الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله في كتابه «التعريف» : والصدر نحو العبد أو المملوك أو الخادم يقبّل الأرض، أو العتبات، أو مواطيء المواقف أو غير ذلك. ويخاطب الخليفة في أثناء الكتاب بالدّيوان العزيز، وبالمواقف المقدّسة أو المشرّفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف، وبأمير المؤمنين مجرّدة عن سيدنا ومولانا، ومرة غير مجرّدة مع مراعاة المناسبة والتسديد والمقاربة. ويختم الكتاب تارة بالدعاء، وتارة «بطالع» أو «أنهى» أو غير هما مما فيه معنى الإنهاء.
قال: واختلف فيما يخاطب به المكتوب عنه عن نفسه؛ فكتب صلاح الدين بن أيوب «الخادم» وكتب بنوه والعادل أخوه «المملوك» وكتب الكامل بن العادل «العبد» وجرى على هذا ابنه الصالح. وكتب الناصر بن العزيز «أقلّ المماليك» وكتب الناصر داود «أقلّ العبيد» وكان علاء الدين خوارزم شاه يكتب «الخادم المطواع» وتبعه على ذلك ابنه جلال الدين، وكانت أمّ جلال الدين تكتب «الأمة الداعية» . هذا على شمم أنوف الخوارزمية وعلوّ شأنهم.
وعنوان هذه المكاتبات على اختلافها «الديوان العزيز، العالي، المولويّ، السيديّ، النبويّ، الإماميّ، الفلاني (بلقب الخلافة) أدام الله أيّامه، أو خلد الله أيامه، أو أدام الله سلطانه» على مناسبة ما في صدر الكتاب.
ثم هو على ستة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للديوان العزيز)
قال في «التعريف» : والمراد بالديوان ديوان الإنشاء؛ لأنّ المكاتبات عنه صادرة وإليه واردة. قال: وسبب مخاطبتهم بالديوان الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، ويكون الدعاء للدّيوان بما فيه معنى دوام العزّ والسلطان وبسط الظّلّ وما أشبه ذلك، مثل: أدام الله أيام الديوان العزيز، أو أدام الله سلطان
الديوان العزيز، أو خلّد الله أيام الديوان العزيز، أو خلّد الله سلطان الديوان العزيز، وأدام الله ظلّ الديوان العزيز، وخلّد الله ظل الديوان العزيز، وبسط الله ظلّ الديوان العزيز، وما أشبه ذلك.
وهذه نسخة «1» كتاب كتب به القاضي الفاضل «2» عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» صاحب الديار المصرية، إلى الناصر لدين الله الخليفة يومئذ ببغداد، بفتح القدس وما معه، واقتلاع ذلك من أيدي الفرنج وإعادته إلى ما كان عليه من الإسلام، وهي «3» :
«أدام الله «4» أيام الديوان العزيز النبويّ الناصريّ «5» ، ولا زال مظفّر الجدّ بكلّ جاحد، [غنيّا]«6» بالتوفيق عن رأي كلّ رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النّصر والسيف «7» في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدّد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكر واحد، [ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غويّ وريش
راشد] «1» ولا زالت غيوث فضله [إلى الأولياء]«2» أنواء إلى المرابع «3» وأنوارا إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلا إلى المراقب وخيالا إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة، تلو ما صدر عنه مما كان يجري مجرى التّباشير بصبح «4» هذه الخدمة. والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنها بحر للأقلام فيه سبح طويل، ولطف الحق للشّكر «5» فيه عبء ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله «6» في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوام لا يقال معه: هذا مضى. وقد «7» صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبّت «8» عقائد أهله على بصائرها، وتقلّص ظلّ رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلمّا وقع الشرط حصل «9» المشروط، وكان الدّين غريبا فهو الآن في وطنه، والفوز معروضا فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحق وكان مستضعفا، وأهل ربعه وكان قد عيف حين عفا، [وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة]«10» فأدلجت «11» السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كلّ دين، واستطارت له أنوار أبانت أنّ الصباح عندها حيان «12» الحين، واستردّ المسلمون تراثا كان عنهم
آبقا، وظفروا يقظة بما لم يصدّقوا أنهم يظفرون به طيفا على النأي طارقا، واستقرّت على الأعلى أقدامهم، وخفقت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصّخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرة كما تشفى بالماء غللهم.
ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنّأ كفؤها الحجر الأسود ببتّ «1» عصمتها من الكافر بحربه، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النّعمى، ولا يناجز من استمطله «2» في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى «3» في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة «4» إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة «5» ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربّما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقة رايحة تجاسر «6» ، ومن سما لأن يجلّي غمرة غامر، وإلا فإنّ القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضّها «7» ، ويضعف في أيديها مهر القوائم فتقضّها «8» ، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حقّ الله «9» في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطوّقه «10» الخادم من أئمة قضوا بالحقّ
وبه كانوا يعدلون، وخلفاء الله «1» كانوا في مثل هذا اليوم لله «2» يسألون، لا جرم «3» أنهم أورثوا سرورهم «4» وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيّتهم الشّريفة، وطلعتهم «5» المنيفة، وعلوان «6» صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم «7» وبياض الصّحيفة، فما غابوا لمّا حضر، [ولا غضّوا]«8» لمّا نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولا، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولا ومنه مقبولا، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنّت به جنوبها [وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها]«9» وفاز منها بذكر لا يزال الليل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى «10» نورا من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنّه نور لا تكنّه أغساق «11» السّدف، وذكر لا تواريه «12» أوراق الصّحف.
وكتاب «13» الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدوّ الذي تشظّت قناته شفقا «14» ، وطارت فرقه فرقا، وفلّ سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددا
وحصى، فكلّت «1» حملاته وكانت قدرة الله تصرّف فيه العنان بالعيان، عقوبة من الله ليس لصاحب يد بها «2» يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضّت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة «3» ، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأضحت «4» الأرض المقدّسة الطاهرة وكانت الطامث، والربّ المعبود «5» الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشّرك «6» مهدومة، ونيوب الكفر «7» مهتومة، وطوائفه المحامية، مجتمعة «8» على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية، مذعنة ببذل المطامع «9» الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء الأفنية «10» لهم نصرة، وقد «11» ضربت عليهم الذّلّة والمسكنة، وبدّل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللّقاة الأولى فأمدّه الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا يعيش «12» معها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السّلاسل، وقتل منهم من فتكت «13»
به المناصل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسّلاح [والكفّار، وعن أصناف يخيّل بأنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرّماح الأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضا بثار]«1» ، فكم أهلّة سيوف تقارضن الضّراب بها حتّى عادت كالعراجين «2» ، وكم أنجم رماح «3» تبادلت الطّعان حتّى صارت كالمطاعين، وكم فارسيّة ركض عليها فارسها السّهم «4» إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه «5» ، وكان اليوم مشهودا، وكانت الملائكة شهودا، وكان الكفر «6» مفقودا، والإسلام مولودا، وجعل الله ضلوع الكفّار لنار جهنّم وقودا، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدّين وعلائقه، وهو صليب الصّلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما «7» دهموا قطّ بأمر إلّا وقام بين دهائمهم يبسط لهم باعه، ويحرّضهم «8» وكان مدّ اليدين في هذه الدّفعة وداعة، لا جرم أنهم تهافت «9» على نارهم فراشهم، وتجمّع «10» في ظلّ ظلامه خشاشهم، فيقاتلون تحت ذلك الصّليب أصلب قتال وأصدقه ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشدّ عقد «11» وأوثقه،
ويعدّونه سورا تحفر حوافر الخيل خندقه.
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت «1» دهاتهم، ولم يفلت معروف إلا القومص، وكان لعنه الله مليّا يوم الظّفر بالقتال، ويوم «2» الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفا من أن يلحقه منسر الرّمح وجناح «3» السّيف، ثم أخذه الله «4» بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدّتهم فذالك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.
وبعد الكسرة مرّ الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العبّاسيّة السوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي [وعزائم أوليائها «5»
] المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر «6» ، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النّصر، فافتتح بلد «7» كذا وكذا، وهذه «8» أمصار ومدن، وقد تسمّى البلاد بلادا وهي مزارع وفدن «9» وكلّ «10» هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحار وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ويحصد منها كفرا ويزرع إيمانا، ويحطّ من منائر جوامعها صلبانا «11» ويرفع أذانا، ويبدّل المذابح منابر والكنائس
مساجد، ويبوّيء «1» بعد أهل الصّلبان أهل القرآن للذّبّ عن دين الله مقاعد، ويقرّ عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلّق «2» النصر منه ومن عسكره بجارّ ومجرور، وأن ظفر «3» بكل سور ما كان يخاف زلزاله وزياله «4» إلى يوم النّفخ في الصّور.
