الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وترحالك، وكون الأفكار الشريفة موكّلة بكل ما حمى من الروائع قلبك، وأعذب شربك، وأنت حقيق بمعرفة هذه الحال من طويّته لك ونيته، ورأيه فيك وشفقته، ورعاية مصلحتك منه بعين كالية، ورجوعه من المحافظة في حقّك إلى ألفة بالصّفاء حالية، وتلقّي الرّزيّة التي أرادها الله وقضاها، وأنفذ مشيئته فيها وأمضاها بالصبر المأمور به والاحتساب، والتسليم الموعود عليه بجزيل الثّواب؛ علما أن الأقدار لا تغالب، وغريمها لا يطالب، وإن الله تعالى إذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر- إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
«1» فلا سبيل لأحد من خلقه إلى البقاء، ولا وجه للخلود في دار الفناء، ولا دافع لحكمه جلّت عظمته فيما قدّره من الآجال، وسبق في علمه من الرّوائع في دار الابتلاء والأوحال وما يزال التطّع واقعا إلى وصول جوابك الدالّ على السّلوة التي هي الأليق بك، والأدعى إلى حصول بغيتك من قضاء الله وأدبك؛ لتحطّ الأنسة مع وصوله في رحالها، وتؤذن لصرف الغموم الجارية لأجلك بارتحالها.
هذه مناجاة أمير المؤمنين لك، أدام الله تأييدك! وأمتع بك! إن شاء الله تعالى، والسّلام عليك ورحمة الله.
الأسلوب الثاني (أن يكون الافتتاح بلفظ «أما بعد» وهو على نوعين)
النوع الأوّل (أن يعقب البعدية «الحمد لله» ؛ وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (أن يتعدّد الحمد في أوّل الكتاب)
ويكون ذلك في الكتب المؤذنة بحصول نعمة ظاهرة كالفتوح ونحوها.
ويقع التعدّد فيها بحسب ما تقتضيه النعمة، وغالب ما يكون ثلاث مرات، وربما وقع التحميد في أوّل الكتاب وآخره.
وهذه نسخة كتاب من هذا النوع كتب بها عن المعتصم «1» إلى ملوك الآفاق من المسلمين عند قبض الأفشين على بابك «2» ملك الروم، وهي:
أما بعد، فالحمد لله الذي جعل العاقبة لدينه، والعصمة لأوليائه، والعزّ لمن نصره، والفلج لمن أطاعه، والحقّ لمن عرف حقّه، وجعل دائرة السّوء على من عصاه وصدف عنه، ورغب عن ربوبيته، وابتغى إلها غيره. لا إله إلا هو وحده لا شريك له. يحمده أمير المؤمنين حمد من لا يعبد غيره، ولا يتوكّل إلا عليه، ولا يفوّض أمره إلّا إليه؛ ولا يرجو الخير إلا من عنده، والمزيد إلا من سعة فضله، ولا يستعين في أحواله كلّها إلا به. ويسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله، وصفوته من عباده، الذي ارتضاه لنبوته، وابتعثه بوحيه واختصّه بكرامته، فأرسله بالحق شاهدا ومبشّرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. والحمد لله الذي توجّه لأمير المؤمنين بصنعه، فيسّر له أمره، وصدق له ظنّه، وأنجح له طلبته «3» ، وأنفذ له حيلته، وبلّغ له محبّته، وأدرك المسلمون بثأرهم على يده، وقتل عدوّهم، وأسكن روعتهم، ورحم فاقتهم، وآنس
وحشتهم، فأصبحوا آمنين مطمئنّين مقيمين في ديارهم، متمكّنين في أوطانهم، بعد القتل والخوف والتشريد وطول العناء، وتتابع البلاء، منّا من الله عز وجل على أمير المؤمنين بما خصّه به، وصنعا له فيما وفّقه لطلبه، وكرامة زادها فيما أجرى على يده. فالحمد لله كثيرا كما هو أهله، ونرغب إلى الله في تمام نعمه ودوام صنعه، وسعة ما عنده بمنّه ولطفه. ولا يعلم أمير المؤمنين- مع كثرة أعداء المسلمين وتكنّفهم إيّاه من أقطاره، والضغائن «1» التي في قلوبهم على أهله، وما يترصّدونه من العداوة، وينطوون عليه من المكايدة، إذ كان هو الظاهر عليهم، والآخذ منهم- عدوّا كان أعظم بليّة، ولا أجلّ خطبا، ولا أشدّ كلبا، ولا أبلغ مكايدة، ولا أرمى بمكروه، من هؤلاء الكفرة الذين يغزوهم المسلمون، فيستعلون عليهم، ويضعون أيديهم حيث شاءوا منهم، ولا يقبلون لهم صلحا، ولا يميلون معهم إلى موادعة، وإن كان لهم على طول الأيّام وتصرّف الحالات وبعض ما لا يزال يكون من فترات ولاة الثّغور أدنى دولة من دولات الظّفر وخلسة من خلس الحرب، كان بما لهم من خوف العاقبة في ذلك منغّصا لما تعجّلوا من سروره، وما يتوقعون من الدوائر بعد، مكدّرا لما وصل إليهم من فرحة.
