الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجملة الثالثة (في طيّ الكتاب وختمه)
أما طيّه فمعروف، وهو أن يلفّ بعضه على بعض لفّا خاصّا. والطّيّ في اللغة خلاف النّشر؛ ويقال: طوى الكتاب يطويه طيّا، ومنه قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ
«1» . والترتيب في ذلك أن تكون الكتابة إلى داخل الكتاب؛ لأن المقصود صون المكتوب فيه.
ثم للناس في صورة الطيّ طريقتان:
الطريقة الأولى- أن يكون لفّه مدوّرا كأنبوبة الرّمح
، وهي طريقة كتّاب الشرق من قديم الزمان وإلى الآن.
والطريقة الثانية- أن يكون طيّه مبسوطا في قدر عرض أربعة أصابع مطبوقة
، وعلى ذلك كان الحال جاريا في الدولة الأيّوبية بالديار المصريّة. فقد ذكر عبد الرحيم بن شيث «2» من كتّاب دولتهم، أنّ طيّ الكتب السلطانية يكون عرض أربعة أصابع، وكذلك من العلية إلى من دونهم، أما الكتاب من الأدنى إلى الأعلى فلا يتجاوز به عرض إصبعين، وهذا ظاهر في أنّ الطّيّ يكون عريضا لا مدوّرا، وهي طريقة أهل المغرب والرّوم والفرنج.
وأما ختمه، فالختم مصدر ختم، يقال: ختم الكتاب يختمه ختما، ومعناه الطّبع، ومنه قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ
«3» والمراد شدّ رأس الكتاب والطبع عليه بالخاتم، حتّى لا يطّلع أحد على ما في باطنه حتّى يفضّه المكتوب إليه، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وهو أمر
مطلوب مرغّب فيه، فمن كلام عمر رضي الله عنه:«طينة خير من ظنّة» يعني أنّ ختم الكتاب بطينة خير من ظنّة تقع في الكتاب بالنظر فيه أو زيادة أو نقص، والظّنّة التّهمة. ومن كلام غيره:«اختم تسلم» . ومن كلام غيره: «إن طيّنت وإلّا وقعت» يعني إن طيّنت الكتاب وإلا وقعت في المحذور. ويقال: إنّ في ختم الكتاب تعظيما للمكتوب إليه. قال بزرجمهر أحد ملوك الفرس: من لم يختم كتابا فقد استخفّ بصاحبه، وجهّل في رأيه. وقد قيل: إن أوّل من ختم الكتاب سليمان عليه السلام؛ وقد فسّر قوله تعالى حكاية عن بلقيس: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ
«1» بأنه مختوم. وعلى نهجه في ذلك جرت ملوك العجم. قال في «موادّ البيان» : ولم تزل كتب العرب منشورة حتى كتب عمرو «2» بن هند الصحيفة إلى المتلمّس «3» ، فقرأها ولم يوصّلها، فختمت العرب الكتب من حينئذ. وقد ورد في الحديث «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى بعض العجم فقيل له: يا رسول الله، إنهم لا يقرأون كتابا غير مختوم، فأمر أن يتّخذ له خاتم حديد، فوضعه في إصبعه، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: انبذه من
إصبعك، فنبذه وأمر أن يتّخذ له خاتم نحاس فوضعه في إصبعه فأتاه جبريل عليه السلام فقال: انبذه من إصبعك فنبذه، ثم أمر أن يتّخذ له خاتم، فاتّخذ له خاتم من فضة فختم به، وكتب إلى من أراد أن يكتب من الأعاجم؛ ونقش عليه «محمد رسول الله» ثلاثة أسطر؛ وكان الخاتم في يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتّى قبضه الله تعالى؛ ثم تختّم به أبو بكر رضي الله عنه حتّى قبض؛ ثم تختّم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتّى قتل؛ ثم تختّم به عثمان رضي الله عنه، فبينما هو ذات يوم على بئر أريس من بئار المدينة، إذ عبث بالخاتم فسقط من يده، فنزح كلّ ما كان في البئر من الماء فلم يوجد؛ فلما يئس منه أمر أن يصاغ له خاتم مثله وينقش عليه «محمد رسول الله» ففعل ذلك وتختّم به. هكذا أورده صاحب «ذخيرة الكتاب» وبعضه في الصحيح. وقيل: إن نقش الخاتم الذي اتخذه كان «آمنت بالّذي خلق فسوّى» . وقيل: كان نقشه «لتصبرنّ أو لتندمنّ» .
