الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه مناجاة أمير المؤمنين لك، أجراك فيها على ما عوّدك من التجمّل والإكرام، وحباك فيها بما هو مبشّر لك بالسعادة الوافية الأصناف والأقسام، فتلقّها بالجذل والاستبشار، وواصل شكر الله تعالى على ما تضمّنته من حسن مجاري الأقضية والأقدار؛ وطالع حضرة أمير المؤمنين بأنبائك، وتابع إنهاء ما يتشوّف نحوه من تلقائك؛ إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (أن يتّخذ التحميد في أوّل الكتاب، وهو أقلّ وقوعا من الضرب الذي قبله)
وهذه نسخة كتاب من ذلك، كتب به أبو إسحاق الصابي «1» عن «المطيع لله» «2» إلى بعض ولاة الأطراف، عند طاعة عبد «3» الملك بن نوح أحد ملوك بني ساسان، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الوليّ بالاستحماد، المستحقّ لكنه الاعتباد، القدير على تأليف الأجساد، البصير بسبل خفايا الأحقاد، ذي الحكمة في تبديل الضّغن «4» والسّخيمة «5» ذمّة، والمنابذة عصمة، والقطيعة وصلة، والشّحناء خلّة، والحرج فرجة، والشّعث نضارة وبهجة. الذي جعل الصّلح فتحا هنيّا، والسّلم منجا بهيّا، والموادعة منّا جزيلا، والإرعاء أمنا جميلا، والإقالة حرما لا
يضلّ هداه، ولا تحلّ قواه، ولا تخيب عواقبه، ولا تخفى مآثره ومناقبه، رأفة منه بالخلق، وصيانة لأهل الحقّ، وإمهالا في العهد، ورخصة في الاختصار دون الحدّ؛ ليقرّب فيئة المتأمل، ويسهّل رجعة المتحصل، وتسرع رفاهية المستبصر، ويخفّ اجتهاد المزاول المشمّر، وقد قال الله عز وجل وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
«1» وهو المسؤول عمارة الإسلام بالسّلامة، والأنام بالاستقامة، والسلطان بالطّاعة، والملك ببخوع «2» الجماعة، حتّى تزال الفتنة مهيضة «3» الجناح، مريشة الاجتياح، فليلة الشّباة «4» ، قليلة الأدوات، فتكون النفوس واحدة، والأيدي مترافدة؛ والمودّات صافية، والمآرب متكافية متضاهية، في الشكر الذي يذاد به عن النّفوس، ويحمى به حريم الدّين؛ ويرجى معه التأييد، ويبتغى بوسيلته المزيد، فقد قال الله- وقوله الحق-: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «5»
والله سميع مجيب. وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل! وقد علمت ما فرط من نوح بن نصر في السّهو، ونقم منه في الهفو، الذي ألهاه عن التقوى، وأنساه شيمة الرّقبى «6» ، فعدل عن سنن القصد، وزاغ عنه على عمد، وحال عن آداب آبائه رحمهم الله وهم القدوة، وسجاياهم وبهم الأسوة، وما كان ينتمي به من الولاء، ويعتزي إليه من الوفاء، وصار أدنى معنى ممن يحسده على كرم الأصل، وينافسه في شرف المحل، ويدخل على عقله مدّخل النصيحة، ويطّلع بظاهرها على آرائه الصريحة، وكلّ ذلك إلحاد في أمير
المؤمنين وعهدته، ومروق عن أزمّته، وعقوق بالبرية يشقى به الباقي، ولن يشقى به النازح الماضي. فإنّ أمير المؤمنين ما زال واعيا لأوامر سلفه، عارفا بمآثر خلفه، متجافيا لأولئك عما ابتدعه، متنوّيا لهذا التّجاوز عمّا صنعه، فقد كان نمي إلى أمير المؤمنين أنّ عبد الملك بن نوح، مولى أمير المؤمنين، سليم السّريرة، سديد البصيرة، يرجع إلى رأيه وتدبيره، ولم يجد وشمكير بن زنار، عاجله بالبوار، مساغا إلى ختله، ولا احتيالا في ليّه وفتله، وكان لعبد الملك ركن الدولة بن مالك مولى أمير المؤمنين ظهير صدق، إن وسن أيقظه، وإن ماد أيّده، خلّة فضل فطره الله عليها، وغريزة تمييز أحسن الله إليه فيها، فإنه لو قال أمير المؤمنين: إنه لا مثل له استحقّ هذا الوصف، ولأمن أمير المؤمنين فيه الخلف. ترك لباس أبيه فنزعه، واعتاض منه وخلعه، وتنصّل مما كان منه منتهكا، فعاد عليه محتنكا، وأتى الأمر من طريقه، ولجأ فيه إلى فريقه، ركن الدولة أبي عليّ مولى أمير المؤمنين، أحسن الله ولايته، ومعزّ الدولة أبي الحسين تولّى الله معونته، واستصلحهما، وكفى، واستخلصهما، وغنى، وراسل في الإنابة وإن لم يكن حائدا، والاستقالة وإن لم يكن جانيا، فما ترك ركن الدولة ومعز الدولة- كلأهما الله- إكبار قدره، وإجلال أمره، والقيام بخلاصه، والنطق عن أمير المؤمنين بلسان مشاركته، وإذكار أمير المؤمنين بما لم ينسه من تلك الوثائق، التي صدّر بها كتابه، والعلائق، التي وشّح بها خطابه، إلى أن أجلّ أبا محمد نوحا وترحم عليه، وقبل عبد الملك وأحسن إليه، وواصل رسله، واستمع رسائله، وقلّده خراسان ونواحيها، وسائر الأعمال الجارية فيها، وعهد إليه في ذلك عهدا وميّزه باللواء، والخلع «1» والحباء، بعد أن كنّاه بلسانه، ووفّاه حدود إحسانه؛ وألحقه في ذلك بآبائه، ولم يقصّر فيه بشأوه.
وكتاب أمير المؤمنين هذا، وقد اطّردت الحال واستوثقت، وامتزجت الأهواء واتفقت؛ وخلا المشرق من الاضطراب الذي طال أمده، ولم يكد يرى أثره،