار، ورفرف على المدينة جناح البوار «2» ، لولا الانتهاء إلى الحدّ والمقدار، والوقوف عند اختفاء سرّ المقدار.
ثم عبرنا نهرها، وشددنا بأيدي الله قهرها، وضيّقنا حصرها، وأقمنا بها أياما تحوم عقبان البنود على فريستها حياما، وترمي الأرواح ببوارها، وتسلّط النيران على أقطارها، فلولا عائق المطر، لحصلنا من فتح ذلك الوطن على الوطر «3» ، فرأينا أن نروضها بالاجتثاث والانتساف، ونوالي على زروعها وربوعها
كرّات رياح الاعتساف، حتّى يتهيّأ للإسلام لوك طعمتها، ويتهنّأ بفضل الله إرث نعمتها، ثم كانت عن موقفها الإفاضة من بعد نحر النّحور، وقذف جمار الدّمار على العدوّ المدحور، وتدافعت خلفنا السابقات المستقلّات تدافع أمواج البحور.
وبعد أن ألححنا على جنّاتها المصحرة، وكرومها المشتجرة، إلحاح الغريم، وعوّضناها المنظر الكريه من المنظر الكريم، وطاف عليها طائف من ربّنا فأصبحت كالصّريم «1» ، وأغرينا حلاق النار بحمم الجحيم، وراكمنا في أجواف أجوائها غمائم الدّخان، تذكّر طيّبة البان، بيوم الغميم، وأرسلنا رياح الغارات لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرّميم، واستقبلنا الوادي يهول مدّا، ويروع سيفه الصّقيل حدّا، فيسّره الله من بعد الإعواز، وانطلقت على الفرضة [بتلك العرضة]«2» أيدي الانتهاز، وسألنا من ساءله أسد بن الفرات فأفتى برجحان الجواز فعمّ الاكتساح والاستباح جميع الأحواز، فأديل المصون، وانتهبت القرى وهدمت الحصون، واجتثّت الأصول وحطّمت الغصون، ولم نرفع عنها إلى اليوم غارة تصافحها بالبوس، وتطلع عليها غررها الضاحكة باليوم العبوس. فهي الآن مجرى السوابق ومجرّ العوالي، على التوالي، والحسرات تتجدّد في أطلالها البوالي، وكأنّ بها قد صرعت، وإلى الدّعوة المحمّديّة قد أسرعت بقدرة من لو أنزل القرآن على الجبال لخشعت من خشية الله وتصدّعت، وعزّة من أذعنت الجبابرة لعزّه وخنعت، وعدنا والبنود لا يعرف اللفّ نشرها، والوجوه المجاهدة لا يخالط التقطيب بشرها، والأيدي بالعروة الوثقى معتلقه، والألسن بشكر نعم الله منطلقه، والسيوف في مضاجع الغمود قلقه، وسرابيل الدّروع خلقه، والجياد من ردّها إلى المرابط والأواري ردّ العواري حنقه، وبعبرات الغيظ المكظوم مختنقه، تنظر إلينا نظر العاتب،
وتعود من ميادين المراح والاختيال تحت حلل السّلاح عود الصّبيان إلى المكاتب؛ والطّبل بلسان العزّ هادر، والعزم إلى منادي العود الحميد مبادر، ووجود نوع الرّماح، من بعد ذلك الكفاح، نادر، والقاسم ترتّب بين يديه من السبي النّوادر، ووارد منهل الأجور، غير المحلّإ ولا المهجور صادر، ومناظر الفضل الآتي عقبه أخيّه الثاني على المطلوب المواتي مصادر، والله على تيسير الصّعاب وتخويل المنن الرّغاب قادر، لا إله إلا هو، فما أجمل لنا صنعه الخفيّ! وأكرم بنا لطفه الحفيّ! اللهم لا نحصي ثناء عليك، ولا نلجأ منك إلا إليك، ولا نلتمس خير الدّنيا والآخرة إلا لديك، فأعد علينا عوائد نصرك يا مبديء يا معيد، وأعنّا من وسائل شكرك على ما ننال به المزيد، يا حيّ يا قيّوم يا فعّالا لما يريد.
وقارنت رسالتكم الميمونة منه لدينا حدق فتح بعيد صيته، مشرئبّ ليته، وفخر من فوق النّجوم العوائم مبيته، عجبنا من تأتّي أمله الشارد، وقلنا البركة في قدوم الوارد، وهو أنّ ملك النّصارى لا طفنا بجملة من الحصون كانت من مملكة الإسلام قد غصبت، والتماثيل فيها ببيوت الله قد نصبت، أدالها الله بمحاولتنا الطيّب من الخبيث، والتوحيد من التّثليث، وعاد إليها الإسلام عودة الأب الغائب، إلى البنات الحبائب، يسأل عن شؤونها، ويمسح دموع الرّقّة عن جفونها، وهي للرّوم خطّة خسف قلّما ارتكبوها فيما نعلم من العهود، ونادرة من نوادر الوجود، والى الله علينا وعليكم عوارف الجود!، وجعلنا في محاريب الشّكر من الرّكّع السّجود!.
عرّفناكم بمجملات أمور تحتها تفسير، ويمن من الله وتيسير، إذ استيفاء الجزئيّات عسير، لنسرّكم بما منح الله دينكم، ونتوّج بعزّ الملّة الحنيفيّة جبينكم، ونخطب بعده دعاءكم وتأمينكم، فإنّ دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب سلاح ماض، وكفيل بالمواهب المسؤولة من المنعم الوهّاب ميفاض، وأنتم أولى ما ساهم في برّ، وعامل الله بخلوص سرّ؛ وأين يذهب الفضل عن بيتكم، وهو صفة حيّكم وتراث ميتكم، ولكم مزيّة القدم، ورسوخ القدم، والخلافة