فأما اللعين بابك وكفرته، فإنهم كانوا يغزون أكثر مما يغزون، وينالون أكثر مما ينال منهم، ومنهم المنحرفون عن الموادعة، المتوحّشون عن المراسلة، ومن أديلوا من تتابع الدول، ولم يخافوا عاقبة تدركهم، ولا دائرة تدور عليهم. وكان مما وطّأ ذلك ومكّنه لهم أنهم قوم ابتدؤا أمرهم على حال تشاغل السلطان، وتتابع من الفتن، واضطراب من الحبل، فاستقبلوا أمرهم بعزّة من أنفسهم، وضعف واستثارة ممّن باراهم، فأجلوا من حولهم لتخلص البلاد لهم، ثم أخربوا البلاد ليعزّ مطلبهم، وتشتدّ المؤونة «2» وتعظم الكلفة، ويقووا
في ذات أيديهم؛ فلم يتواف إليهم قوّاد السلطان إلا وقد توافت إليهم القوّة من كل جانب، فاستفحل أمرهم، وعظمت شوكتهم، واشتدّت ضروراتهم واستجمع لهم كيدهم، وكثر عددهم واعتدادهم، وتمكّنت الهيبة في صدور الناس منهم، وتحقّق في نفوسهم أن كلّ ما يعدهم الكافر ويمنّيهم أخذ باليد.
وكان الذي بقي عندهم منه كالذي مضى، وبدون هذا ما يختدع الأريب ويستنزل العاقل ويعتقل الفطن، فكيف بمن لا فكرة له، ولا رويّة عنده؟
هذا مع كل ما يقوم في قلوبهم من حسد أهل النّعم، ومنافستهم على ما في أيديهم، وتقطّعهم حسرات في إثر ما خصّوا به، وأنهم إن لا يكونوا يرون أنفسهم أحقّ بذلك، فإنهم يرون أنّهم فيه سواء.
ولم يزل أمير المؤمنين قبل أن تفضي إليه الخلافة مادّا عنقه، موجّها همته إلى أن يولّيه الله أمر هؤلاء الكفرة ويملّكه حربهم، ويجعله المقارع لهم عن دينه، والمناجز لهم عن حقّه، فلم يكن يألو في ذلك حرصا وطلبا واحتيالا، فكان أمير المؤمنين رضي الله عنه يأبى ذلك لضنّه به، وصيانته بقربه، مع الأمر الذي أعدّه الله له وآثره به؛ ورأى أنّ شيئا لا يفي بقوام الدين وصلاح الأمر.
