الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سراج، وسلك على أقصد منهاج؛ ولم يزايل الرّشاد آراءه، وصاحب السّداد أنحاءه. والله، تقدّس اسمه، لا يزال يعرّفنا من سعادة الدعوة الزكية ما يصلح به أحوالنا، ويفسح به آمالنا، بمنّه.
ولما أتاح الله من السّلم ما أتاحه، وأزاح من المكروه ما أزاحه، لم أجد فيّ فسحة ولا غنى ولا سعة، من إطلاع أمير المؤمنين مولاي وسيدي من ذلك على الجليّة، وإعلامه بالصورة، فأنهضت إلى حضرته العالية ذا الوزارتين عبد الرحمن بن مطروح رسولي وعبدي وخاصّتي مملوكه لينهي إليه الحال على حقيقتها، ويوفّيها بكلّيتها، وأقرن به رسول الموفّق، متحملا مثل ما تحمّله رسولي، ومتقلّدا كالذي تقلّده، ولأمير المؤمنين مولاي وسيدي الفضل العميم في الإصغاء إليهما، والوعي عنهما، والسماع منهما جميع ما يوردانه ويوضّحانه، ويستوفيانه ويشرحانه، والتطوّل بالمراجعة فيه، بما يستوجبه ويقتضيه، واصلا لعزّ مننه وأياديه؛ إن شاء الله تعالى.
الطرف السابع (في المكاتبة الصادرة إلى خلفاء الموحّدين بالمغرب، القائم بقاياهم الآن بتونس وما معها من سائر بلاد أفريقيّة. وفيه ثلاثة أساليب)
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بالدعاء، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (أن تكون المكاتبة من ملك آخر)
والرسم فيه أن تفتتح بالدعاء المناسب للحال، ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بنون الجمع ويخاطب المكتوب إليه بأمير المؤمنين. كما كتب القاضي «1»
الفاضل عن السلطان «صلاح الدين يوسف بن أيوب» إلى المنصور يعقوب «1» بن يوسف بن عبد المؤمن، أحد خلفائهم في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، يستجيشه على الروم الفرنج القاصدين بلاد الشام والديار المصرية، وهو:
فتح الله بحضرة سيدنا أمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدّين، أبواب الميامن، وأسباب المحاسن، وأحلّه من كفايته في الحرم الآمن، وأنجزه من نصرة الحق ما الله له ضامن، وأصلح به كلّ رأي عليه الهوى رائن، ومكّن له في هذه البسيطة بسطه، وزاده بالعلم غبطه، حتّى يكون للأنبياء بالعلم وللأرض بالعزم وارثا، وحتّى يشيّد بحادث قديما من مجده الذي لا يزال بغضّ الحديث حادثا.
كان من أوائل عزمنا وفواتح رأينا عند ورودنا الديار المصرية مفاتحة دولة سيدنا، وأن نتيمّن بمكاتبتها، ونتزيّن بمخاطبتها، وننهض إليها أماثل الأصحاب، ونستسقي معرفتها استسقاء السّحاب، وننتجعها بالخواطر ونجعل الكتب رسلها، وأيدي الرسل سبلها، ونمسك طرفا من حبل الجهاد يكون بيد حضرة سيدنا العالية طرفه، ونمسح غرّة سبق وارثها ووارث نورها سلفه، ونتجاذب أعداء الله من الجانبين، لا سيما بعد أن نبنا عنه نيابتين في نوبتين؛ فالأولى تطهير الأرضين المصريّة واليمنيّة من ضلالة أغضت عيون الأيّام على قذاها، وأنامت عيون الأنام بائعة يقظتها بكراها، ونيابة ثانية في تطهير بيت المقدس ممن كان يعارض برجسه تقديسه، ويزعج ببناء ضلاله تأسيسه، وما كان إلا جنّة إسلام فخرج منها المسلمون خروج أبيهم آدم من الجنّة، وأعقبهم فيها
إبليس الكفر وما أجارته مما أعقبه اللّعنة، وما كانت لنا بذلك قوّة بل لله القوّة، ولا لنا على الخلق منّة بل لله المنّة.
