الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل التاسع (أن يراعي رتبة المكتوب عنه والمكتوب إليه في الخطاب، فيعبّر عن كل واحد منهما في كلّ مكاتبة بما يليق به، ويخاطب المكتوب إليه بما يقتضيه مقامه)
فأما المكتوب عنه، فيختلف الحال فيه باختلاف منصبه ورتبته.
فإن كان المكتوب عن خليفة، فقد جرت عادة من تقدّم من الكتّاب بالتعبير عنه في الكتب الصادرة عن أبواب الخلافة بأمير المؤمنين، مثل أن يقال: فجرى أمر أمير المؤمنين في كذا على كذا وكذا، وأوعز أمير المؤمنين إلى فلان بكذا، واقتضى رأي أمير المؤمنين كذا، وخرج أمر أمير المؤمنين بكذا، وتقدّم أمر أمير المؤمنين إلى فلان بكذا، وما شاكل ذلك. وربما عبّر عنه بالسلطان، مثل أن يقال في حقّ المخالفين: وحاربوا عساكر السلطان، أو ومنعوا خراج السلطان وما أشبه ذلك، يريدون الخليفة، على ما ستقف عليه في الكتب التي نوردها في المكاتبات عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقال ابن شيث في «معالم الكتابة» : ويخاطب بالمواقف المقدّسة الشريفة، والعتبات العالية، ومقرّ الرحمة، ومحلّ الشرف. وذكر المقرّ الشهابيّ بن فضل الله في «التعريف» نحوه، فقال: ويخاطب بالديوان العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف، وبأمير المؤمنين، مجرّدة عن سيّدنا ومولانا ومرّة غير مجرّدة، مع مراعاة المناسبة، والتسديد والمقاربة. قال: وسبب الخطاب بالديوان العزيز الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، وتنزيل الخطاب منزلة من يخاطب نفس الديوان، والمعنيّ به ديوان الإنشاء، إذ الكتب وأنواع المخاطبات إليه واردة وعنه صادرة.
وقد سبق في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة نقلا عن ابن حاجب النعمان في «ذخيرة الكتاب» إنكار هذه الاستعارات والمخترعات «1» ، وسيأتي في
المكاتبة إلى الخلفاء ذكر ترتيبها إن شاء الله تعالى.
وإن كان المكتوب عنه ملكا، فقد جرت العادة أن يعبّر عنه بنون الجمع للتعظيم فيقال: فعلنا كذا، وأمرنا بكذا، واقتضت آراؤنا الشريفة كذا، وبرزت مراسيمنا بكذا، ومرسومنا إلى فلان أن يتقدّم بكذا، أو يتقدم أمره بكذا، وما أشبه ذلك. وذلك أن ملوك الغرب كانوا يجرون على ذلك في مخاطباتهم، فجرت الملوك على سننهم في ذلك. وفي معنى الملوك في ذلك سائر الرؤساء، من الأمراء، والوزراء، والعلماء، والكتّاب، ونحوهم من ذوي الأقدار العلية، والأخطار الجليلة، والمراتب السنيّة في الدّين والدنيا، ممّن يصلح أن يكون آمرا وناهيا، إذا كتبوا إلى أتباعهم ومأموريهم، إذ كانت هذه النون مما يختصّ بذوي التعظيم دون غيرهم. وشاهد ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
«1» فدعاه دعاء المفرد لعدم المشاركة له في ذلك الاسم، وسأله سؤال الجمع لمكان العظمة، إلى غير ذلك من الآيات الواردة مورد الاختصاص له كما في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها
«2» وقوله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى «3»
وقوله: نَحْنُ الْوارِثُونَ «4»
وغير ذلك من الآيات. قال في «معالم الكتابة» : وقد أخذ كتّاب المغرب بهذا مع ولاة أمورهم في الجمع بالميم فخاطبوا الواحد مخاطبة الجمع مثل: أنتم، وفعلتم، وأمرتم، وما أشبه ذلك.
قلت: والأمر في ذلك عندهم مستمرّ إلى الآن. قال ابن شيث: وهو غير ما صوّر به عند غيرهم.