ولمّا لم يبق إلا القدس وقد اجتمع «5» إليها كلّ شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كلّ قريب منهم وبعيد، وظنّوا أنّها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما «6» نازلها «7» الخادم رأى بلدا كبلاد، وجمعا كيوم التّناد، وعزائم قد تألّفت «8» وتألّبت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصّته، فزاول البلد من جانب «9» ، فإذا أودية عميقة، ولجج وعرة «10» غريقة، وسور قد انعطف عطف السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار «11» ، فعدل إلى جهة أخرى كان للمطامع «12» عليها معرّج، وللخيل فيها متولّج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضربت «13» خيمته بحيث يناله السّلاح بأطرافه، ويزاحمه السّور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمّها «14» ضمّة ارتقب بعدها الفتح،
وصدع أهلها «1» فإذا هم لا يصبرون على عبودية الخدّ «2» عن عتق الصّفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدّة، وقصدوا نظرة من شدّة وانتظارا لنجدة، فعرفهم «3» في لحن القول، وأجابهم بلسان الطّول، وقدّم المنجنيقات «4» ، التي تتولّى عقوبات الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب «5» فلا تفارقها سهامها ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السّور بأكنافه «6» فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوّه إلى السّماك، فشجّ مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها «7» ، ورفع مثار عجاجها «8» ، فأخلى السّور من السيّارة، والحرب من النّظّارة، فأمكن «9» الثّقّاب، أن يسفر للحرب النّقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته «10» من التّراب، فتقدّم إلى الصّخر فمضغ سرده، بأنياب معوله، وحلّ عقده، بضربه الأخرق الدالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه «11» واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقبّله 1»
، وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض، وفتح في السور باب «13» سدّ من نجاتهم أبوابا، وأخذ
نقب «1» في حجره، قال عنده الكافرا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«2» فحينئذ يئس الكفّار من أصحاب الدّور، كما يئس الكفّار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرّهم بالله الغرور «3» .
وفي الحال خرج طاغية كفرهم وزمام أمرهم ابن بارزان «4» سائلا أن يؤخذ البلد بالسّلم لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسّطوة، وألقى بيده إلى التّهلكة، وعلاه ذلّ الملكة «5» بعد عزّ المملكة، وطرح «6» جبينه في التّراب، وكان حينا لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح إليه «7» طرف آمل طامح، وقال: ها هنا أسارى مؤمنون «8» يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحمّلت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجّلوا، وثنّي بنساء الفرنج وأطفالهم فقتّلوا، ثم استقتلوا بعد ذلك فلم «9» يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف، ولم يسلّ «10» سيف من يد إلا بعد أن تنقطع «11» أو ينقصف، وأشار «12» الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنه إن أخذ «13» حربا فلا بدّ أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمر قد
نيل من أوّله المراد. وكانت الجراح في العساكر قد تقدّم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق «1» الحركات، فقبل منهم المبذول عن يد وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الاسلام خطّة كان عهده بها دمنة سكّان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله «2» أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحقّ وأسخطهم، فإنّهم- خذلهم الله- حموها بالأسل والصّفاح [وبنوها بالعمد والصّفّاح]«3» وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية «4» منها كلّ غريبة من الرّخام الذي يطّرد ماؤه، ولا يطرد «5» لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنّن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديد، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد [كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعمدا كالأشجار لها من التنبيت أوراق]«6» .
وأوزع «7» الخادم بردّ الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفّيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر «8» شعبان، فكادت السموات يتفطّرن للسّجوم «9» لا للوجوم، والكواكب ينتثرن «10» للطّرب لا للرّجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها «11» مسدودة، وظهرت «12»
قبور الأنبياء وكانت بينهم «1» بالنّجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها [وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها]«2» وجهر باسم أمير المؤمنين في قطبه «3» الأقرب من المنبر، فرحّب به ترحيب من برّ بمن برّ، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار به سرورا لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مجدّ في استفتاح بقيّة الثّغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصّدور، فإنّ قوى العساكر قد استنفدت مواردها، وأيّام الشّتاء «4» قد مردت مواردها، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها. فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجمّ ولا تستنفد، وينفق «5» عليها ولا ينفق منها، وتجهّز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرّها»
، ويدأب في عمارة أسوارها ومرمّات معاقلها، وكلّ مشقّة فهي بالاضافة إلى نعمة الفتح محتملة وأطماع «7» الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن تزول «8» أيديهم من أطواق البلاد حتّى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخّص، ولا بما سوى المشافهة تتلخّص. فلذلك نفّذنا «9» لسانا شارحا، ومبشّرا صادحا، ينشر «10»