الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه الأقدار، وما أفضى إليه من كثير المناجح وقليل الأعذار، فإنّ أدب الأمالي عن المطالعة كالصوم لا يفضّ ختامه ولا يحلّ نظامه، إلا بعيد يطلع هلاله مبشّرا، ويبثّ خبره في الآفاق معطّرا، فلو أن متكلّفا أفطر قبل موعده، وورد الماء قبل مورده، لكان مفسدا لعقده، ناكثا لعهده.
كذلك المملوك أمسك حين كانت الأخبار بجانبه مشتبهة، والحقائق لديه غير متوجّهة، فإنّ طاغيتي الكفر بقسطنطينية وصقلّية كانا قد أوقدا للحرب نارا، ورفعا لها أوزارا «1» ، واتخذا لها أسطولا جاريا وعسكرا جرّارا، وتباريا ولم يزد الله الظالمين إلّا تبارا، وكتبا إلى الفرنج بعد انهزامهم بالنّجدة والنّصرة، وتضمّنا لهم الخروج والكرّة، ويصفان ما استعدّا به بما لا يعبّر عنه إلا بالكثرة، واستطارت الشّناعة وتداولتها الألسن، وخرجت من الأفواه حتّى لقد كادت تدخل فيما رأته الأعين، وورد إلى المملوك رسول من طاغية القسطنطينيّة وهو أقدم ملوك النصرانية قدما، وأكثرهم ما لا منتمى، فعرض عليه موادعة يكون بها عسكره مودعا، ويكون له بها مفزعا، له ولصاحب صقلّيّة، الذي زعم أنه أصل للشرّ يكون الشرّ منه مفرّعا، فلم يكن ولم يجب إلى السّلم، ولم يزعه أن عسكره خذله الله مبار في البرّ وفي اليمّ، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب السادس (أن تفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد لله)
وذلك يختصّ بالفتوح وغيرها مما حدث فيه نعمة، وربما بدئت بآية من كتاب الله، كما كتب العماد الأصفهانيّ «2» عن السلطان «صلاح الدين
يوسف بن أيوب» إلى الناصر لدين الله ببغداد بفتح القدس «1» :
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «2» .
الحمد لله على ما أنجز من هذا الوعد، على نصرته لهذا الدّين الحنيف من قبل ومن بعد، وعلى أن أجرى هذا الحسنة التي ما اشتمل على شبهها كرام الصّحائف، ولم يجادل عن مثلها في المواقف، في الأيام الإمامية الناصرية زادها الله غررا وأوضاحا، ووالى البشائر فيها بالفتوح غدوّا ورواحا، ومكّن سيوفها في كلّ مازق، من كل كافر ومارق، ولا أخلاها من سيرة سريّة تجمع بين مصلحة مخلوق وطاعة خالق، وأطال أيدي أوليائها لتحمي بالحقيقة حمى الحقائق، وأنجزها الحقّ وقذف به على الباطل الزاهق، وملّكها هوادي المغارب ومرامي المشارق، ولا زالت آراؤها في الظّلمات مصابح، وسيوفها للبلاد مفاتح، وأطراف أسنّتها لدماء الأعداء نوازح.
والحمد لله الذي نصر سلطان الديوان العزيز وأيّده، وأظفر جنده الغالب وأنجده، وجلا به جلابيب الظلماء وجدّد جدده، وجعل بعد عسر يسرا، وقد أحدث الله بعد ذلك أمرا، وهوّن الأمر الذي ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، وخوطب الدين بقوله: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى «3»
: فالأولى في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة، والأخرى هذه التي عتق فيها من رقّ الكآبة، فهو قد أصبح حرّا فالزمان كهيئته استدار، والحقّ بمهجته قد استنار، والكفر قد ردّ ما كان
عنده من المستعار، وغسل ثوب الليل بما فجّر الفجر من أنهار النّهار، وأتى الله بنيان الكفر من القواعد، وشفى غليل صدور المؤمنين برقراق ماء الموردات البوارد.
أنزل ملائكة لم تظهر للعيون اللاحظة، ولم تخف عن القلوب الحافظة، عزّت سيما الإسلام بمسوّمها، وترادف نصره بمردفها، وأخذت القرى وهي ظالمة فترى مترفيها كأن لم تؤو فيها، فكم أقدم بها حيزوم، وركض فاتّبعه سحاب عجاج مركوم، وضرب فإذا ضربه كتاب جراح مرقوم، وإلا فإنّ الحروب إنما عقدت سجالا، وإنما جمعت رجالا، وإنما دعت خفافا وثقالا، فإمّا سيوف تقاتل سيوفا، أو زحوف تقاتل زحوفا، فيكون حدّ الحديد بيد مذكّرا وبيد مؤنّثّا، ويكون السيف في اليد الموحّدة يغني بالضربة الموحّدة وفي اليد المثلّثة لا يغني بالضّرب مثلّثا، وذلك أنه في فئتين التقتا، وعدوّتين لغير مودّة اعتنقتا. وإن هذه النّصرة إن زويت عن ملائكة الله جحدت كراماتهم، وإن زويت عن البشر فقد عرفت قبلها مقاماتهم، فما كان سيف يتيقّظ من جفنه قبل أن ينبّهه الصّريخ، ولا كان ضرب يطير الهام قبل ضرب يراه الناظر ويسمعه المصيخ، فكم قرية كأنّها هجرة الموت وبها التاريخ، وكم طعنة تخّر لها هضاب الحديد ولها شماريخ.