وإن كان المكتوب عنه مرؤوسا بالنسبة إلى المكتوب إليه كالتابع ومن في معناه، فقال في «موادّ البيان» : ينبغي أن يتحفّظ في شأن الكتب النافذة عنه من الإتيان بنون العظمة وغيرها من الألفاظ التي فيها تعظيم شأن المكتوب عنه مثل أن يقول: أمرت بكذا، أو نهيت عن كذا، أو أوعزت بكذا، أو تقدّم أمري إلى فلان بكذا، أو أنهي إليّ كذا، أو خرج أمري بكذا، وما في معنى ذلك مما لا يخاطب به الأتباع رؤساءهم، بل يعدل عن مثل هذه الألفاظ إلى ما يؤدّي إلى معناها مما لا عظمة فيه، مثل أن يقول: وجدت صواب الرأي كذا ففعلته، ورأيت السياسة تقتضي كذا فأمضيته، وما أشبه ذلك، إن كان عرف الكتّاب على الخطاب بالتاء، وإلا قال: وجد المملوك صواب الرأي كذا ففعله، ورأى السياسة تقتضي كذا فأمضاه، وما يجري هذا المجرى.
وأما المكتوب إليه، فقال أبو هلال العسكريّ في كتابه «الصناعتين» :
ينبغي أن يعرف قدر المكتوب إليه من الرؤساء، والنّظراء، والعلماء، والوكلاء؛ ليفرّق بين من يكتب إليه «أنا أفعل كذا» ومن يكتب إليه «نحن نفعل كذا» (فأنا) من كلام الأشباه والإخوان، (ونحن) من كلام الملوك؛ ويفرّق بين من يكتب إليه «فإن رأيت أن تفعل كذا» وبين من يكتب إليه:(فرأيك) . قال في «موادّ البيان» : وذلك إنّ قولهم فإن رأيت أن تفعل كذا لفظ النّظراء والمساوين، بخلاف فرأيك، فإنه لا يكتبه إلا جليل معظّم؛ لتضمنها معنى الأمر والتقدير فر رأيك، بخلاف فإن رأيت، فإنه لا أمر فيه، إذ يقال: فإن رأيت أن تفعل كذا فافعله. على أنّ الأخفش قد أنكر هذا على الكتّاب؛ لأن أقل الناس يقول للسلطان: انظر في أمري، ولفظه لفظ الأمر ومعناه السؤال. وذكر مثله في «صناعة الكتّاب» عن النحويين. قال في «موادّ البيان» : وحجّة الكتّاب أن المشافهة تحتمل ما لا تحتمله المكاتبة؛ لأن المشافهة حاضر يحضر الإنسان لا يمكنه تقييده وترتيبه، والمكاتبة بخلاف ذلك، فلا عذر لصاحبها في الإخلال بالأدب. قال ابن شيث: وقد اصطلحوا على أن يكتب في أواخر الكتب:
«وللآراء العالية فضل السموّ والقدرة إن شاء الله تعالى» . ودون ذلك: «وللرأي السامي حكمه» ودونه: «والرأي أعلى» . ودونه: «والرأي موفّق» وموفّقا بالرفع والنصب. ودونه: «ورأيه» للمجلس: «ورأيها» للحضرة. قال: وربما قالوا: «فإن رأى مولانا أن يكون كذا وكذا أمر به أو فعل» إلا أنها لا تقوم مقام قوله: والرأي أعلى. فأما لمن دونه فمحتمل. وذكر أنه كان مصطلحهم أن يقال في آخر كتب السلطان: «فاعلم ذلك واعمل به إن شاء الله تعالى» . وإن أعيان أصحاب الأقلام كانوا يكتبونه إلى من دونهم.
قلت: والذي استقرّ عليه الحال أن يكتب في مثل ذلك: «وللآراء العالية مزيد العلوّ» وأن تختم الكتابة للأكابر بمثل: «فنحيط علمه بذلك» ولمن دونهم: «فنحيط بذلك علما» وللأصاغر: «فليعلم ذلك ويعتمده» ونحو ذلك.
قال محمد بن إبراهيم الشيبانيّ: إن احتجت إلى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتّاب والأدباء والخطباء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلّا منهم على قدر أبّهته وجلالته وعلوّه وارتفاعه وفطنته وانتباهه. ولكل طبقة من هذه الطّبقات معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إيّاهم في كتبك؛ وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيّه نصيبه، فإنه متى أهملت ذلك وأضعته، لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقتهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه، فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تكسه لفظا مختلفا على قدر المكتوب إليه؛ فإنّ إلباسك المعنى- وإن صح إذا أشرب «1» - لفظا لم تجربه عادة المكتوب إليه تهجين للمعنى، وإخلال لقدر المكتوب إليه، وظلم يلحقه، ونقص مما يجب له، كما أنّ في اتباع متعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا عن حقّهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم،
وإسقاطا لحجّة أدبهم. قال ابن عبد ربه: فامتثل هذه المذاهب وأجر عليها القوم «1» .
