الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالحمد لله الذي صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدّد علاه وأعلى جدّه، وأسعد نجمه وأنجم سعده، ووعده نجحه وأنجح وعده، وأورده وصفه وأصفى ورده.
المملوك ينتظر الأمثلة ليتمثّلها، والأمانة ليتحمّلها، والتقليدات المطاعة ليتلوها، والتشريفات الشريفة ليجلوها، والسواد ليجلي الحلك عن ضمائر المبطلين، والسيف الحالي لحكمه في رقاب المعطّلين، وللآراء الشريفة فصل برهانها، وفضل سلطانها وأمرها الذي لا يخرج حين يخرج عن عزّ الملّة وتوطيد بنيانها، وعزمها الذي يرفع حين يرفع ظلمة أدخانها. إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع (أن يبتدأ الكتاب بالصلاة)
كما كتب القاضي الفاضل، عن الملك الناصر «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى الخليفة ببغداد، في البشرى بفتح بلد من بلاد النّوبة أيضا، وانهزام ملكها بعساكره:
صلوات الله التي أعدّها لأوليائه وذخرها، وتحيّاته التي قذف بشهبها شياطين أعدائه ودحرها، وبركاته التي دعا بها كلّ موحّد فأجاب، وانقشع بها غمام الغمّ وظلام الظّلم فانجاب عن أنجاب، وزكاته التي هي للمؤمنين سكن، وسلامه الذي لا يعتري الموقنين في ترديده حصر ولا لكن «1» - على مولانا عاقد ألوية الإيمان، وصاحب دور الزمان، وساحب ذيل الإحسان، وغالب حزب الشيطان، الذي زلزلت إمامته قدم الباطل، وحلّت خلافته ترائب الدّهر العاطل، واقتضت سيوفه ديون الدّين من كل غريم ماطل، وأمضت غرب كل عزم للحقّ مفلول وأطلعت غارب نجم كلّ هدى آفل، وشفعت يقظات استغفاره إلى
غافر ذنب كلّ غافل،، وعلى آبائه الغاية والمفزع، والملاذ في وقت الفزع، والقائمين بحقوق الله إذ قعد الناس، والحاكمين بعدل الله إذ عدم القسطاس «1» ، والمستضيئين بأنوار الإلهام الموروثة من الوحي إذا عجز الاقتباس، والصابرين في البأساء والضّرّاء وحين الباس، خزّان الحكم، وحفّاظها، ومعاني النّعم، وألفاظها، وأعلام العلوم المنشورة إلى يوم القيامة، وكالئي السّروح المنتشرة من كلا «2» سديد الإمامة، ومن لا ينفذ سهم عمل إلا إذا شجذ بموالاتهم، ولا يتألّق صبح هداية إلا إذا استصبح الساري بدلالاتهم.
المملوك يقبّل الأرض بمطالع الشّرف ومنازله، ومرابع المجد ومعاقله، ومجالس الجود، ومحالّ السجود، ومختلف أنباء الرحمة المنزّلة، ومرسى أطواد البسيطة المتزلزلة، ومفترّ مباسم الإمامة، ومجرّ مساحب الكرامة، ومكان جنوح أجنحة الملائك، ومشتجر مناسك المناسك، حيث يدخلون من كل باب مسلّمين، ويتبعهم ملوك الأرض مستسلمين، ومشاهد الإسلام كيوم أنزل فيه اليوم أكملت لكم دينكم- وينعقد على الولاية فأما غيره فله قوله: قاتلوا الّذين يلونكم، ويناجيها بلسان جلّى الإخلاص الصادق عقيدته، وأنشط الولاء السابق عقيلته، وأرهف الإيمان الناصع مضاربه، وفسّح المعتقد الناصح مذاهبه، فأعرب عن خاطر لم يخطر فيه لغير الولاء خطره، وقلب أعانه على ورود الولاء [أن] صفاء المصافاة فيه فطره- ويخبر أنه ما وهن عمّا أوجبته آلاؤه ولا وهى، ولا انثنى عزمه عن أن يقف حيث أظلّت سدرة المنتهى، ووضحت الآيات لأولي النّهى. والله سبحانه يزيل عنه في شرف المثول عوائق القدر وموانعه، ويكشف له عن قناع الأنوار التي ليست همّته بما دون نظرها قانعة- وكان توجّه منصورا بجيش دعائه، قبل جيش لوائه، وبعسكر إقباله، قبل عسكر قتاله، وبنصال
سلطانه، قبل نصال أجفانه، لا جرم «1» أنّ كتائب الرّعب سارت أمام الكتائب، وقواضب الحذر غمّضت في جفونها عيون القواضب- وسار أولياء أمير المؤمنين الذين تجمّعوا من كلّ أمّة، وتداعوا بلسان النّعمة، وتصرّفوا بيد الخدمة، وصالوا بسيف العزمة، متواخية نيّاتهم في الإقدام، متآلفة طويّاتهم في طاعة الإمام، كالبنيان المرصوص انتظاما، وكالغاب المشجر أعلاما، وكالنّهار الماتع حديدا وهّاجا، وكالليل الشامل عجاجا عجّاجا، وكالنهر المتدافع أصحابا، وكالمشط المطّرد اصطحابا، والأرض ترجل برجلهم لما ترفعه الحوافر من غيومها، والسماء تنزل نزولهم لما تضعه الذّوابل من نجومها، فما انتشرت رياضها المزهره، وغياضها المشجره، إلا دلّت على أن السّحاب الذي سقاهم كريم، والإنعام الذي غمرهم عظيم، والدّنيا التي وسعتهم من عزمتهم تظعن وتقيم.