ثم كان لكلّ من الخلفاء بعد عثمان رضي الله عنه خاتم يختم به، عليه نقش مخصوص؛ فكان نقش خاتم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه «الملك لله الواحد القهّار» ونقش خاتم ابنه الحسن «لا إله إلا الله الملك الحقّ المبين» ونقش خاتم معاوية بن أبي سفيان «لكلّ عمل ثواب» وقيل:
«لا قوّة إلّا بالله» ونقش خاتم يزيد بن معاوية «ربّنا الله» ونقش خاتم معاوية بن يزيد «الدّنيا غرور» «1» ونقش خاتم مروان ابن الحكم «الله ثقتي ورجائي» ونقش خاتم عبد الملك ابن مروان، «آمنت بالله مخلصا» ونقش خاتم الوليد بن عبد الملك «يا وليد، إنّك ميّت ومحاسب!» ونقش خاتم عمر بن عبد العزيز «عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله» ونقش خاتم يزيد بن عبد الملك «قني «2»
السّيّئات «1» يا عزيز» ونقش خاتم هشام بن عبد الملك «الحكم للحكم الحكيم» ونقش خاتم الوليد بن يزيد «يا وليد احذر الموت» ونقش خاتم يزيد بن الوليد «يا يزيد قم بالحق» ونقش خاتم إبراهيم بن الوليد «توكّلت على الحيّ القيّوم» ونقش خاتم مروان بن محمد «اذكر الله يا غافل» .
وكان نقش خاتم السّفّاح، أوّل خلفاء بني العبّاس «الله ثقة عبد الله» ونقش خاتم المهديّ «2» «حسبي الله» ونقش خاتم الرّشيد «العظمة والقدرة لله» . وقيل:«كن من الله على حذر» ونقش خاتم الأمين «محمد واثق بالله» ونقش خاتم المأمون «سل الله يعطيك» ونقش خاتم المعتصم «الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن» ونقش خاتم الواثق «الله ثقة الواثق» ونقش خاتم المتوكّل «على الحيّ اتّكالي» ونقش خاتم المنتصر «يؤتى الحذر من مأمنه» ونقش خاتم المستعين «في الاعتبار غناء عن الاختبار» ونقش خاتم المعتز «الحمد لله ربّ كلّ شيء وخالق كلّ شيء» ونقش خاتم المهتدي «من تعدّى الحقّ ضاقت مذاهبه» ونقش خاتم المعتمد «السّعيد من وعظ بغيره» ونقش خاتم المعتضد «الاضطرار يزيل الاختيار» ونقش خاتم المكتفي «بالله عليّ بن أحمد يثق» ونقش خاتم المقتدر بالله «الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء» ونقش خاتم القاهر «محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» ونقش خاتم المتّقي «المتّقي لله» كلقبه للخلافة، ونقش خاتم المستكفي «المستكفي بالله يثق» ولم أقف على نقش خاتم أحد من الخلفاء غير هؤلاء.
واعلم أنه كان للختم في أيام الخلفاء ديوان مفرد يعبّر عنه بديوان الخاتم.
وقد اختلف في أوّل من اتّخذ ديوان الخاتم؛ فروى محمد بن عمر المدائني في كتاب «القلم والدواة» بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لم يكن أبو
بكر ولا عمر يلبسون «1» خواتم ولا يطبعون كتابا، حتّى كتب زياد بن أبي سفيان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنك تكتب إلينا بأشياء ليست لها طوابع؛ فاتخذ عند ذلك عمر طابعا يطبع به، وخزم «2» الكتاب ولم يكن قبل يخزم.