فلما أفضى الله إلى أمير المؤمنين بخلافته وأطلق الأمر في يده، لم يكن شيء أحبّ إليه ولا آخذ بقلبه من المعاجلة للكافر وكفرته، فأعزه الله وأعانه الله، فلله الحمد على ذلك وتيسّره، فأعدّ من أمواله أخطرها، ومن قوّاد جيشه أعلمهم بالحرب وأنهضهم بالمعضلات، ومن أوليائه وأبناء دعوته ودعوة آبائه- صلوات الله عليهم- أحسنهم طاعة، وأشدّهم نكاية، وأكثرهم عدّة. ثم أتبع الأموال بالأموال، والرّجال بالرجال، من خاصّة مواليه وعدد غلمانه، وقبل ذلك ما اتكل عليه من صنع الله جلّ وعزّ، ووجه إليه من رعبته. فكيف رأى الكافر اللعين وأصحابه الملاعين؟ ألم يكذب الله ظنونهم، ويشف صدور أوليائه منهم؟
يقتلونهم كيف شاءوا في كل موطن ومعترك، ما دامت عند أنفسهم مقاومة.
فلما ذلّوا وقلّوا وكرهوا الموت، صاروا لا يتراءون إلا في رؤوس الجبال
ومضايق الطّرق وخلف الأودية ومن وراء الأنهار، وحيث لا تنالهم الخيل، حصنا للمطاولة وانتظارا للدوائر، فكادهم الله عند ذلك وهو خير الكائدين، واستدرجهم حتّى جمعهم إلى حصنهم معتصمين فيه عند أنفسهم، فجعلوا اعتصامهم لحين «1» لهم، وصنع لأوليائه وإحاطة منه به تبارك وتعالى، فجمعهم وحصرهم لكي لا تبقى منهم بقيّة ولا ترجى لهم عاقبة، ولا يكون الدين إلا لله، ولا العاقبة إلا لأوليائه، ولا التعس والنّكس «2» إلا لمن خذله.
فلما حصرهم الله وحبسهم عليهم ودانتهم مصارعهم، سلّطهم الله عليهم كيد واحدة، يختطفونهم بسيوفهم، وينتظمونهم برماحهم، فلا يجدون ملجأ ولا مهربا. ثم أمكنهم من أهاليهم وأولادهم ونسائهم وحرمهم وصيّروا الدار دارهم والمحلة محلّتهم، والأموال قسما بينهم، والأهل إماء «3» وعبيدا. وفوق ذلك كلّه ما فعل بهؤلاء وأعطاهم من الرحمة والثواب، وما أعدّ لأولئك من الخزي والعقاب، وصار الكافر بابك لا فيمن قتل فسلم من ذلّ الغلبة، ولا فيمن نجا فعاين في الحياة بعض العوض، ولا فيمن أصيب، فيشتغل بنفسه عن المصيبة بما سواه، لكنه سبحانه وتعالى أطلقه وسدّ مذاهبه، وتركه ملدّدا «4» بين الذّل والخوف، والغصّة والحسرة، حتّى إذا ذاق طعم ذلك كلّه وفهمه، وعرف موقع المصيبة، وظنّ مع ذلك كلّه أنه على طريق من النجاة، فأضرب الله وجهه، وأعمى بصره، وسدّ سبيله، وأخذ بسمعه وبصره، وحازه إلى من لا يرقّ له، ولا يرثي لمصرعه، فامتثل ما أمر به الأفشين (حيدر بن طاوس «5» )
مولى أمير المؤمنين في أمره، فبثّ له الحبائل، ووضع عليه الأرصاد، ونصب له الأشراك حتّى أظفره الله به أسيرا ذليلا موثقا في الحديد، يراه في تلك الحالة من كان يراه ربّا، ويرى الدائرة عليه من كان يظنّ أنها ستكون له. فالحمد لله الذي أعزّ دينه، وأظهر حجّته، ونصر أولياءه وأهلك أعداءه، حمدا يقضى به الحقّ، وتتمّ به النّعمة، وتتصل به الزيادة. والحمد لله الذي فتح على أمير