ولما علم العدوّ أنّ الخطب المظنون قد صرّح خطابه، والأمل المخدوع قد صفر وطابه، راسل ورأى سلّ السّيوف يغمده، وماكر وماكرّ لعلمه أن الحتف يعمده، واندفع هاربا هائبا، وخضع كائبا كاذبا، فمضى المملوك قدما، وحمّله ظلمه وقد خاب من حمل ظلما، وأجابه بأنه إن وطيء البساط برجله وإلا وطئه برأسه، وإن قدم على المملوك بأمله وإلا أقدمه بيأسه، وإن لم يظهر أثر التوبة وإلّا أقام «2» عليه الحدّ بسكرة الموت من كأسه، فلم يخرج من مراوغة تحتها مغاوره، ومكاسرة وراءها مكاشره، فاستخار الله في طلبه، وانتهز فيه فرصة شغل قلبه بريبه، ولم يغرّه ما أملي له في البلاد من تقلّبه. وسار ولم يزل مقتحما، وتقدّم أوّل العسكر محتدما، وإذا الدار قد ترحّل أهلها منها فبانوا «3» ، وظعنوا عن ساحتها فكأنّهم ما كانوا، ولم يبق إلا مواقد نيران رحلت قلوبهم
بضرامها، وأثافيّ «1» دهم أعجلت المهابة ما ردّ سغبهم «2» عن طعامها، وغربان بين كأنها في الديار ما قطع من رؤوس بني حامها، وعوافي طير كانت تنتظر من أشلائهم فطر صيامها، وعادت الرسل المنفّذة لاقتفاء آثارهم وأداء أخبارهم، ذاكرة أنهم لبسوا الليل حدادا على النعمة التي خلعت، وغسلوا بماء الصبح أطماع نفس كانت قد تطلعت، وأنهم طلعوا الأوعار أوعالا والعقاب عقبانا، وكانوا لمهابط الأودية سيولا ولأعالي الشّجر قضبانا- فرأى المملوك أن الكتاب فيهم قد بلغ أجله، والعزم منهم قد نال أمله، والفتك بهم قد أعمل منصله «3» ، وأن سيوف عساكر أمير المؤمنين منزّهة أن تريق إلا دماء أكفائها من الأبطال، وأن تلقى إلا وجوه أنظارها من الرجال، وأن المذكورين نمل حطمه سليمان عليه السلام وجنوده، ورمل أطاره العاصف الذي يسحفه «4» ويقوده- وأصدر هذه الخدمة والبلاد من معرّتهم عارية، والكلمة بانخفاضهم غالية عالية، ويد الله على أعدائه عادية، وأنفس المخاذيل في وثاق مهابته العالية عانية- فرأى المملوك أن يرتّب بعده الأمير فلانا ليبذل الأمانات، لسوقة أهل البلاد ومزارعيها، ويفصل المحاكمات، بين متابعي السلطنة ومطاوعيها، ويفسّح مجال الإحسان لمعاودي المواطن ومراجعيها، فيعمر من البلاد ما قد شغر، ويشعر بالأمنة من لا شعر، فإنّ مقام المملوك ومن معه من عساكر تمنع الشمس من مطلعها، وتردّ جرية البحر عن موقعها، مما يضرّ بالغلال وينسفها، ويجحف بالرّعايا ويعسفها.
فالحمد لله الذي جعل النصر لائذا بأعطاف اعتزامه، وأنامل الرّعب السائر إلى الأعداء محرّكة عذبات أعلامه، والعساكر المناضلة بسلاح ولائه،