قال في «موادّ البيان» : وذلك أن المعاني التي يكتب فيها وإن كان كلّ منها جنسا بعينه، كالتهنئة والتّعزية والاعتذار والعتاب والاستظهار ونحو ذلك، فإنه لا يجوز أن يخرج المعنى لكلّ مخاطب على صيغة واحدة من اللفظ، بل ينبغي أن يخرج في الصيغة المشاكلة للمخاطب، اللائقة بقدره ورتبته. ألا ترى أنك لو خاطبت سلطانا أو وزيرا بالتعزية عن مصيبة من مصائب الدنيا، لما جاز أن تبني الكلام على وعظه وتبصيره وإرشاده وتذكيره وحضّه على الأخذ بحظّ من الصبر، ومجانبة الجزع، وتلقّي الحادثات بالتسليم والرّضا؛ وإنما الصواب أن تبني الخطاب على أنه أعلى شانا، وأرفع مكانا، وأصحّ حزما، وأرجح حلما، من أن يعزّى؛ بخلاف المتأخّر في الرتبة، فإنه إنما يعزّى تنبيها وتذكيرا، وهداية وتبصيرا، ويعرّف الواجب في تلقّي السّرّاء بالشّكر، والضّرّاء بالصبر، ونحو ذلك.
وكذلك إذا كاتبت رئيسا في معنى الاستزادة والشّكوى، لا يجوز أن تأتي بمعناهما في ألفاظهما الخاصّة، بل يجب أن تعدل عن [ألفاظ] الشكوى إلى ألفاظ الشّكر، وعن ألفاظ الاستزادة إلى ألفاظ الاستعطاف والسّؤال في النّظر، لتكون قد رتّبت كلامك في رتبته، وأخرجت معناك مخرج من يستدعي الزيادة لا من يشكو التقصير.
قال ابن شيث في «معالم الكتابة» : ولا يخاطب السلطان في خلال الكتابة إليه بسيّدنا مكان مولانا، فإن «سيدنا» كأنها خصّصت بأرباب المراتب
الدينية والدّيوانية، «ومولانا» تخصّ السلطان وحده، وإن كان من نعوت السلطان السيّد الأجلّ.
قال: على أن ذلك مخالف لمذهب المغاربة؛ فإنهم يعبّرون عن ولاة أمورهم بالسادة، ويعبّرون عن صاحب الأمر بسيّدنا، وكأن هذا كان في زمانه، وإلا فالمعروف عند أهل المغرب والأندلس الآن التعبير عن السلطان بالمولى، يقول أحدهم مولانا فلان. وأهل مصر الآن يطلقون السادة على أولاد الملوك.
وكذلك لو وقع واقع للسلطان فنصحته لم يجز أن تورد ذلك مورد التنبيه على ما أغفله، والإيقاظ لما أهمله، والتعريف من الصواب لما جهله؛ لأن ذلك من القبيح الذي لا يحتمله الرؤساء من الأتباع، ولكن تبني الخطاب على أنّ السلطان أعلى وأجلّ رأيا، وأصحّ فكرا، وأكثر إحاطة بصدور الأمور وأعجازها، وأن آراء خدمه جزء من رأيه، وأنهم إنما يتفرّسون مخايل الإصابة بما وقفوا عليه من سلوك مذهبه، والتأدّب بأدبه، والارتياض بسياسته، والتنقّل في خدمته، وإنّ مما يفرضونه في حكم الإشفاق والاهتمام، وما يسبغ عليهم من الإنعام، المطالعة بما يجري في أوهامهم، ويحدث في أفكارهم، من الأمور التي يتخيّلون أنّ في العمل بها مصلحة للدولة، وعمارة للمملكة، ليتصفّحه بأصالة رأيه التي هي أوفر وأثبت. فإن استصوبه أمضاه، وإن رأى خلافه ألغاه، وكان الرأي الأعلى ما يراه؛ إلى غير ذلك مما يجرى هذا المجرى.
قال ابن شيث في «معالم الكتابة» : ولا يقارن الكاتب السلطان في تكرار المواضع التي يقع الالتباس فيها بين الكاتب والمكتوب إليه؛ لأن هاء الضمير تعود عليهما معا لما تقدّم من ذكرهما، وإن كان في القرينة ما يدلّ على ذلك بعد الفكرة وإذا ابتدأ معهم بالمملوك لا يقال بعد ذلك العبد ولا الخادم، وإن كان ذلك جائزا مع غير السلطان.
قال: ولا بأس بتكرار الإشارة إلى السلطان في المواضع التي يجمل فيها الاشتراك بينه وبين المكتوب إليه، مثل أن يقال: وكان قد ذكر كذا وكذا،