الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«موادّ البيان» : وعلى هذا السبيل جرت سنّة الكتّاب في جميع الكتب كالفتوح، والتّهاني، والتّعازي، والتّهادي، والاستخبار، والاستبطاء، والإحماد، والإذمام، وغيرها؛ ليكون ذلك بساطا لما يريد القول فيه، وحجّة يستظهر بها السلطان؛ لأن كلّ كلام لا بدّ له من فرش يفرش قبله: ليكون منه بمنزلة الأساس من البنيان.
قال: ويرجع في هذه المقدّمات إلى معرفة الكاتب ما يستحقّه كلّ نوع من أنواع الكلام من المقدّمات التي تشاكلها. ثم قال: والطريق إلى إصابة المرمى في هذه المقدّمات أن تجعل مشتملة على ما بعدها من المقاصد والأغراض، وأن يوضع للأمر الخاصّ مقدّمة خاصّة، وللأمر العامّ مقدّمة عامّة، ولا يطوّل في موضع الاقتصار، ولا يقصّر في موضع الإيجاز، ولا يجعل أغراضها بعيدة المأخذ، معتاصة «1» على المتصفّح؛ وذلك أن الكاتب ربّما قصد إظهار القدرة على الكلام والتّصرّف في وجوه المنطق، فخرج إلى الإملال والإضجار الذي تتبرّم منه النّفوس، ولاسيما نفوس الملوك وذوي الأخطار الجليلة.
أما الأمور التي لا تشتمل على المقاصد الجليلة، كرقاع التّحف والهدايا ونحوهما. فقد ذكر في «موادّ البيان» أنه لا يجعل لها مقدّمة تكون أمامها، فإنّ ذلك غير جائز ولا واقع موقعه. قال: ألا ترى أنهم استحسنوا قول بعضهم في صدر رقعة مقترنة بتحفة في يوم مهرجان أو نحوه: «هذا يوم جرت فيه العادة، بأن تهدي فيه العبيد إلى السادة» واستظرفوا الكاتب لإيجازه وتقريب المأخذ.
الأصل الرابع (أن يعرف الفرق بين الألفاظ المستعملة في المكاتبات فيضعها في مواضعها)
قال في «ذخيرة الكتّاب» : يجب على الكاتب الرئيس أن يعرف مرتبة
الألفاظ ومواقعها؛ ليرتّبها ويفرق بينها فرقا يقفه على الواجب وينتهي به إلى الصواب، فيخاطب كلّا في مكاتبته بما يستحقّه من الخطاب؛ فإنه قبيح به أن يكون خطابه أوّلا خطاب الرئيس للمرؤوس، ويتبع ذلك بخطاب المرؤوس للرئيس، أو يبدأ بخطاب المرؤوس للرئيس ثم يتبعه بخطاب الرّئيس للمرؤوس.
قال: ومتى استمرّ الكاتب على هذه المخالفة من الألفاظ والمناقضة، نقصت المعاني، ورذلت الألفاظ، وسقطت المقاصد، وكان الكاتب قد أخلّ من الصّناعة بمعظمها، وترك من البلاغة غاية محكمها. بل يجب أن يبدأ بخطاب رئيس أو نظير أو مرؤوس، ويكون ما يتخلل مكاتبته من الألفاظ على اتساق إلى آخرها واطّراد من غير مخالفة بينها ولا مضادّة ولا مناقضة.
فمن ذلك الفرق بين أصدرنا هذه المكاتبة أو أصدرناها، وبين أصدرت، وبين صدرت. فأصدرناها أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه؛ للتصريح فيها بالضمير العائد على الرئيس التي صدرت المكاتبة عنه، إذ الشيء يشرف بشرف متعلّقه. ويلي ذلك في الرتبة أصدرت، لاقتضائها إصدارا في الجملة، والإصدار لا بدّ له من مصدر، وذلك المصدر هو الرئيس الصادرة عنه في الحقيقة. وإنما كانت دون الأولى للتصريح بالضمير هناك دون هنا. ودون ذلك في الرتبة صدرت لاقتضاء الحال صدورها بنفسها دون دلالة على المصدر أصلا.
