الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به أمثالها، ويبلغ به أبو جعفر محابّه كلّها. فإن رأى الصاحب الجليل أن يأتي في ذلك كلّه ما يجده ويعده ويرعاه ويحفظه، جاريا على المألوف من مثابرته على ما عاد علينا وعليه معنا بطيب الذّكر والبشر، وثناء اليوم والغد، فقد أنفذنا بهذا الكتاب ركائب لنا دلالة على خصوص متضمّنه في تعلقه بالاهتمام منا، فعل إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني (أن تكون المكاتبة من ملك إلى ملك)
ورسمهم في ذلك أن يفتتح الكتاب بلفظ: كتابي والأمر على كذا وكذا، ويؤتى بالتعبير عن المكتوب عنه في أثناء الكتاب بلفظ الإفراد دون الجمع، وهنا يفخّم شأن المكتوب إليه، فيعبّر عنه بمولاي وسيدي، ومولانا وسيدنا، ونحو ذلك.
ثم هو على مراتب «1» :
المرتبة الأولى (أن يكون المكتوب إليه ملكا أيضا)
فيخاطبه على قدر مقامه بالسيادة أو غيرها مع الدعاء بما يناسبه، من طول البقاء ونحوه، ثم تارة يقع التعرّض فيها بذكر الطلب وبرفع الحال التي هو عليها، وتارة لا يقع التعرّض إلى ذلك- كما كتب أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن معز الدولة، بن بويه، إلى عضد الدولة بن بويه في طلب الصّلح، وقد جرى بينهما اختلاف.
كتابي- أطال الله بقاء مولانا الملك الجليل المنصور عضد الدولة- من
العسكر بظاهر سوق الأهواز، ومولانا أمير المؤمنين مشمول بالكفاية والتأييد، مخصوص بالعز والتمكين، يجري على أفضل ما عوّد الله خلفاءه في أرضه، وأحبّاءه في رعاية خلقه، من التكفّل لهم بالإظهار والإدالة، وتولّيهم بالإعلاء والإنافة، وأنا مستظلّ بكنف طاعته، مستكنّ في حرم مشايعته، شاكر لله على بلائه، مثن عليه بآلائه، راغب إليه أن يعصمني في مولانا الملك الجليل المنصور وفي نفسي من كل مكروه ومستهجن، ويوفّقني وإيّاه لكل مستحبّ ومستحسن، ويعيذنا من المقام على الفرقة، والزّوال عن سنن الألفة، وهو المحمود ربّ العالمين.
والحقوق بين مولانا الملك وبيني فيما قررته منا اللّحمة، وأكّدته العصمة، وأثّلته الأسلاف، ونشأت عليه الأخلاف، حقيقة بأن لا تتسرّع إليها دواعي النّقض، ولا تتمكّن منها ملمّات النّسخ، ولا يتمّ للشيطان عليها ما يحاوله بنزغه، ويتوصّل إليه بكيده، وأن تنزاح العوارض عنها، وتضمحلّ دون التأثير فيها، وأن نعتقد جميعا أنّ بتقارضنا رعايتها ثبات النعم المتصلة بها، فلا يستنكف مستنكف منّا أن يخفض جناحه لأخيه، ويغضّ من جماحه في مقاربة ذويه، إذ كان ذلك حاميا له في أهول الأحوال ممّا هو أشدّ خفضا، وأبلغ رضّا، وأسوأ مغبّة، وأنكر عاقبة.
وقد علم مولانا الملك المنصور بالثاقب من تأمله، والصحيح من تمييزه وتدبّره، أنّ دولتنا- حرسها الله- مبنيّة على أسّ الترافد والتعاضد، موضوعة على قاعدة التوازر والتظافر، وأنّ مشيختنا وسادتنا رضوان الله عليهم جعلوا الائتلاف رتاجا «1» بين الأعداء وبينها، ثم إن مفتاحه هو الخلاف المتطرّق لهم عليها، ولو حدث التنافر في أيام رياسة أضعفنا منّة، وأوهننا عقدة، وأحدثنا سنّا، وأقلّنا حنكة، لكان ذلك أقلّ في التعجّب من أن يعرض في رياسة أحصفنا رأيا،
وأسدّنا تدبيرا، وأوفانا حلما، وأكملنا حزما. وقد تكررت- أيد الله مولانا- على ذات بيننا قوارص احتقرناها حتّى امتلأ الإناء من قطرها، واستقينا منها على العظيمة التي لا ثواء بعدها، وما أعود على نفسي بلوم في ابتداء قبيح ابتدأته، ولا بمركب شنيع ركبته ولا حقّ اطّرحته، ولا استصلاح تركته، ولا أدفع مع ذلك أنني قابلت لما تضاعف بالأقل الأيسر، وجازيت لما ترادف بالأدون الأنزر، إلا أني ما آثرت كثيره ولا قليله، ولا اخترت دقيقه ولا جليله، لكنه لم يصلح في السيرة- وقد أشفينا على التزاحف للحرب، والتّدالف للطّعن والضرب- أن أستعمل ما كنت عليه من توفية الحقوق، وإقامة الرسوم، فيراني الأولياء الذين بهم تحمى البيضة، وتحاط الحوزة، متناقض الفعلين، متنافي المذهبين، وكنت في ذلك الفعل الذّميم، والرأي الذي ليس بمستقيم، مقتديا لا مبتديا، ومتّبعا لا مبتدعا. ولو وقف بي مولانا الملك الجليل قبل أواخر الجفاء، وعطف معي إلى أوّل شرائع الصّفاء، لكانت عريكتي عليه ألين، وطريقه إلى ارتباط طاعتي وولائي أقصد، لكنه، أيّده الله، أقام على ما لا يليق به من مجانبتي ومغالظتي، وبثّ الحبائل لي ودسّ المكايد إليّ، ومتابعته الجواسيس والكتب إلى الأولياء في عسكري الذين هم أولياؤه، إن أنصف وعدل، ونصحاؤه، إن أحسن وأجمل.
