الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطرف الرابع (في الكتب الصادرة عن خلفاء بني العباس في الديار المصرية بعد مصير الخلافة إليها)
وهي على ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأوّل (أن يفتتح الكتاب بلفظ «من فلان إلى فلان» )
والحكم فيها على ما كان الأمر عليه في خلافتهم ببغداد، إلا أنه زاد فيه لفظ «ووليّه» بعد لفظ «عبد الله» في أوّل الكتاب فيقال في افتتاحه:«من عبد الله ووليّه أبي فلان فلان الإمام الفلاني» . ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويؤتى على آخر الخطبة، ثم يتخلص منها ويختم بالأمر بامتثال ما أمر به. ويقال بعد ذلك: موفّقا إن شاء الله تعالى. والخطاب فيه بالكاف، وربما افتتح الكتاب بآية من القرآن الكريم مناسبة للمعنى.
وهذه نسخة كتاب كتب به عن الإمام المستكفي بالله «أبي الربيع سليمان ابن الحاكم بأمر الله أحمد» إلى الملك المؤيّد هزبر الدين داود ابن الملك المظفّر صلاح الدين يوسف بن رسول في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون «1» » في سنة سبع وسبعمائة، حين منع صاحب اليمن الهديّة التي جرت العادة بإرسالها إلى الأبواب الشريفة بالديار المصرية، مفتتحا بآية من القرآن وهو:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
«2» .
من عبد الله ووليّه أبي الربيع سليمان:
أما بعد حمد الله مانح القلوب السليمة هداها، ومرشد العقول إلى أمر معادها ومبداها، وموفّق من اختاره إلى محجّة صواب لا يضلّ سالكها، ولا تظلم عند إخلاف الأمور العظام مسالكها، وملهم من اصطفاه لاقتفاء آثار السّنن النبويّة والعمل بموجبات القواعد الشرعية، والانتظام في سلك من طوّقته الخلافة عقودها وأفاضت على سدّته الجليلة برودها، وملّكته أقاصي البلاد وأناطت بأحكامه السديدة أمور العباد، وسارت تحت خوافق أعلامه أعلام الملوك الأكاسرة، وشيّدت بأحكامه مناجح الدّنيا ومصالح الآخرة، وتبختر كلّ منبر من ذكره في ثوب من السيادة معلم، وتهلّلت من ألقابه الشريفة أسارير كلّ دينار ودرهم.
يحمده أمير المؤمنين على أن جعل أمور الخلافة ببني العبّاس منوطة، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم القيامة محوطة، ويصلّي على ابن عمه محمد الذي أخمد الله بمبعثه ما ثار من الفتن، وأطفأ برسالته ما اضطرم من نار الإحن، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حموا حمى الخلافة وذادوا عن مواردها، وعمدوا إلى تمهيد المعالم الدينييّة فأقاموها على قواعدها، صلاة دائمة الغدوّ والرّواح، متصلا أوّلها بطرّة الليل وآخرها بجبين الصّباح.
هذا وإنّ الدين الذي فرض الله على الكافّة الانضمام إلى شعبه، وأطلع فيه شموس هداية تشرق من مشرقه ولا تغرب في غربه، جعل الله حكمه بأمرنا منوطا، وفي سلك أحكامنا مخروطا، وقلّدنا في أمر الخلافة المعظّمة سيفا طال نجاده، وكثر أعوانه وأنجاده، وفوّض إلينا أمر الممالك الإسلاميّة وإلى حرمنا تجبى ثمراتها، ويرفع إلى ديواننا العزيز نفيها وإثباتها، يخلف الأسد إن مضى في غابه شبله، ويلفى في الخبر والخبر مثله.
ولما أفاض الله علينا حلّة الخلافة، وجعل محلّنا الشريف محلّ الرحمة والرافة، وأقعدنا على سدّة خلافة أشرقت بالخلائف من آبائنا، وابتهجت بالسادة
الغطاريف من أسلافنا، وألبسنا خلعة هي من سواد السّؤدد مصبوغة، ومن سواد العيون وسويداوات القلوب مصوغة، وأمضينا على سدّتنا الشريفة أمر الخاصّ والعامّ، وقلّدنا كلّ إقليم من عملنا «1» من يصلح سياستها على الدّوام، واستكفينا بالكفاة من عمّالنا على أعمالنا، واتخذنا مصر دار مقامنا وبها سدّة مقامنا؛ لما كانت في هذا العصر قبّة الإسلام، وفيئة الإمام وثانية دار السّلام، تعيّن «2» علينا أن نتصفّح جرائد عمّالنا، ونتأمّل نظام أعمالنا، مكانا فمكانا، وزمانا فزمانا، فتصفّحناها فوجدنا قطر اليمن خاليا من ولايتنا في هذا الزمن. عرّفنا هذا الأمر من اتخذناه للممالك الإسلامية عينا وقلبا، وصدرا ولبّا، وفوّضنا إليه أمر الممالك الإسلامية فقام فيها مقاما أقعد الأضداد، وأحسن في ترتيب ممالكها نهاية الإصدار وغاية الإيراد، وهو السّلطان الأجلّ، السيد الملك الناصر المبجّل، لا زالت أسباب المصالح على يديه جارية، وسحابة الإحسان من أفق راحته سارية، فلم