ومن ذلك الفرق بين «ونبدي لعلمه» وبين «ونوضّح لعلمه» : فنبدي لعلمه أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه؛ لأن الإبداء يرجع في المعنى إلى إظهار شيء خفيّ، والإيضاح يرجع إلى بيان مشكل، وحصول الإشكال المحتاج إلى الإيضاح ربما دلّ على بعد فهم المخاطب عن المقصود، بخلاف إظهار الخفيّ فإنه لا ينتهي إلى هذا الحدّ.
ومن ذلك الفرق بين «علمه الكريم» وبين «علمه المبارك» فالكريم
أعلى من المبارك؛ لأن في الكريم عراقة أصل وشرف قد توجد في المبارك وقد تتخلف عنه.
ومن ذلك الفرق بين «ومرسومنا لفلان بكذا» وبين «والمرسوم له بكذا» ؛ فمرسومنا أعلى بالنسبة إلى المكتوب عنه لاشتماله على نون الجمع المقتضية للتعظيم، ولذلك اختصّت بالملوك دون غيرهم؛ بخلاف والمرسوم له بكذا فإنه عار عن ذلك.
ومن ذلك الفرق بين «والمسؤول» وبين «والمستمدّ» : فإن المسؤول أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه «1» ، فإن المسؤول يتضمّن نوع ذلّة بخلاف الاستمداد فإنه لا يستلزم ذلك.
ومن ذلك الفرق بين «بلغنا» وبين «أنهي إلى علمنا» وبين «اتصل بنا» . فاتصل بنا أعلى من أنهي إلى علمنا، لما في معنى الاتصال من التلاصق، بخلاف الإنهاء؛ وأنهي إلى علمنا أعلى من بلغنا؛ لأن البلوغ قد يكون على لسان آحاد الناس.
ومن ذلك الفرق بين «أنهى فلان كذا» وبين «عرّفنا كذا» : فعرّفنا أعلى بالنسبة إلى رافع الخبر، لأن في التعريف مزيّة قرب من الرئيس، بخلاف الإنهاء فإنه لا يقتضي ذلك.
ومن ذلك الفرق بين «وردت مكاتبته» وبين «وردت علينا مكاتبته» ؛ فوردت علينا أعلى بالنسبة إلى صاحب المكاتبة الواردة؛ لتخصيصها بالورود على الرئيس بخلاف الورود المطلق.
ومن ذلك الفرق بين «عرضت علينا مكاتبتك» وبين «وقفنا على مكاتبتك» فوقفنا أعلى بالنسبة إلى صاحب المكاتبة؛ لأن الوقوف عليها يكون بنفسه،
والعرض يكون من غيره.
ومن ذلك الفرق بين «وشكرت الله تعالى على سلامته» وبين «وتوالى شكري لله تعالى» ؛ فتوالى شكري أعلى بالنسبة إلى المكتوب إليه؛ لما فيه من معنى التكرار ومزيد الشكر المعدوق بالاحتفال.
ومن ذلك الفرق بين «ورغبت إلى الله تعالى» وبين «وضرعت إلى الله تعالى» ؛ فضرعت أعلى من رغبت؛ لما في الضّراعة من مزيد التأكيد في الطّلب، بخلاف الرّغبة فإنها لا تبلغ هذا المبلغ.
ومن ذلك الفرق بين «وقابلت أمره بالطاعة» وبين «وامتثلت أمره بالطاعة» ؛ فامتثلت أمره أعلى من قابلت أمره؛ لما في الامتثال من معنى الإذعان والانقياد، بخلاف المقابلة.
ومن ذلك الفرق بين «وشفعت له» وبين «وسألت فيه» ؛ فالسؤال أعلى في حق المسؤول من الشّفاعة؛ لما «1» في الشفاعة من رفعة المقام المؤدّي إلى قبول الشفاعة.
ومن ذلك الفرق بين «وخاطبت فلانا في أمره» وبين «وتحدّثت في أمره» ؛ فتحدّثت أشدّ في تواضع المتكلّم من خاطبت؛ لأن الخطاب من الألفاظ الخاصة التي لا يتعاطاها كلّ أحد بخلاف التحدّث.
ومن ذلك الفرق بين «تشريفي بكذا» وبين «إسعافي بكذا» [وبين «إتحافي بكذا» ]«2» فالإسعاف أعلى رتبة من التشريف لما فيه من دعوى الحاجة والفاقة إلى المطلوب، بخلاف التشريف، وإتحافي دون تشريفي؛ لأن