المؤمنين وحقّق ظنّه، وأنجح سعيه، وحاز له أجر هذا الفتح وذخره وشرفه، وجعله خالصا لتمامه وكماله بأكمل الصنع وأحسن الكفاية، ولم ير بوسا فيه ما يقذي عينه، ولا خلا من سرور يراه، وبشارة تتجدّد له عنه، فما يدري أمير المؤمنين ما متّع فيه من الأمل، أو ما ختم له من الظفر. فالحمد لله أوّلا! والحمد لله آخرا! والحمد لله على عطاياه التي لا تحصى، ونعمه التي لا تنسى، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة كتاب من هذا الضرب، كتب به أبو سعيد العلاء «1» بن موصلايا عن القائم بالله، إلى عضد الدولة «ألب أرسلان» إلى مسعود بن محمود صاحب غزنة من أوائل بلاد الهند، بالبشارة بالنّصر على البساسيريّ «2» وهو:
أما بعد، فالحمد لله منير الحق ومبديه، ومبير الباطل ومرديه، الكافل بإعزاز حزبه، وإذلال حربه، المؤيّد في نصرة دينه خصب الدّهر بعد إمحاله وجدبه، الناظم شمل الشرع بعد شتاته وتفرّقه، الحاسم داعي الفساد بعد
استيلائه وتطرّقه، ذي المشيئة النافذة الماضية، والعزّة الكاملة الوافرة والعظمة الظاهرة البادية، والبراهين الرائعة الرائقة، والدلائل الشاهدة بواحدانيّته الناطقة، حمدا لا انتهاء لأمده، ولا إحصاء لعدده. والحمد لله الذي اختص محمدا صلى الله عليه وسلم، برسالته وحباه، وأولاه من كرامته ما حاز له به الفضل وحواه، وبعثه على حين فترة من الرّسل، وخلاء من واضح السّبل، فجاهد بمن أطاعه من عصاه، وبلغ في الإرشاد أقصى غايته ومداه، ولم يزل مبديا أعلام الإعجاز، وملحقا الهوادي «1» بالأعجاز، إلى أن دخل الناس في الدين أفواجا، وسلكوا في نصرته جددا «2» واضحا ومنهاجا؛ وغدت أنوار الشرع ضاحكة المباسم، وآثار الشّرك واهية الدعائم، ومناهل الهدى عذبة صافية. فصلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المنتخبين وخلفائه الأئمة الراشدين، وسلّم تسليما.
والحمد لله الذي أصار إلى أمير المؤمنين من تراث النبوّة ما استوجبه واستحقّه، وأنار لديه من مطالع الجلال ما تملك به الفخر واسترقّه، ومنحه من حسن التمكين والإظفار، وإجراء الأقضية على مراده والأقدار ما ردّ صرف الدهر عن حوزته مفلول الحدّ، ومدّ باع مجده إلى أقصى الغاية والحدّ، وحمى سرب «3» إمامته من دواعي الخوف والحذر، ووقى مشرب خلافته من عوادي الرّنق «4» والكدر، وجعل معالم العدل في أيامه مشرقة الأوضاح والحجول، مفترّة النواجذ «5» عن الكمال الضافي الأهداب والذّيول، مؤذنة باستقرار أمداد السعادة، واستمرار الأحوال على أفضل الرّسم والعادة، وهو يستديمه من لطيف الصّنع وجميله، ووافي الطّول وجزيله ما يزيد آراءه سدادا ورشادا، وأرومة عزّه
اتساعا وامتدادا، ومجاري الأمور لديه اتساقا على المراد واطّرادا، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكّل وإليه ينيب!.
