الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التابع إلى السلطان واقعا في باب الإخبار بأحوال ما ينظر فيه من الأعمال، وما يجري على يديه من المهمّات. قال في «موادّ البيان» : فسبيله أن يوفّي حقّه في الشرح والبيان، ويسلك فيه طريقة يجمع فيها بين إيضاح الأغراض من غير هذر يضجر ويملّ، ولا اختصار يقصّر ويخلّ، وأن يقصد إلى استعمال الألفاظ السّهلة التي تصل معانيها إلى الأفهام من غير كلفة، ويتجنب ما يقع فيه تعقيد وتوعير أو إبهام، إلا أن يعرض له في المكاتبة ما يحتاج إلى التّورية والكناية كما تقدّم فيما إذا أطلق عدوّ لسانه في السلطان فإنه يحتاج إلى الكناية عنه على ما مرّ.
القسم الثالث (ما يكتب به إلى الأكفاء «1» والنّظراء، والطبقة الثانية من الرؤساء)
قال في «موادّ البيان» : وسبيل مكاتبتهم أن يؤتى فيها باللفظ المساوي للمعنى من غير إيجاز ولا إطناب؛ لأنها رتبة متوسطة بين الرّتبتين المتقدّمتين.
ولا يخفى أنّ ما ذكره إنما هو عند الوقوف مع حقائق المكاتبات. أما الإخوانيّات المطلقة، فإنها تكون في الطّول والقصر بحسب ما بين الصديقين من المودّة والقرب، وما يعلمه كلّ واحد منهما من خلق الآخر، وما توجبه دالّته عليه.
وسيأتي في مقاصد المكاتبات من أمثلة الأقسام الثلاثة ما يوضّح مقاصدها ويقرّب مآخذها إن شاء الله تعالى.
الطّرف الثالث (في أمور تختص بالأجوبة، وفيه جملتان)
الجملة الأولى (في بيان أيّ الأمرين من الابتداء والجواب أعلى رتبة وأبلغ في صناعة الكتابة)
وقد اختلف الكتّاب في ذلك، فذهب أكثر البلغاء إلى أن الكتب الجوابيّة
أتعب مطلبا وأصعب مرتفى من الكتب الابتدائية، وأن فيها تظهر مهارة الكاتب وحذقه، لا سيما إذا كان الخطاب محتملا «1» للاعتذار والاعتلال عن امتثال الأوامر والنواهي، والتّورية عن نصوص الأحوال، والإعراض عن ظواهرها، قائدا إلى استعمال المغالطة، موجبا للانفصال عن الاحتجاج والإلزام، ونحو ذلك مما يؤدّي إلى الخلاص من المكاره.
واحتجّوا لترجيح ذلك بوجوه.
منها- أن المبتديء محكّم في كتابه، يبتديء بألفاظه كيف شاء، ويقطعها حيث يشاء، ويتصرّف في التقديم والتأخير، والحذف والإثبات والإيجاز والإسهاب؛ ويبني على أساس يؤسسه لنفسه، والمجيب ليس له تقديم ولا تأخير، وإنما هو تابع لغرض المبتديء، بان على أساسه.
ومنها- أنّ المجيب- إذا كان جوابه محتملا للإشباع والتوسّع- مضطرّ إلى اقتصاص ألفاظ المبتديء واتّباعها للإجابة عنها، وذلك يؤدّي إلى تصفّح كلام المبتديء والمجيب ويصل ما بين الكلامين، لأن الكلامين يتقابلان فلا تخفى رتبتهما والفاضل منهما من الرّذل، وهذا مرفوع عن المبتديء.
ومنها- أن تأليف الكلام وانتظامه واتّساقه والتئامه يقدر منها المبتديء على ما لا يقدر عليه المجيب؛ لأن الجواب يفصّل أجزاء الكلام ويبدّد نظامه ويقسّمه أقساما، لمكان الحاجة إلى استئناف القول من الفصل بعد الفصل بقول وأمّا كذا وأمّا كذا، فظهور الصورة المستحسنة، في المتصل أكثر من ظهورها في المنفصل.
أما إذا كان الجواب مقتضبا مبنيّا على امتثال مأمور، أو انتهاء عن منهيّ عنه، فإنه سهل المرام، قريب المتناول؛ لأنه إنما يشتمل على ذكر وصول الكتاب والعمل بما فيه.
وذهب صاحب «موادّ البيان» إلى أنّ الابتداء والجواب في ذلك على حدّ واحد، وإن «1» كان الكاتب قد يجيد في الابتداء ولا يجيد في الجواب وبالعكس محتجّا لذلك بأن كلّا من المبتديء والمجيب ممتاح «2» من جودة الغريزة، محتاج من البلاغة والصّناعة إلى ما يحتاج إليه الآخر، لأن الكاتب يكون تارة مبتدئا وتارة مجيبا، وليست الإجابة بصناعة على حيالها، ولا البداية بصناعة على حيالها، بل هما كالنوعين للجنس، ولا منع من أن يكون الكاتب ماهرا في نوع دون نوع.
قال: والكاتب لا يكون في الأمر الأعمّ كاتبا عن نفسه وإنما يكون كاتبا عن آمر يأمره بالكتابة في أغراضه ويسلّمها إليه منثورة، فيحتاج إلى نظمها وضمّها وإبرازها في صورة محيطة بجميع الأغراض من غير إخلال بشيء منها، فعلى المبتديء من المشقّة في إيراد أغراض المكتوب عنه في الصّورة الجامعة لها مع نظمها في سلك البلاغة مثل ما على المجيب من المشقّة في توفية فصول كتاب المبتديء حقّها من الإجابة والتصرّف على أوضاع ترتيبها، بل كلفة المجيب قريبة، لأنه يستنبط من نفس معاني كتاب المبتديء للمعاني التي يجيب بها، لأن الجواب لا يخلو من أن يكون يوافق الابتداء أو يناقضه، فإن وافقه فالأمر سهل، وإن ناقضه فإنّ كل نقيض قائم في الوهم على مقابلة نقيضه، إلا أنه أتعب على كل حال من الموافق، ولا شكّ أن الجواب بتجزئته قد خفّ تحمّله، إذ ليس من يجمع خاطره على الفصل الواحد حتّى يخرج عن جوابه كمن يجمع خاطره على الكتاب كلّه، ثم قال: وليس القصد مما ذكرناه مناقضة مشايخ صناعتنا «3» ، ولكن القصد تعريف الحق الذي يجب اعتقاده والعمل عليه.