يعد جوابا لما ذكرناه، ولا عذرا عمّا أبديناه، إلا بتجهيز شرذمة من جحافله المشهورة، وتعيين أناس من فوارسه المذكورة، يقتحمون الأهوال، ولا يعبأون بتغيّرات الأحوال، يرون الموت مغنما إن صادفوه، وشبا المرهف مكسبا إن صافحوه، لا يشربون سوى المدام «3» مدامة، ولا يلبسون غير الترانك «4» عمامة، ولا يعرفون طربا إلا ما أصدره صليل الحسام من غنا، ولا ينزلون قفرا إلا ونبت ساعة نزولهم من قنا. ولما وثقنا منه بإنفاذهم راجعنا رأينا الشريف، فاقتضى أن يكاتب من بسط يده في ممالكها، واحتاط على جميع مسالكها، واتخذ أهلها خولا «5» ، وأبدى في خلال ديارها من عدم سياسته
خللا. برز مرسومنا الشريف النبويّ أن يكاتب من قعد على تخت مملكتها، وتصرّف في جميع أمور دولتها، وطولع بأنّه ولد السلطان الملك المظفر يوسف ابن عمر الذي له شبهة تمسّك بأذيال المواقف المستعصمية وهو مستصحب الحال على زعمه، أو ما علم الفرق بين الأحياء والأموات؟ أو ما تحقّق الحال التي بين النفي والإثبات؟، أصدرناها إلى الرّحاب التّعزّية، والمعالم اليمنية تشعر من تولّى عنها فاستبدّ، وتولى كبره فلم يعرّج على أحد، أن أمر اليمن ما برحت نوّابنا تحكم فيه بالآية الصحيحة، والتّفويضات التي هي غير جريحة، وما زالت تحمل إلى بيت المال المعمور وما تمشي به الجمال مشيا وئيدا، وتقذفه بطون الجواري إلى ظهور اليعملات «1» وليدا، ويطالعنا بأمر مصالحه ومفاسده، وبحال دياره ومعاهده. ولك أسوة بوالدك فلان، هلّا اقتفيت ما سنّه من آثاره، ونقلت ما دوّنته أيدي الزمن من أخباره؟
واتصل بمواقفنا الشريفة أمور صدرت منك.
منها- وهي العظمى التي ترتّب عليها ما ترتب- قطع الميرة «2» عن البيت الحرام، وقد علمت أنّه واد غير ذي زرع، ولا يحلّ لأحد أن يتطرّق إليه بمنع.
ومنها- انصبابك إلى تفريغ مال بيت المال في شراء لهو الحديث، ونقض العهود القديمة بما تبديه من حديث.
ومنها- تعطيل أجياد المنابر من عقود اسمنا، وخلوّ تلك الأماكن من أمور عقدنا وحلّنا. ولو أضحنا لك ما اتصل بنا من أمرك لطال، ولاتّسعت فيه دائرة المقال، رسمنا بها والسيف يودّ لو سبق القلم حدّه، والعلم المنصور يودّ لو فات العلم واهتزّ بتلك الرّوابي قدّه، والكتائب المنصورة تختار لو بدرت عنوان الكتاب، وأهل العزم والحزم يودّون إليك إعمال الرّكاب، والجواري المنشآت
قد تكوّنت من ليل ونهار، وبرزت كصور الأفيلة لكنّها على وجه الماء كالأطيار، وما عمدنا إلى مكاتبتك إلّا للإنذار، ولا احتجنا إلى مخاطبتك إلا للإعذار، فأقلع عمّا أنت بصدده من الخيلاء والإعجاب، وانتظم في سلك من استخلفناه فأخذه بيمينه ما أعطي من كتاب، وصن بالطاعة من زعمت أنهم مقيمون تحت لواء علمك، ومنتظمون في سلك أوامر كلمك، وداخلون تحت طاعة قلمك. فلسنا نشنّ الغارات على من نطق بالشهادتين لسانه وقلبه، وامتثل أوامر الله المطاعة عقله ولبّه. ودان بما يجب من الدّيانة، وتقلّد عقود الصّلاح والتحف مطارف الأمانة. ولسنا ممنا يأمر بتجريد سيف إلا على من علمنا أنه خرج عن طاعتنا، ورفض كتاب الله ونزع عن مبايعتنا. فأصدرنا مرسومنا هذا إليه نقصّ عليه من أنباء حلمنا ما أطال مدّة دولته، وشيّد قواعد صولته، ونستدعي منه رسولا إلى مواقفنا الشريفة، ورحاب ممالكنا المنيفة؛ لينوب عنه في قبول الولاية مناب نفسه، وليجن بعد ذلك ثمار شفقاتنا إن غرس شجر طاعتها. ومن سعادة المرء أن يجني ثمار غرسه، بعد أن يصحبه من ذخائر الأموال ما كثر قيمة وخفّ حملا، وتعالى رتبة وحسن مثلا، واشرط على نفسك في كل سنة قطيعة ترفعها إلى بيت المال. وإيّاك ثم إيّاك! أن تكون على هذا الأمر ممن مال، ورتّب جيشا مقيما تحت علم السلطان الأجلّ الملك الناصر للقاء العدوّ المخذول التّتار، ألحق الله أوّلهم بالهلاك وآخرهم بالبوار «1» . وقد علمت تفاصيل أحوالهم المشهورة، وتواريخ سيرهم المنكورة، فاحرص على أن يخصّك من هذا المشرب السائغ أوفر نصيب، وأن تكون ممن جهّز جيشا في سبيل الله فرمى بسهم فله أجر كان مصيبا أو [غير] مصيب، ليعود رسولك من دار الخلافة بتقاليدها وتشاريفها حاملا أهلّة أعلامنا المنصورة، شاكرا برّ مواقفنا المبرورة.
وإن أبى حالك إلا أن استمرّيت على غيّك، واستمريت مرعى بغيك، فقد منعناك التصرّف في البلاد، والنظر في أحكام العباد، حتّى تطأ خيلنا العتاق