ومعلوم ما اعتمده شاهنشاه المعظّم بعد مسيره إلى العراق، في الجيوش التي يضيق بها الفضاء، ويجري على مرادها القضاء، قاصدا تلبية الدعوة، وخاضدا «1» شوك كلّ من سدّ»
عن الدين أسباب المضرّة والمعرّة، ومعتمدا ما حمى حوزة أمير المؤمنين من الشوائب المعترضة، وحوى أقسام الفخار في اتباع شروط الخدمة الملتزمة المفترضة، من المبادرة للّكع «3» اللعين البساسيريّ ولفيفه المخاذيل، مدّرعا من الاعتضاد بالله تعالى أقوى الجنن «4» وأسبغ السّرابيل، ليطهّر الأرض من دنس كفرهم، ويوفّر الجدّ «5» في فصم حدّهم وحسم كيدهم، فأطلّ على بلاد الشام متطلبا من ألجأه حذره إلى الإمعان في الهرب، وقطع كلّ أخيّة وسبب، ومعتزما الائتمام إلى مصر لانتزاعها وبقية الأعمال، من أيدي أحلاف الغواية والضّلال، وقرّب الأمر فيما حاوله من ذلك ورامه اعتماده فيه صنوف التجدّد وأقسامه، فاعترضه من عصيان إبراهيم اينال وعقوقه، وخروجه عن زمرة أبناء الطاعة ومروقه، بإفساد اللّعين إيّاه، وإحالته بمكره عن مناهج هداه، ما أحوجه إلى ترك ما هو بصدده واللّحاق بأثره حذارا من استفحال خطبه، وبدارا إلى فلّ حدّه وغربه، فعاد ذلك بتجمّع الأعداء واحتشادهم، وسلوكهم المحجّة التي خصّوا فيها بعدم توفيقهم ورشادهم، وإقدامهم على فضل الإمامة المكرمة بالمحاربة، واطّراحهم في منابذتها حكم الاحتشام والمراقبة، ووقوع التظافر على المجاهرة بخلافها، والتظاهر بشعار أشياع الغواية وأحلافها، جرأة على الله تعالى واستنزالا لعقابه، واطّراحا لما توجبه الجناية العظمى من توقّع العذاب
وارتقابه، وادّراعا لملابس الخزي في الدنيا والآخرة، واتباعا لداعي الضّلالة المغوية في البدء والخاتمة، فاقتضى حكم الاستظهار الانتقال من دار الخلافة- بمدينة السّلام- إلى (حديثة عانة «1» ) لما هي عليه من امتناع الجانب وشدّة الحصانة، إلى أن أسفر خطب شاهنشاه ركن الدين- أمتع الله به- عن إدراك المطالب، وتيسّر المصاعب، فعاد بنصرة الدولة العباسيّة الإمامية القائميّة مستنفدا في ذلك أقسام الوسع والاجتهاد، ومستنجدا بمعونة الله تعالى على إبادة الكفر بصنوف القراع والجهاد. ولم يزل ساعيا في إزالة العار، وانتزاع المغتصب وارتجاع المستعار، إلى أن صدّق الله تعالى الأمل وحقّقه، وأصفى منهل العز من كل ما شابه ورنّقه، وأطلع شمس الحقّ بعد غروبها، ومنّ بخضد «2» شوكة الباطل وفلّ غروبها.
وعاد أمير المؤمنين إلى دار ملكه ومقرّ مجده في يوم كذا ضافية على راياته جلابيب النّصر والظّفر، جارية على إرادته تصاريف القضاء والقدر، بيمن نقيبة شاهنشاه الذي أدّى في الطاعة الفرض والواجب، وتمسّك من المشايعة بأفضل ما تضمّ عليه الرّواجب، وغدا للدولة عضدا موفيا على الأمثال، في دفعه عن الإسلام وذبّه، ومتقمّصا للجلال، بحسن إخلاصه في حالتي بعده وقربه. وما زالت ثقة أمير المؤمنين مستحكمة بالله تعالى عند ما ألمّ به من تلك الحال، ودهم من الخطب المحتفّ به سطوة الاشتداد والاستفحال، في إجرائه على ما ألفه من النّصر والإعزاز، وإظهار آلائه في تأييده والإعجاز؛ إذ لم يكن ما عرّاه