والحمد لله الذي أعاد الإسلام جديدا ثوبه، بعد أن كان جديدا «1» حبله، مبيضّا نصره، مخضرّا نصله، متّسعا فضله، مجتمعا شمله. والخادم يشرح من نبإ هذا الفتح العظيم، والنصر الكريم ما يشرح صدور المؤمنين، ويمنح الحبور لكافّة المسلمين، ويكرّر البشرى بما أنعم الله به- من يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس منسلخه- وتلك سبع ليال وثمانية أيّام حسوما سخّرها الله على الكفّار فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «2»
ورايتها إلى الإسلام ضاحكة كما كانت من الكفر باكية، فيوم
الخميس الأوّل فتحت طبريّة وفاض ريّ النصر من بحيرتها، وقضت على جسرها الفرنج فقضت نحبها بحيرتها. وفي يوم الجمعة والسبت كسر الفرنج الكسرة التي مالهم بعدها قائمة، وأخذ الله أعداءه بأيدي أوليائه أخذ القرى وهي ظالمة. وفي يوم الخميس منسلخ الشهر فتحت عكّا بالأمان، ورفعت بها أعلام الإيمان؛ وهي أمّ البلاد، وأخت إرم ذات العماد، وقد أصبحت كأن لم تغن بالكفر وكأن لم تفتقر من الإسلام.
وقد أصدر هذه المطالعة وصليب الصّلبوت مأسور، وقلب ملك الكفر الأسير جيشه المكسور مكسور، والحديد الكافر الذي كان في الكفر يضرب وجه الإسلام، قد صار حديدا مسلما يفرّق خطوات الكفر عن الأقدام، وأنصار الصليب وكباره، وكلّ من المعمودية عمدته والدّير داره، قد أحاطت به يد القبضة، وأخذ رهنا فلا تقبل فيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، وطبريّة قد رفعت أعلام الإسلام عليها، ونكصت من عكّا ملّة الكفر على عقبيها، وعمّرت إلى أن شهدت يوم الإسلام وهو خير يوميها؛ بل ليس من أيام الكفر يوم فيه خير، وقد غسل عن بلاد الإسلام بدماء الشّرك ما كان يتخلّلها فلا ضرر ولاضير، وقد صارت البيع «1» مساجدهم بها من آمن بالله واليوم الآخر، وصارت المناحر مواقف لخطباء المنابر، واهتزت أرضها لوقوف المسلمين فيها وطالما ارتجّت لمواقف الكافر، والبأس الإماميّ الناصريّ قد أمضى مشكاته «2» على يد الخادم حتّى بالدّنيّ في الكنائس، وإنّ عزّ أوّل الإسلام بحطّ تاج فارس، فكم حطّت سيوفه في هذا اليوم من تاج فارس! فأما القتلى والأسارى «3» فإنها تزيد على ثلاثين ألفا.
وأما فرسان الديوية والاستبارية فقد أمضى الله حكمه فيهم وقطع بهم
سيوف نار الجحيم، ووصّل الراحل منهم إلى الشقاء المقيم، وفتك بافرنس كافر الكفّار، ومشيّد النار، من يده في الإسلام كما كانت يد الكليم، وافترّت النّصرة عن ثغر عكّا بحمد الله الذي يسّر فتحها، وتسلّمتها الملّة الإسلامية بالأمان وعرفت في هذه الصّفقة ربحها.
وأما طبريّة فافترتها يد الحرب فأنهرت الحرب جرحها.
فالحمد لله حمدا لا تضرب عليه الحدود، ولا تزكّى بأزكى منه العقود، وكأنه بالبيت المقدّس وقد دنا الأقصى من أقصاه، وبلّغ الله فيه الأمل الذي علم أن يحصيه وأحاط بأجلّه وأقصاه، لكلّ أجل كتاب، وأجل العدّو هذه الكتائب الجامعة، ولكلّ عمل ثواب، وثواب من هدى لطاعته جنات نعيمه الواسعة، والله المشكور على ما وهب، والمسؤول في إدامة ما استيقظ من جدّ الإسلام وهبّ.
وقد توجه من جانبه الأمير رشيد الدين دام تأييده في إهداء هذه البشرى نيابة عن الخادم، ووصف ما يسّره الله لأوليائه من العزائم. والبلاد والمعاقل التي فتحت هي: طبريّة، عكّا، الناصرة، صفّوريّة، قيساريّة، نابلس، حيفا، معليا، القزلة، الطّور، الشّقيف، وقلاع بين هذه كثيرة. والولد المظفّر تقيّ الدين بصور وحصن تبنين. والأخ العادل سيف الدين نصره الله قد أوفت (؟) بالوصول من عنده من عنده من العساكر فينزل في طريقه على غزّة وعسقلان، ويجهّز مراكب الأسطول المنصور ويكثر عددها، ويسير بها إلى ثغر عكّا المحروس ويشحنها بالرجال ويوفّر سلاحها وعددها، والنهوض إلى القدس فهذا أوان فتحه ولقد دام عليه ليل الضّلال، وقد آن أن يستقرّ فيه الهدى مشكور الإحسان، إن شاء الله تعالى.