الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطرف العاشر (من المكاتبات عن الخلفاء المكاتبات إلى أهل الكفر)
وكان الرّسم فيها أن يكتب «من فلان إلى فلان» . ويقع التخلّص فيها إلى المقصود ب «أما بعد» . ويختم الكتاب بلفظ «والسّلام على من اتّبع الهدى» . فقد حكى أبو هلال العسكريّ في كتابه «الأوائل» أنه كان على الروم ملكة، وكانت تلاطف الرشيد ولها ابن صغير، فلمّا نشأ فوّضت الأمر إليه فعاث وأفسد، فخافت أمّه على ملك الروم فقتلته، فخرج عليها تقفور ملك الرّوم فقتلها واستولى على ملكها وكتب إلى الرشيد:
«أما بعد، فإنّ هذه المرأة وضعتك موضع الشاه، ووضعت نفسها موضع الرّخّ «1» ، وينبغي أن تعلم أنّي أنا الشاه وأنت الرّخّ. فأدّ إليّ ما كانت المرأة تؤدّي إليك» . فلما قرأ الكتاب، قال لكتّابه أجيبوا عنه، فكتبوا ما لم يرتضه، فكتب هو إليه:
ويقال: إنه كتب «الجواب ما تراه لا ما تسمعه، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار» . ولا يخفى ما في ذلك من البلاغة مع الإيجاز.
وكما كتب عن الحافظ لدين الله، أحد خلفاء الفاطميين بمصر إلى صاحب صقلّيّة «2» وما معها من ملوك الفرنج:
«من عبد الله ووليّه عبد المجيد أبي الميمون الإمام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين، إلى الملك بجزيرة صقلّيّة، وأنكورية وأنطالية وقلّورية وسترلو وملف وما انضاف إلى ذلك، وفّقه الله في مقاصده! وأرشده إلى العمل بطاعته في مصادره وموارده.
سلام على من اتّبع الهدى، وأمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد خاتم النبيّين، وسيد المرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديّين، وسلّم تسليما.
أما بعد، فإنه عرض بحضرة أمير المؤمنين الكتاب الواصل من جهتك، ففضّ ختامه واجتلي، وقريء مضمونه وتلي، ووقعت الإصاخة إلى فصوله، وحصلت الإحاطة بجمله وتفاصيله. والإجابة تأتي على أجمعه، ولا تخلّ بشيء من مستودعه، أما ما افتتحته به من حمد الله تعالى على نعمه، وتوسيعك القول فيما أولاك من إحسانه وكرمه، فإنّ مواهب الله تعالى ومننه التي جعل تواليها اختبار شكر العبد وامتحانه على أنه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور عليم، وهو القائل فيمن أثنى عليهم: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
«1» لا يزال مضاعفها ومرادفها، ومتبعا سالفها آنفها، وهو يوليها كلّا من عبيده بقدر منزلته عنده، ويخصّ أصفياءه بأوفى مما تمنّاه الآمل المبالغ وودّه. والله تبارك وتعالى يمنح أمير المؤمنين، وآباءه الأئمة الراشدين، ما غدت مستقدمات الحمد والشكر عند لوازمه مستأخرة، إذ كان أفردهم دون الخليقة بأن أعطاهم الدنيا ثم أعطاهم معها الآخرة، واختصّهم من حبائه «2» بما لا يحصيه عدد، وخوّلهم من آلائه بما لا يقوم بشكره أحد.
وأما ما ذكرته من افتتاحك الجزيرة المعروفة بجربة «1» لما شرحته من عدوان أهلها، وعدولهم عن طرق الخيرات وسبلها، واجترائهم في الطّغيان على أسباب لا يجوز التغافل عن مثلها، واستعمالهم الظّلم تمرّدا، وتماديهم في الغيّ تباهيا في الباطل وغلوّا، يأسا من الجزاء لمّا استبطأوه، فإنّ من كانت هذه حالته حقيق أن تكون الرحمة عنه نائية، وخليق أن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية، كما أنه من كان من أهل السلامة، وسالكا سبيل الاستقامة؛ ومقبلا على صلاح شانه، وغير متعدّ للواجب في سرّه وإعلانه؛ تعيّن أن نوفّر من الرعاية سهمه، ونجزل من العناية نصيبه وقسمه، ويؤمّن مما يقلقه ويزعجه، ويقصد بما يسرّه ويبهجه، ويصان عن أن يناله مكروه، ويحمى من أذى يلمّ به ويعروه.
وأما شكرك لوزيرك الأمير تأييد الدولة وعضدها عزّ الملك وفخره نظام الرّياسة، أمير الأمراء، فإنّ من تهذّب بتهذيبك، وتخلّق بأخلاقك وتأدّب بتأديبك، لا ينكر منه إصابة المرامي، ولا يستغرب عنده نجح المساعي.
وواجب عليه أن لا يجعل قلبه إلا مثوى للنصائح، وأن لا يزال عمره بين غاد في المخالصة ورائح.