ومقتضى ذلك أن يكون أوّل من اتخذ الختم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويكون لبسه خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم لغير الختم. وذكر الطبريّ في تاريخه: أن أوّل من اتخذ ذلك معاوية بن أبي سفيان في خلافته، وذلك أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف من عند زياد، ففتح الكتاب وجعل المائة مائتين؛ فلما رفع زياد حسابه أنكر ذلك معاوية، وطلب عمرا فحسبه حتّى قضاها عنه أخوه عبد الله بن الزّبير واتخذ معاوية حينئذ ديوان الختم، وخزم الكتاب ولم يكن قبل يخزم. قال القاضي وليّ الدين بن خلدون في تاريخه: «وديوان الختم عبارة عن الكتّاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان. قال: وهذا الخاتم خاصّ بديوان الرسائل، وكان ذلك للوزير في أيام الدولة العباسية. ويشهد لذلك قول الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفرا، ويستبدل به من الفضل أخيه: إني أحوّل الخاتم من يميني إلى شمالي، فكنى بالخاتم عن الوزارة، لانضمام ديوان الرسائل إلى الوزير إذ ذاك. ثم اختلف العرف بعد ذلك، فصار ليس إليه الرسائل في الدولة.
ثم للختم ثلاث صور:
الصورة الأولى- أن يلصق رأس الكتاب بنوع من أنواع اللّصاق، كالكثيراء «3» المدافة «4» بالماء، والنّشا المطبوخ ونحو ذلك. وهذا هو المستعمل بالديار المصرية وبلاد المشرق من قديم الزمان وهلمّ جرّا إلى زماننا؛ والمستعمل بالدواوين هو النّشادون غيره، لنصاعة بياضه وشدّة لصاقه. قال في «موادّ
البيان» : ويجب أن يكون اللّصاق خفيفا كالدّهن لئلا يتكرّس ويكثف في جانب الورق. وقد كانت عادتهم في بلاد المشرق أيام الخلفاء أن يختم بخاتم الخليفة، بأن يغمس في طين معدّ لذلك أحمر الصبغ، ويختم به على طرفي اللّصاق، ليقوم مقام علامة الخليفة. وكان هذا الطين يجلب إليهم من سيراف «1» من بلاد فارس، وكأنّه مخصوص بها؛ وعلى نهج الخلفاء جرى الملوك حينئذ.
والذي استقرّ عليه الحال الآن بالديار المصرية ونحوها من البلاد الشرقية الاقتصار على مجرّد اللّصاق اكتفاء بما فيه من الضبط وظهور فضّه إن فضّ.
وهذه المسألة مما سأله الشيخ جمال الدين بن نباتة كتّاب ديوان الإنشاء بدمشق مخاطبا به للشيخ جمال الدين محمود الحلبي- فقال: ومن ختم الكتاب بالطين وربطه؟ ومن غيّر الطين إلى النّشا وضبطه؟. وقد سبق الكلام في النّشا وسائر أنواع اللّصاق في الكلام على آلات الدواة في المقالة الأولى.
الصورة الثانية- أن يخزم الكتاب من وسطه بالأشفار حتّى تنفذ في بعض طيّات الكتاب ثم تخرج من وجه الورق أيضا، ويدخل فيه دسرة «2» من الورق كالسّير الصغير ويقطّ طرف الدسرة؛ ثم يلصق على ذلك بشمع أحمر؛ ثم يختم عليه بخاتم يظهر نقشه فيه، ويسمّى هذا النوع من الختم الخزم- بالخاء والزاي المعجمتين- أخذا من خزم البعير، وهو أن يثقب أنفه ويجعل فيه خيط أو نحوه..
ولعل هذه الطريقة من الختم هي التي كان عليها الحال حين أحدث الختم في صدر الإسلام، ويدل على ذلك قول ابن عمر رضي الله عنه في رواية «3» الطبريّ