ولما حطّت لدين الكفر تيجان، وحطّمت لذويه صلبان، وأخرس الناقوس الأذان، ونسخ الإنجيل القرآن، وفكّت الصخرة من أسرها، وخفّ ما كان على قلب الحجر الأسود بخفّة ما كان على ظهرها؛ وذلك أن يد الكفر غطّتها وغمرتها، فلله الحمد أن أحرمت الصخرة بذلك البنيان المحيط، وطهّرها ماطر من دم الكفر وما كان ليطهّرها البحر المحيط، فهنالك «1» غلب الشرك وانقلب صاغرا، واستجاش كافر من أهله كافرا، واستغضب أنفاره النافرة، واستصرخ نصرانيّته المتناصرة، وتظاهروا علينا وإنّ الله مولانا، وطاروا إلينا زرافات ووحدانا، فلم يبق طاغية من طواغيهم، ولا أثفيّة «2» من أثافيهم، إلا ألجم وأسرج، وأجلب وأرهج، وخرج وأخرج، وجاد بنفسه أو بولده، وبعدده وبعدده، وبذات صدره وبذات يده، وبكتائبه برّا، وبمراكبه بحرا، وبالأقوات للخيل والرّجال، والأسلحة والجنن لليمين والشّمال، وبالنقدين على اختلاف صنفيهما في الجمع، وائتلاف وصفيهما في النّفع، وأنهض أبطال الباطل، من فارس وراجل، ورامح ونابل، وحاف وناعل، ومواقف ومقاتل، كلّ خرج متطوّعا، وأهطع «3» مسرعا، وأتى متبرّعا، ودعا نفسه قبل أن يستدعى، وسعى إلى حتفها قبل أن يستسعى، حتّى ظننّا [أنّ] في البحر طريقا يبسا، وحتّى تيقّنّا أن ما وراء البحر قد خلا وعسا، وقلنا: كيف نترك، وقد علم أنه يدرك، وزادت هذه الحشود المتوافية، وتجافت عنها الهمم المتجافية، وكثرت إلى أن خرجت من سجن حصرها، ومستقرّ كفرها، وبقيّة ثغرها- وهو صور- فنازلت ثغر عكّا في أسطول ملك بحره، وجمع سلك برّه- فنهضنا إليه، ونزلنا عليهم وعليه،
فضرب معنا مصافّ قتّلت فيه فرسانه، وجدّلت شجعانه، وخذلت صلبانه، وساوى الضرب بين حاسر القوم ودارعهم، وبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فهنالك لاذوا بالخنادق يحفرونها، وإلى الستائر ينصبونها، وأخلدوا إلى الأرض متثاقلين، وحملوا أنفسهم على الموت متحاملين، وظاهروا بين الخنادق، وراوحوا بين المجانق «1» ، وكلما يجنّ القتل من عددهم مائة أوصلها البحر ممن يصل وراءه بألف، وكلّما قلّوا في أعيننا في زحف، قد كثروا فيما يليه من الزّحف، ولو أن دربة عساكرنا في البحر كدربتها في البر، لعجّل الله منهم الانتصاف واستقلّ واحدنا بالعشرة ومائتنا بالألف. وقد اشتهر خروج ملوك الكفّار في الجمع الجمّ، والعدد الدّهم، كأنّهم إلى نصب يوفضون، وعلى نار يعرضون، ووصولهم على جهة القسطنطينية- يسّر الله فتحها- على عزم الائتمام إلى الشام في منسلخ الشتاء ومستهلّ الصيف، والعساكر الإسلامية لهم تستقبل، وإلى حربهم تنتقل، فلا يؤمن على ثغور المسلمين أن يتطرّق العدوّ إليهم وإليها، ويفرغ لها ويتسلّط عليها، والله من ورائهم محيط. وإذا قسمت القوّة على تلقّي القادم وتوقّي المقيم، فربّما أضرّ بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها.
ولما مخض النظر زبده، وأعطى الرأي حقيقة ما عنده، لم نر لمكاثرة البحر إلا بحرا من أساطيله المنصورة فإنّ عددها واف، وشطرها كاف، ويمكنه- أدام الله تمكينه- أن يمدّ الشام منه بعدّ كثيف، وحدّ رهيف، ويعهد إلى واليه أن يقيم إلى أن يرتبع ويصيف، ويمكنه أن يكفّ شطرا لأسطول طاغية صقلّيّة ليحصّ جناح قلوعه أن تطير، ويعقل عباب بحره أن يغير، ويعتقله في جزيرته، ويجري إليه قبل جريرته، فيذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكر لا تردّ به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامة يطلع بها شمس النصر من مغربها، فإذا نفذ طريقه وعلم الناس بموفده، أوردوا وأصدروا في مورده، وشخص
المسلم والكافر: هذا ينتظر بشرى البدار، وهذا يستطلع لمن تكون عقبى الدار، وخاف وطأة من يصل من رجال الماء من وصل من رجال النار. ولو بزقت عليهم بازقة غربيّة لأغرقهم طوفانها، ولو طلعت عليهم جارية بحريّة لنعقت فيهم بالشّتات غربانها.
وما رأينا أهلا لهذه العزمة إلا حضرة سيدنا أدام الله صدق محبة الخير فيه، إذ كان «1» منحه عادة في الرضى به وقدرة على الإجابة، ورغبة في الإنابة، ولاية لأمر المسلمين، ورياسة للدّنيا والدين، وقياما لسلطان التوحيد القائم بالموحّدين، وغضبا لله ولدينه، وبذلا لمذخوره في الذبّ عنه دون ما عوده، والآن فقد خلا الإسلام بملائكته، لما خلا الكفر بشياطينه، وما أجّلت السوابق إلا لإطلاقها، ولا أثّلت الذخائر إلا لإنفاقها، وقد استشرف المسلمون طلوعها من جهته المحروسة جارا من الأساطيل تغشى البحار، وليالي من المراكب تركب من البحر النّهار، وإذا خفقت قلوعها خفقت للقلاع قلوب، وإذا تجافت جنوبها عن الموج تجافت من الملاعين جنوب، فهي بين ثغر كفر تعتقله وتحصره، وبين ثغر إسلام تفرّج عنه وتنصره، يكون بها مصائب عند المسلمين (؟) وتظل قلائد المشركين لغربان بحره طرائد، ويمضي سيف الله الذي لا يعدم في كل زمان فيعلم معه أنّ سيف الله خالد، أعزّ الله الإسلام بما يزيد حضرة سيدنا من عزّها، فيما مدّ عليها من ظلها، وبما يسكنه من حرزها، فيما يبسط على الأعداء بها من بأسها وينزل بهم من رجزها، وبما يجرّده من سيوفها التي تقطع في الكفر قبل سلّها وهزها.
وقد أوفدناه على باب حضرة سيدنا، وهو الداعي المسمع، والمبلّغ المقنع، والمجمع المستجمع، علمناه أمرا يسرا، وبوأناه الصدر فكان وجها، وأودعناه السّرّ فكان صدرا.