وأما المركب العروس ووصول كتاب وكيله ذاكرا ما اعتمده مقدّم أسطولك من صونه وحمايته، وحفظه ورعايته، وإعادة ما كان أخذ منه قبل المعرفة بأنه جار في الديوان الخاص الحافظي، ففعل يجمل عنك صدره، ويليق بك أن ينسب إليك ذكره وخبره، ويدلّ على علم أصحابك برأيك وإحكام معاقدة المودّة، ويعرب عن إيثارك إبرازها كلّما تقادم عهدها في ملابس بهجة مستجدّة، وهذا الفعل من خلائقك الرضية غير مستبدع، وقد ذخرت منه عند أمير المؤمنين ما حصل في أعز مقرّ وأكرم مستودع. لا جرم «2» أن أوامره خرجت إلى مقدّمي
أساطيله المظفّرة بما يجنيك ثمرة ما غرسته، ويعلي منار ثنائك الذي قرّرته على أقوى أصل وأسّسته، وقد نفذت مراسيمه بإجرائك على غلاتك المستمرّة في المسامحة بما وجب للديوان عما وصل برسمك على مراكبك، وبرسم الأمير تأييد الدولة وزيرك، والرسولين الواردين عن حق الورود إلى ثغر الإسكندرية حماه الله تعالى، ثم إلى مصر حرسها الله وحقّ الصدور عنهما، وكلّ ما يصل من جهتك فعلى هذه القضية.
وأما شكرك على الأسرى الذين أمر أمير المؤمنين بإطلاقهم إجابة لرغبتك، ورسم بتسييرهم إليك محافظة على مرادك وبغيتك، فأوزعنا شعارهم أنهم عتقاء شفاعتك، وأرقّاء منّتك، فذلك من الدلائل على ما ينطوي عليه من جميل الرأي وكريم النّية، ومن الشواهد بأنه يوجب لك ما لا يوجبه لأحد من ملوك النّصرانية،.
وأما سؤالك الآن في إطلاق من تجدّد أسره، وإنهاؤك أنّ ذلك مما يهمّك أمره، فقد شفّعك أمير المؤمنين بالإجابة إليك على ما ألف من كريم شيمته، وسيّر إليك مع رسولك من تضمّن الثبت ذكر عدّته، وقد علمت ما كان من أمر بهرام ووصوله إلى الدولة الفاطمية خلّد الله ملكها شريدا طريدا، قد نبت به أوطانه، وقذفته دياره، لا مال له ولا حال، ولا عشيرة ولا رجال، فقبلته أحسن قبول، وبلغت به في الإحسان ما يزيد على السّول، وغمرته من الإنعام ما يقصر عن اقتراحه كلّ أمل، وجعلته فواضلها يقلّب الطّرف بين الخيل والخول. وكانت أموره كلّ يوم في نموّ وزيادة، وأحواله توفي على البغية والإرادة، إلى أن جرت نوبة اقتضى التدبير في وقتها أن عدقت به الوزارة، ونيطت به السّفارة، فوسوس له خاطره ما زخرفه البطر وزيّنه، وصوّره الشيطان وحسّنه، وأظهر ما ظهرت أماراته، ووضحت أدلّته وعلاماته، فاستدعى قبيله وأسرته، وجنسه وعشيرته، بمكاتبات منه سرّيّة، وخطوط عثر عليها بالأرمنية، فكانوا يصلون أوّل أوّل، إلى أن اجتمع منهم عشرون ألف رجل من فارس وراجل، ومن جملتهم ابنا أخيه
وغيرهما من أهله، فدلّوه بالغرور، وحملوه على ما قضى بالاستيحاش منه والنّفور، وقوّوا عزمه فيما يؤدّي إلى اضطراب الأحوال واختلال الأمور، فامتعض العساكر المنصورة مما أساء به سياستهم، وأبوا الصبر على ما غيّر به رسمهم وعادتهم. فلما رأى أمير المؤمنين ذلك استعظم الحال فيه، وتيقّن أن التغافل عنه يقتضي بما يعسر استدراكه وتلافيه، فكاتب وليّه وصفيّه الذي ربّي في حجر الخلافة، وسما به استحقاقه إلى أعلى درج الإنافة، وحصلت له الرياسة باكتسابه وانتسابه، وغدا النظر في أمور المملكة لا يصلح لغيره ولا يليق إلا به، السيد الأجلّ الأفضل، وهو يومئذ والي الأعمال الغربية. وصدرت كتب أمير المؤمنين تشعره بهذا الأمر الصّعب، وتستكشف به ما عرا الدولة من هذا الخطب، فأجاب دعاءه، ولبّى نداءه، وقام قيام مثله ممن أجزل الله حظّه من الإيمان، وجعله جلّ وعز حسنة هذا الزمان، واختصّه بعناية قويّة، وأمدّه بموادّ علويّة، وأيّده بإعانة سماويّة، تخرج عن الاستطاعة البشريّة. فجمع الناس وقام خطيبا فيهم، وباعثا لهم على ما يزلفهم عند الله ويحظيهم؛ وموضّحا لهم ما يخشى على الدولة من الأمر المنكر، فاجتمعوا إليه كاجتماعهم يوم المحشر، وغصّت النّجود والأغوار، وامتلأت