الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والضمير في كان يصلح لهما معا، فلا بدّ هنا من ذكر المملوك، إن كان الالتباس من جهة الكاتب، أو مولانا إن كانت الإشارة إلى السلطان.
الأصل العاشر (أن يراعي مواقع آيات القرآن والسّجع في الكتب، وذكر أبيات الشعر في المكاتبات)
أما آيات القرآن الكريم، فقد ذكر ابن شيث في «معالم الكتابة» أنها في صدر الكتب، قد يذكرها الأدنى للأعلى في معنى ما يكتب به، مثل قوله تعالى:
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً «1»
وقوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ «2»
إلى غير ذلك من الآيات المناسبة للوقائع وإن كانت في أثناء الكتب، فقد استشهد بها جماعة من الكتّاب في خلال كتبهم مما رأيته.
وأما السجع، فقد ذكر ابن شيث: أنه لا يفرق فيه بين كتاب الأعلى للأدنى وبالعكس، وأنه بما يكتب عن السلطان أليق؛ لكن قد ذكر بعض المتأخّرين أن الكتابة بالسّجع نقص في حق المكتوب إليه، وقضيّته أنه لا يكتب به إلا من الأعلى للأدنى، إلا أن الذي جرى عليه مصطلح كتّاب الزمان تخصيصه ببعض الكتب دون بعض من الجانبين.
وأما الشعر فيورده حيث يحسن إيراده، ويمنعه حيث يحسن منعه، فليس كلّ مكاتبة يحسن فيها إيراد الشعر، بل يختلف الحال في ذلك بحسب المكتوب
عنه والمكتوب إليه. فأما المكاتبات الصادرة عن الملوك والصادرة إليهم، فقد ذكر في «موادّ البيان» أنه لا يتمثل فيها بشيء من الشعر، إجلالا لهم عن شوب العبارة عن عزائم أوامرهم ونواهيهم والأخبار المرفوعة إليهم، بما يخالف نمطها ووضعها، ولأن الشعر صناعة مغايرة لصناعة الترسّل، وإدخال بعض صنائع الكلام في بعض غير مستحسن.
قلت: الذي ذكره عبد الرحيم بن شيث في كتابه «معالم الكتابة ومواضع الإصابة» أنه [يتمثّل] بالشعر في المكاتبات الصادرة عن الملوك دون غيرهم، وهو معارض لما ذكره في «موادّ البيان» . وكأنه في موادّ البيان يريد الكتب النافذة عن الملوك إلى من دونهم، أو ممّن دونهم إليهم. أما الملوك والخلفاء إذا كتبوا إلى من ضاهاهم في أبّهة الملك وقاربهم في علوّ الرتبة، فإنه لا يمنع التمثّل بأبيات الشعر فيها، تطريزا للنثر بالنّظم، وجمعا بين جنسي الكلام اللذين هما خلاصة مقاصده. وما زالت الخلفاء والملوك السالفة يخلّلون كتبهم الصادرة عنهم إلى نظرائهم في علوّ الرتبة بالأبيات الرقيقة الألفاظ، البديعة المعاني، للاستشهاد على الوقائع المكتوب بسببها، كما كتب أمير المؤمنين «عثمان بن عفّان» رضي الله عنه حين تمالأ عليه القوم واجتمعوا على قتله إلى عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه:(طويل)
فإن كنت مأكولا، فكن خير آكل
…
وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق
«1» ! وكما كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه! إلى معاوية بن أبي سفيان، في جواب كتاب له حين جرى بينهما التنازع في الخلافة، فقال في أثناء كتابه: وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت؛ فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك:(طويل)
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وعلى ذلك جرى كثير من خلفاء الدولتين الأموية والعبّاسية، كما حكى العسكريّ في «الأوائل» أن أهل حمص وثبوا بعاملها فأخرجوه، ثم وثبوا بعده بعامل آخر، فأمر المتوكّل إبراهيم بن «1» العباس أن يكتب إليهم كتابا يحذّرهم فيه ويختصر، فكتب.
أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين يرى من حقّ الله تعالى عليه فيما قوّم «2» به من أود أو عدّل به من زيغ، أو لمّ به من شعث، ثلاثا يقدّم بعضهن أمام بعض، فأولاهن ما يستظهر به من عظة وحجّة، ثم ما يشفعه به من تحذير وتنبيه، ثم التي لا ينفع حسم الداء غيرها:(طويل)
أناة فإن لم تغن عقّب بعدها
…
وعيد، فإن لم يجد؛ أجدت عزائمه!
وممن كان يكثر التمثّل بالشعر في المكاتبات من خلفاء بني العباس وتصدر إليه المكاتبات كذلك «الناصر لدين الله» حتّى يحكى أن الملك الأفضل، عليّ ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب دمشق حين تعصّب عليه أخوه الملك العزيز عثمان وعمّه الملك العادل أبو بكر، كتب إلى الناصر لدين الله يستجيشه عليهما كتابا يشير فيه إلى ما تعتقده الشّيعة من أنّ الحقّ في الخلافة كان لعليّ، وأن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما، تقدّما عليه، إذ كان الناصر يميل إلى التشيّع، وكتب فيه:(بسيط)
مولاي، إنّ أبا بكر وصاحبه
…
عثمان قد غصبا بالسّيف حقّ علي!
فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقي
…
من الأواخر ما لاقى من الأول!
فكتب إليه الناصر الجواب عن ذلك، وكتب فيه:(كامل)
وافى كتابك يا ابن يوسف ناطقا
…
بالحقّ يخبر أنّ أصلك طاهر!
غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن
…
بعد النّبيّ له بيثرب ناصر!
فاصبر فإنّ على الإله حسابهم
…
وابشر فناصرك الإمام الناصر!
وعلى ذلك جرى الملوك القائمون على خلفاء بني العباس في مكاتباتهم أيضا. كما كتب أبو إسحاق الصابي عن معزّ الدولة بن بويه، إلى عدّة الدولة أبي تغلب كتابا يذكر له فيه خلاف قريبين له، لم يمكنه مساعدة أحدهما على الآخر، واستشهد فيه بقول المتلمس «1» :(طويل)
وما كنت إلا مثل قاطع كفّه
…
بكفّ له أخرى فأصبح أجذما!
فلمّا استقاد الكفّ، بالكفّ، لم يجد
…
له دركا في أن تبينا فأحجما
«2» وعلى هذا النّهج جرى الحال في الدّولة الأيّوبية بالديار المصرية. كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين «يوسف بن أيّوب» إلى ديوان الخلافة ببغداد، عند قتل ابن رئيس الرّؤساء وزير الخليفة كتابا ليسلّي الخليفة عنه، وكان ممن أساء السيرة وأكثر الفتك، متمثّلا بالبيتين المقولين في أبي حفص الخلّال، وزير أبي العبّاس السّفّاح، وكان يعرف بوزير آل محمد:(كامل)
إنّ المكاره قد تسرّ، وربّما
…
كان السّرور بما كرهت جديرا!
إنّ الوزير وزير آل محمّد
…
أودى، فمن يشناك كان وزيرا
وكما كتب القاضي «محيي الدين بن عبد الظاهر» عن «المنصور قلاوون» إلى صاحب اليمن في جواب تعزية أرسلها إليه في ولده الملك الصالح، مع تعريضه في أمر له بأن الحروب مما يشغل عن المصائب في الأولاد، مستشهدا فيه بقوله:(وافر)
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
…
فأهون ما تمرّ به الوحول!
وكما كتب صاحبنا الشيخ علاء الدين البيري، رحمه الله، عن «الظاهر برقوق» صاحب الديار المصرية، جوابا لصاحب تونس من بلاد المغرب، واستشهد فيه لبلاغة الكتاب الوارد عنه بقوله:(خفيف)
وكلام كدمع صبّ «1» غريب
…
رقّ حتّى الهواء يكثف عنده!
راق لفظا، ورقّ معنى، فأضحى
…
كلّ سحر من البلاغة عبده!
وعلى ذلك جرت ملوك المغرب من بني مرين وغيرهم. كما كتب بعض كتّاب السلطان أبي «الحسن المرينيّ» عنه إلى السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» صاحب الديار المصرية كتابا يخبره في خلاله أنّ صاحب بجاية «2» خرج عن طاعته فغزاه، وأوقع به وبجيوشه ما قمعه، مستشهدا فيه بقوله:
(سريع)
إن عادت العقرب، عدنا لها
…
وكانت النّعل لها حاضره
إلى غير ذلك من المكاتبات الملوكية التي لا تحصى كثرة. بل ربما وقع التمثيل بالشّعر في المكاتبات عن الخلفاء والملوك إلى من دونهم وبالعكس.
كما حكى العسكريّ في «الأوائل» أن رافعا رفع كتابا إلى الرّشيد، وكتب في أسفله:(طويل)
إذا جئت عارا أو رضيت بذلّة،
…
فنفسي على نفسي من الكلب أهون!
فكتب إليه الرشيد كتابا وكتب في أسفله: (طويل)
ورفعك نفسا طالبا فوق قدرها
…
يسوق لك الحتف المعجّل والذّلّا
وبالجملة فمذاهب الناس في التمثّل بالشّعر في المكاتبات الملوكيّة مختلفة، ومقاصدهم متباينة بحسب الأغراض؛ ولذلك أورد الشيخ جمال الدين بن نباتة هذه المسألة في جملة أسؤولته، التي سأل عنها كتّاب الإنشاء بدمشق، مخاطبا بها الشيخ شهاب الدين محمودا الحلبيّ، وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء بها فقال: ومن كره الاستشهاد في مكاتبة الملوك بالأشعار؟ وكيف تركها على ما فيها من الآثار؟
أما المكاتبات الإخوانيات الواقعة بالتّهاني، والتّعازي، والتّزاور، والتّهادي، والمداعبة، وسائر أنواع الرّقاع في فنون المكاتبات، فقد قال في «موادّ البيان» : إنه يجوز أن تودع أبيات الشعر على سبيل التمثّل وعلى سبيل الاختراع، محتجّا بأن الصّدر الأوّل كانوا يستعملون ذلك في هذه المواضع. وهذا الذي ذكره لا خفاء فيه، وكتب الرسائل المدوّنة من كلام المتقدّمين والمتأخّرين من كتّاب المشرق والمغرب شاهدة بذلك، ناطقة باستعمال الشعر في المكاتبات، وأثنائها ونهاياتها، ما بين البيت والبيتين فأكثر، حتّى القصائد الطّوال. وأكثر ما يقع من ذلك البيت المفرد والبيتان فما حول ذلك. كما استشهد القاضي الفاضل في بعض مكاتباته في الشوق بقوله:(طويل)
ومن عجبي أنّي أحنّ إليهم،
…
وأسأل عنهم من أرى وهم معي!
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
…
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي!
وكما كتب أيضا لبعض إخوانه في جواب كتاب: (طويل)