الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشمخرّات حصونك، وتعجّل حينئذ ساعة منونك. وما علّمناك غير ما علمه قلبك، ولا فهّمناك غير ما حدسه لبّك، ولا تكن كالصغير يزيده كثرة التحريك نوما، ولا ممن غرّه الإمهال يوما فيوما. أعلمناك ذلك فاعمل بمقتضاه، موفّقا إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثاني (أن يفتتح الكتاب بخطبة إمّا مصدّرة بآية من القرآن الكريم أو دونها)
كما كتب عن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس «أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان» إلى السلطان الملك الناصر، أحمد ابن الملك الناصر محمد «1» بن قلاوون، وهو بالكرك «2» ، يستدعي حضوره إلى قلعة الجبل بالقاهرة المحروسة لتقليد السلطنة الشريفة، بعد خلع أخيه الملك الأشرف كجك ابن الناصر محمد، وإمساك الأمير قوصون ومن معه من الأمراء.
وقد ذكر صاحب «الدرّ الملتقط» أنه كتبه في قطع البغداديّ الكامل بين يدي الأمير قطلوبغا الفخريّ كافل السلطنة الشريفة. وهذه نسخته:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ «3» .
فالحمد لله الذي أسبغ نعمه الظاهرة والباطنة، وألّف قلوب أوليائه المتفقة والمتباينة، وأخذ بنواصي أعدائه المراجعة والبائنة، وأعلى جدّ هذه الدولة القاهرة، وأطلع في أسنّة العوالي نجومها الزاهرة، وحرّك لها العزائم فملكت
والأمور- بحمد الله- ساكنة، والبلاد- والمنة لله- آمنة، والرّعايا في مكانها قاطنة، والسيوف في أغمادها مثل النّيران في قلوب حسّادها كامنة، وأقام أهل الطاعة بالفرض واستوفى بهم القرض، وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض، وأعزّ أنصار المقام الشريف العالي وأعزّ نصره، وأعدّ لعدوّه حصره، وأتى بدولته الغراء تسمو شموسها، وتثمر غروسها، وتظهر في حلل الصباح المشرق عروسها وتجيء منه بخير راع للرعية يسوسها، وبشّره بالملك والدّوام وسرّه بما اجتمع له من طاعة الأنام، وأقدمه على كرسيّ ملكه تظلّه الغمام، وأراه يوم أعدائه وكان لا يظنّ أن يرى في المنام، ولا يزال مؤيّد الهمم، مؤكّد الذّمم، مجدّد البيعة على رقاب الأمم، ولا برحت أيامه المقبلة مقبلة بالنّعم، خضر الأكناف على رغم من كاد وغيظ من رغم؛ ولا فتئت عهود سلفه الشريفة تنشأ له كما كانت، ورعاياه تدين له بما دانت، وجنوده تفدّيه من النفوس بأعزّ ما ذخرت وما صانت، وسعادة سلطانه تكشف الغمم وتنشر الذّمم وتعيد إلى أنوف أهل الأنفة الشّمم، وتحفظ ما بقي لأوليائه من بياض الوجوه وسواد اللّمم.
سطّرها وأصدرها وقد حقّقت بعوائد الله الظّنون، وصدّقت الخواطر العيون، وأنجز الله وعده، وأتمّ سعده، وجمع على مقامه الكريم قلوب أوليائه، وفرّق فرق عدوّه وأباته بدائه، ووطّد لرقيّه المنابر، ورجّل لترقّيه العساكر، وهيّأ لمقاتل أعدائه في أيدي أوليائه السّيوف البواتر. وأخذ قوصون وأمسك ونهب ماله واستهلك، وهدمت أبنيته وهدّت أفنيته، وخرّبت دياره وقلعت آثاره، وأخليت خزائنه وأخرجت من بطون الأرض دفائنه، وما مانعت عنه تلك الربائب التي ظنّها قساور ولا ناضلت تلك القسيّ التي طبعها أساور، ولا أغنى عنه ذلك المال الذي ذهب، ولا ذلك الجوهر الذي كان عرضا لمن نهب. وأعيد إلى المهد ذلك الطفل الذي أكل الدّنيا باسمه، وقهر أبناءها بحكمه، وموّه به على الناس وأخلى له الغاب وما خرج من الكناس، وغالب به الغلب حتّى وطيء الرّقاب وداس الأعقاب، وخادع ودلّه الشيطان بغروره ودلّس عليه عاقبة أموره، فاعتدّ
بعتاده واعتزّ بقياده واغترّ بأنّ الأرض له وما علم أنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فأمسك ومعه رؤوس أشياعه، وحصرت بالخوف نفوس أتباعه- ومنهم الطنبغا. وقد أحاط العلم الشريف بكيفية وصوله وحقيقة الخبر وما قاساه في طريقه من العبر، وداس عليه حتّى وصل من وخز الإبر. وكذلك من جاء معه، وخلّف وراءه الحقّ وتبعه، بعد الهزيمة التي ألجأهم إليها خوف العساكر المنصورة التي قعدت لهم على الطريق وأخذت عليهم بمدارج أنفاسهم في فم المضيق، وعبّئت لهم صفوف الرجال، وأعدّت لهم حتوف الآجال، وحيّرتهم في سعة الفجاج، وأرتهم بوارق الموت في سحب العجاج. ثم لم يصلوا إلا وهم أشلاء ممزّقة، وأعضاء مفرّقة قد فني تحتهم الظهر، وقني بيومهم الدّهر، وساقتهم سعادة سلطان المقام العالي إلى شقاوتهم وهم رقود، وعبّئت لهم الخيل والخلع إلا أنها ملابس الذّلّ وهي القيود. فأخذوا جميعا ومن كانوا على موالاته، وفارقوا الجماعة لمواتاته، وحملوا إلى الحبس النائي المكان، وأودعوا أحياء في ملحده إلّا أنهم كالأموات، وقد نالوا المقصد إلا أنهم ما أمنوا الفوات. ووكّل بحفظهم إلى أن يشرّف سرير الملك بقعود مقامه وعقود أيّامه الحوالي، وسعود زمانه الذي لا يحتم بالنجوم إلا خدم الليالي.