السّهول والأوعار، وضاقت الأرض على سعتها بالخلائق، وارتفعت في توجّههم لطلب المذكور الأعذار والعوائق. ولم يبق فضاء إلّا وهو بهم شرق «1» ، ولا أحد إلا وهو منزعج بقصده وعلى تأخّر ذلك قلق. وكان بهرام وأصحابه بالإضافة إليهم كالشامة في اللّون البسيط، وكالقطرة في البحر المحيط، وساروا مع السيّد الأجلّ الأفضل نحوه مسارعين، وعلى الانقضاض عليهم متهافتين. فلما شعر بذلك لم يبق له قرار، ولاذ بالهرب والفرار، يهجر المناهل، ويطوي المراحل، ويرى الشّرود غنما، ويعدّ السّلامة حلما. واستقرّت وزارة أمير المؤمنين لهذا السيد الأجلّ الأفضل الذي لم تزل فيه راغبة، وله خاطبة، ونحو تولّيه إيّاها متطلّعة، وإلى نظره فيها مبادرة متسرّعة،
ولم تنفكّ لزينة دستها مستبطئة، وفي التلهّف على تأخّر ذلك معيدة مبدئة، فأحسن إلى الكافّة قولا وفعلا، وعمل في حقّ الدولة ما لم يجعل له في الوزراء شبها ولا في الملوك العظماء مثلا، وغدا للملّة الحنيفيّة حجّة وبرهانا، وأولى الأولياء إعزازا وتكريما والأعداء إذلالا وإهوانا. وصان الخلافة عن نفاذ حيلة، وتمام غيلة، ومخادعة ماكر، ومخاتلة غادر؛ فلذلك انتضاه أمير المؤمنين حساما باترا ماضي الغرار، واجتباه هماما في المصالح لا يطعم جفنه غير الغرار، واصطفاه خليلا وظهيرا لتساوي باطنه وظاهره في الصّفاء، واستخلصه لنفسه لمفاخره الجمّة التي ليس بها من خفاء. وانتظمت الأمور بكفالته في سلك الوفاق، وعمّت الخيرات بوزارته عموم الشمس بأنوارها جميع الآفاق، فسعدت بنظره الجدود، وتظاهرت ببركاته الميامن والسّعود. وأصبح غصن المعالي بيمنه مورقا، وعلى الملّة من يمن آرائه تمائم من مسّ الحوادث ورقى، فآثاره توفي على ضياء الصّباح، وعزماته تزري بمضاء المهندة الصّفاح، ومآثره تفوت شأو الثناء وغاية الامتداح. فالله تعالى يحفظ النعمة على الخلافة الحافظيّة، ويوزع شكره على سبوغها كافّة البريّة؛ بكرمه وفضله، ومنّه وطوله.
ولما أمعن بهرام في الهرب، وجدّت العساكر المنصورة وراءه في الطّلب، وضاقت عليه المسالك، وتيقّن أنه في كل وجهة يقصدها هالك، عاد لمكارم الدولة وعواطفها، وسأل أمانا على نفسه من متالفها، فشملته الرحمة، وكتب له الأمان فعاودته النّعمة، واختلط برجال العساكر المنصورة، وصار حظّه بعد أن كان مبخوسا من الحظوظ الموفورة.
وأما اعتذار الكاتب عما وجّه إليه بأنّ من الكلام ما إذا نقل من لغة إلى لغة أخرى اضطرب مبناه فاختلّ معناه، ولا سيما إن غرس فيه لفظ ليس في إحدى اللّغتين سواه، فقد أبان فيما نسب إليه السهو فيه عن وضوح سببه، وقد قبل عذره ولم تفكّ يده عن التمسّك به.
وأما ما سيّرته إلى خزائن أمير المؤمنين تحفة وهديّة، وأبنت به عن همّة
بدواعي المجد مليّة، فإنه وصل وتسلّم كلّ صنف منه متولّي الخزائن المختصة به بعد عرضه على الثّبت المعطوف كتابك عليه وموافقته، وقد أجري رسولك في إكرامه وملاحظته على أفضل ما يعتمد مع مثله بمنزلة من ورد من جهته، وعلى قدر من وصل برسالته. وقد سيّر أمير المؤمنين من أمراء دولته، ووجوه المقدّمين بحضرته، الأمير المؤتمن، المنصور، المنتخب، مجد الخلافة، تاج المعالي، فخر الملك، موالي الدولة وشجاعها، ذا النّجابتين، خالصة أمير المؤمنين، أبا منصور جعفرا الحافظيّ رسولا بهذه الإجابة؛ لما هو معروف من سداده، وموصوب من مستوفق قصده ومستصوب اعتماده، وألقي إليه ما يذكره ويشرحه، وعوّل عليه فيما يشافه به ويوضّحه، وأصحبه من سجاياه وألطافه، ما تضمّنه الثبت الواصل على يده، إبانة لمحلّك عنده، وموقفك منه، ومكانك لديه. وأمير المؤمنين متطلّع إلى ورود كتبك متضمنة من سارّ أنبائك وطيب أخبارك ما يسكن إلى معرفته ويثق بعلم حقيقته. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.