استعادة للحقّ المسلّم إليه، والموهبة التي ضفت جلابيبها عليه، بل جعل الله ذاك إلى امتحان صبره سبيلا، وعلى وفور أجره دليلا، وبإبادة كل ناعق في الفتنة كفيلا؛ لتزداد أنوار علاه نضارة وحسنا، وأعلام جلاله سعادة ويمنا، ورباع عزّه سكونا وأمنا، لطفا منه جلّت آلاؤه في ذلك ومنّا. وتلا هذه النعمة التي جدّدت عهود الشرع وافية النّضارة، وأزالت عن الدّين مفاسده العارضة ومصارّه، ما سهّله الله وهنّاه، وأجزل به صنيعه الجزيل وأسناه، من ظفر السّرايا التي تورّدها لاصطلام اللّعناء واجتياحهم، وحسم فسادهم وهدم عراصهم، وإخماد ما أضرموه من نار الشّرك وشبّوه، وإبطال ما أحدثوه من رسم الجور وسنّوه، وأفضى الحال إلى النّصر على الأعداء من كل جانب، وقهر كلّ منحرف عن الرشاد ومجانب، وحلول التأييد على الرايات المنصورة العباسيّة التي لم تزل مكنوفة على صرف الدهر أشياعها وأنصارها، وإجلاء الحرب عن قتل اللعين البساسيري وأخذ راسه، وتكذيب ظنّه في احرازه من طوارق الغير واحتراسه، وإراحة الأرض وأهلها من دنسه وعدوانه؛ وكون من ضامّه من طبقات العرب والأكراد والأتراك البغداديين والعوامّ بين قتيل مرمّل «1» بدمه، وأسير تلقّى المنون بغصة أسفه وندمه، وصريع في بقيّة من ذمائه «2» ، وهارب والطلب واقع من ورائه. فأنجز الله وعده في هذا المارق، والعبد الآبق «3» الذي غرّه إمهال الله تعالى إيّاه فنسي عواقب الإهمال في الغواية، والإمهال في الطّغيان إلى أقصى الحدّ والغاية، وحمل رأسه إلى الباب العزيز فتقدّم بالتّطواف به في جانبي مدينة «4» السّلام وشهره، إبانة عن حاله وإيضاحا لجليّة أمره، وكفي
ما يوجبه إقدامه على العظائم التي علم الله تعالى سوء مصيرها ومآلها، وحرم الرّشد في التمسّك والتشبّث بأذيالها، وتلك عاقبة من بغى واعتدى، وأتزر بالغدر وارتدى، وأمعن في الضّلّة واعتدى. والجدّ واقع من بعد في المسير للاحتواء على بلاد المخالفين الدانية والقاصية، والأخذ مع مشيئة الله تعالى بنواصي كل فئة طاغية عاصية.
فالحمد لله على المنحة التي بشّرت الإسلام بجبر كسره، وأنقذت الهدى من ضيق الكفر وأسره، وأبدت نجوم العدل بعد أن أفلت وغارت، وأردت شيعة الباطل بعد أن اعتدت على الحقّ وأغارت. وهو المسؤول صلتها بأمداد لها تقضي إذ ذاك سائر الأغراض وبلوغها، وتقضي بكمال رائق الآلاء وسبوغها.
اقتضى مكانك- أمتع الله بك- من رأي أمير المؤمنين الذي وطّأ لك معاقد العزّ وهضابه، وكمّل لديك دواعي الفخر وأسبابه، ونحلك من إيجابه الذي وصلت به إلى ذروة العلاء، وصلت على الأمثال والنّظراء، إشعارك بما جدّده الله تعالى من هذه النعمة التي غدت السّعود بها جمّة المناهل، سامية المراتب والمنازل، لتأخذ من حظّه بها، والشكر لله تعالى على ما تفضّل به فيها بالقسم الأوفى، كفاء ما يوجبه ولاءك الذي امتطيت به كاهل المجد، واصطفيت به كامل السعد، وكونك لدولة أمير المؤمنين شهابها المشرق في الحنادس «1» ، وصفيّها الرافل من إخلاص مشايعتها في أفخر الحلل والملابس، والله تعالى لا يخليك، من كل ما تستدرّ به أخلاف «2» معاليك، ولا يعدم أمير المؤمنين منك الوليّ الحميد السّيرة، الرشيد العقيدة والسّريرة، الشّديد الشاكلة والوتيرة.