وكان الأشبه بمولانا لو كنت الغالط عليه، والباعث لهذه الأسباب إليه، أن يسوسني سياسة الحكيم، ويستخلصني استخلاص الكريم، إذ كنّا لم نقدّمه معشر أهل البيت علينا، ونولّه أزمّة أمورنا، إلا ليأسو جروحنا، ويجبر كسورنا، ويتعهّد مسيئنا، ويستميل نافرنا، فأما أن يحاول منا استباحة الحريم، وإركاب المركب العظيم، فكيف يجوز أن تدوم على هذا طاعة، أو تصلح عليه جماعة، أو يغضي عليه مغض، أو يصفح عنه صافح؟. وكان من أشدّ هذه الجفوة وأفظعها، وأقساها وأغلظها، أن عاد رسولي من حضرته خاليا من جواب بما كتبت إليه، وما أعرف له أيده الله في ذلك عذرا يبسطه، ولا سلك منه السبيل التي تشبهه، وبالله جهد القسم ومنتهاها، وأجلّها وأوفاها، لقد سار مولانا أمير
المؤمنين أطال الله بقاءه، وسرت إلى هذا الموضع، واعتقادنا لا يجاوز حفظ الحدود والأطراف، وحياطة النهايات والأكناف، والأغلب علينا أنّ مولانا الملك- أدام الله تأييده- لا يتجاوز معي المعاتبة اللطيفة، والمخاطبة الجميلة، والاستدعاء منّي لما يسوغ له أن يطلبه ولي أن أبذله، من تعفية السالف، وإصلاح المستأنف، وتوفية للحق في رتبة لا أضنّ بها عليه، ولا أستكثر النّزول عنها له، وتقرير أصل بيننا يكون أيده الله به معقلا لي وموئلا، وأكون نائبا له ومظفّرا- إلى أن بدأ الأصحاب بالعيث في هذه البلاد، وألحّوا عليها بالغارات، واعتمدوها بالنّكايات، وكان هذا كالرّشاش الذي يؤذن بالانسكاب، والوميض الذي يوعد بالاضطرام- وأوجبت قبل المقابلة عليه والشّروع في مثله في حقّ مولانا الملك الجليل، الذي لا أدع أن أحفظ منه ما دعاني إلى إضاعته، وأتمسّك بما اضطّرّني إلى مفارقته، أن أقدّم أمام الالتقاء على الحرب التي هي سجال كما يعلم، إبلاغ نفسي عذرها، وإعطاء المقادة منها، داعيا له إلى طاعة الخالق والإمام، وصلة اللّحم والأرحام، وحقن الدماء والمهج، وتسكين الدّهماء والرّهج، وثني العنان عن المورد الذي لا يدري وارده كيف يصدر عنه، ولا يثق بالسّلامة منه، وتعريفي ما يريده منّي لأتّبعه ما لم يكن ثالما لي، وعائدا بالوهن عليّ، والله الشاهد على شهادة قد علم إخلاصي فيها، وسماحة ضميري بها، وأنني أكره أن أنال منه، كما أكره أن ينال مني، وأتألّم من أن أظهر عليه، كما أتألّم أن يظهر عليّ، وأحبّ أن يرجع عني وأرجع عنه؛ وقد التقت قلوبنا، وتألّف على الجميل شملنا، وطرفت أعين الأعادي عنا، وانحسمت مطامعهم فينا، فإن فعل ذلك فحقيق به الفضل، وهو لعمر الله له أهل، ولا عذر له في أن لا يفعله، وقد وسّع الله ماله، ووفّر حاله، وأغناه عمّا يلتمسه الصّعلوك، ويخاطر له السّبروت «1» ، وجعله في جانب الغنى والثّروة، والحزم والحيطة، وإن أبى فكتابي هذا حجّة عند الله الذي تستنزل منه المعونة وعند