وهذا النصر إنما تهيّأت- ولله الحمد- أسبابه، وهذا الفتح إنما فتحت بمشيئة الله أبوابه، بمنّة الله ونيّة المقام العالي لا بمنّة أحد، ولا بمنّة بأس من أقدر ولا يأس من حجر، وما قضى الله به من سعادة هذه الأيام، ومضى به القدر السابق وعلى الله التمام، وبمظافرة الجناب الكريم السّيفيّ، قطلوبغا الفخريّ الساقي الناصريّ، أدام الله نصرته لهذه العصابة المؤيّدة. وبمضاء عزائمه التي ماونت، وقضاء قواضبه التي ما انثنت، وبموازرة من التفّ عليه من أكابر الأمراء، وبما أجمعوا عليه من مظافرة الآراء، ونزولهم على النية لا يضرّهم من خذلهم، ولا يهينهم من بذلهم، ولا يبالون بعساكر دمشق المقيمة على حلب ومن مال إليهم، وتمالأ معهم عليهم، ومن انضاف إليهم من جنود البلاد، وجيوش العناد، ولا لواهم ما كان يبعث إليهم ذلك الخائن من وعيده، ولا ولّاهم
ما كاد يخطف أبصارهم من تهديده، ولا بالوا بما ألّب عليهم من جند الشام من كلّ أوب، وصبّ عليهم سيوله من كل صوب، وخادعهم بالرسائل التي ما تزيدهم عليه إلا إباء، ولا تشكّكهم أن السيف أصدق منه إنباء، حتّى ولّى لا تنفعه الخدع، ولا تنصره البدع، فما أسعدته تلك الجموع التي جمعها، ولا أجابته تلك الجنود التي سار عليها إلى مكمن أجله، ولا وقت تلك السيوف التي لم يظهر له من بوارقها إلا حمرة الخجل، حتى أخذ مع طاغيته بل طاغوته بمصر ذلك الأخذ الوبيل، وقذف به إلى مهوى هلكة سيل ذلك السبيل، وقام من بالديار المصرية قيام رجل واحد، وتظافروا على إزالة ذلك الكافر الجاحد، ولم يبق من الأمراء إلا من بذل الجهد، وجمع قلوب الرعية والجند، وفعل في الخدمة الشريفة ما لم يكن منه بدّ، حتّى حمد الأمر وخمد الجمر، وتواترت الكتب بما عمّت به البشرى من إقامة البيعة باسمه الكريم، وأنه لم يبق إلا من أعطى اليمين وأعطى اليمين، وأتمّ الحلف إتماما لا يقدّر معه ثمين، وأقيمت له السّكة والخطبة فرفع على المنابر اسمه وتهلل به وجوه النّقود، وظهر على أسارير الوجود، وضربت البشائر، ونهبت المسرّات السّرائر، وتشوّقت أولياء هذه الدولة القاهرة أدام الله سلطانها إلى حضور ملكها، وسفور الصّباح لإذهاب ما أبقته عقابيل تلك الليلة من حلكها. والمقام العالي ما يزداد علما ولا يزاد عزما، وهو أدرى بما في التأخير، وبما في بعده من الضرر الكبير ومثله لا يعلّم، ومنه يتعلّم؛ فهو أعلم بما يجب من مسابقة قدومه للبشير، وما سيعنّ من معاجلته لامتطاء جواديه ظهر الخمال وبطن السّرير، فالله الله! في تعجيل حفظ هذا السّوام المشرّد، وضمّ هذا الشّمل المشتّت ونظم هذا العقد المبدّد، وجمع كلمة الإسلام التي طالما افترقت، وانتجاع عارض هذه النعمة التي أبرقت، وسرعة المسير فإنّ صبيحة اليوم المبارك الذي يعرف من أوّله قد أشرقت، فما بقي ما به يقتدر، ولا سوى مقدمه السعيد ينتظر.
وقد كتبناها ويدنا ممدودة لمبايعته وقلوب الخلق كلّها مستعدّة لمتابعته، وكرسيّ الملك قد أزلف له مقعده ومؤمّل الظّفر قد أنجز له موعده، والدهر