الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطّرف الرابع (في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني العباس، وفيها جملتان)
الجملة الأولى (في المكاتبات العامّة من الملوك إلى الخلفاء، ولها حالتان)
الحالة الأولى (ما كان الأمر عليه في ابتداء دولة بني العباس وأوساطها)
أما ابتداء دولتهم، فكان الأمر فيه على ما تقدّم في مكاتبات العمّال ونحوهم إلى خلفاء بني أميّة، وقد تقدّم تمثيله. إلا أنه زيد فيه في صدور المكاتبات سؤال الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من حين رتّبه المأمون في صدور الكتب، وتكنية الخليفة من حين أحدثه الأمين في كتبه على ما تقدّم بيانه في المكاتبات عن الخلفاء فيما سلف.
وأما أوساط دولتهم من حين ظهور ملوك بني بويه وغلبتهم على الأمر، فللكتّاب فيه أسلوبان:
الأسلوب الأوّل (أن تفتتح المكاتبة بلفظ «لفلان من فلان» وتصدّر بالسلام والتحميد وسؤال الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتخلص إلى المقصود بأما بعد)
والرسم فيه على ما ذكره قدامة في كتاب الخراج أن يكتب: «لعبد الله فلان أبي فلان- باسمه وكنيته ونعته- أمير المؤمنين، سلام على أمير المؤمنين، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأدام عزّه وتأييده وكرامته وحراسته،
وأتم نعمته عليه، وزاد في إحسانه إليه، وفضله عنده وجميل بلائه لديه، وجزيل عطائه له» .
وزاد في «صناعة الكتّاب» في السّلام «ورحمة الله وبركاته» . قال في «صناعة الكتاب» : ثم يقال: أما بعد فقد كان كذا وكذا، حتّى يأتي على المعاني التي يحتاج إليها. وتكون المكاتبة:- وقد فعل عبد أمير المؤمنين كذا- فإن زادت حاله لم يقل عبد أمير المؤمنين، فإذا بلغ إلى الدعاء ترك فضاء وكتب: أتمّ الله على أمير المؤمنين نعمته وهناءه وكرامته، وألبسه عفوه وعافيته وأمنه وسلامته، والسّلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكتب يوم كذا وكذا من شهر كذا من سنة كذا.
وقال الفضل «1» بن سهل: يدعى للخليفة:
أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام عزّه وتأييده، وأتمّ نعمته وسعادته وتوفيقه، وزاد في إحسانه إليه ومواهبه له. ولا يكتب إليه «وجعلني فداه» ويكون أوّل فصوله: أخبر أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- أن كذا وكذا.
ثم يوالي الفصول ب «أيده الله وأدام عزه» . ونحو هذا.
وإن شئت كتبت: أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام عزّه وتأييده وكرامته، وأتمّ نعمته عليه، وزاد فيها عنده وحاطه وكفاه، وتولّى له ما ولّاه.
وإن شئت كتبت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في العزّ والسّلامة، وأدام كرامته في السّعادة والزّيادة، وأتمّ نعمته في السّبوغ والغبطة، وأصلحه وأصلح
على يديه ونصره، وكان له في الأمور كلّها وليّا وحافظا.
وإن شئت كتبت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في أعزّ العزّ، وأدوم الكرامة والسّرور والغبطة، وأتمّ نعمه في علوّ من الدرجة، وشرف من الفضيلة، ومتابع من العائدة، ووهب له السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
والذي كانت عليه قاعدة ملوك بني بويه فمن بعدهم إن كان الكتاب في معنى حدوث نعمة من فتح ونحوه، أتي بعد ذلك بالتحميد ما بين مرّة واحدة إلى ثلاث مرّات. ويعبّر المكتوب عنه عن نفسه بلفظ الإفراد، وعن الخليفة بأمير المؤمنين، ويختم الكتاب بالإنهاء وما في معناه.
وهذه نسخة كتاب كتب به أبو إسحاق «1» الصابي عن عز الدولة بن بويه إلى المطيع «2» لله عند فتحه الموصل، وهزيمة أبي تغلب بن حمدان صاحب حلب في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وهي لعبد الله الفضل [الإمام]«3» المطيع لله أمير المؤمنين، من عبده وصنيعته «4» عزّ الدولة ابن معزّ الدولة مولى أمير المؤمنين. سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله، فإنّي أحمد إلى أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلّي على محمد عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
أما بعد- أطال الله بقاء «5» أمير المؤمنين وأدام له العزّ والتأييد، والتوفيق والتّسديد، والعلوّ والقدرة، والظّهور والنّصرة- فالحمد لله العليّ العظيم، الأزليّ
القديم، المتفرّد بالكبرياء والملكوت، المتوحّد بالعظمة والجبروت، الذي لا تحدّه الصّفات، ولا تحوزه الجهات، ولا تحصره قرارة مكان، ولا يغيّره مرور زمان، ولا تتمثّله «1» العيون بنواظرها، ولا تتخيّله القلوب بخواطرها، فاطر السموات وما تظلّ، وخالق الأرض وما تقلّ، الذي دلّ بلطيف صنعته، على جليل حكمته، وبيّن بجليّ برهانه، عن خفيّ وجدانه، واستغنى بالقدرة عن الأعوان، واستعلى بالعزّة عن الأقران، البعيد عن كلّ معادل ومضارع، الممتنع على كلّ مطاول ومقارع، الدائم الذي لا يزول ولا يحول، العادل الذي لا يظلم ولا يجور، الكريم الذي لا يضنّ ولا يبخل، الحليم الذي لا يعجل ولا يجهل.
ذلكم الله ربّكم لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدّين، منزل الرحمة على كلّ وليّ توكّل عليه، وفوّض إليه، وأتمر لأوامره، وازدجر بزواجره، ومحلّ النّقمة بكلّ عدوّ صدّ عن سبيله وسننه، وصدف عن فرائضه وسننه، وحادّه في مكسب يده ومسعاة قدمه، وخائنة عينه وخافية صدره، وهو راتع رتعة النّعم السائمة، في أكلاء النّعم السابغة، وجاهل «2» جهلها بشكر آلائها، ذاهل ذهولها عن طرق استبقائها، فلا يلبث أن ينزع سرابيلها صاغرا، ويتعرّى منها حاسرا، ويجعل الله كيده في تضليل، ويورده شرّ المورد الوبيل إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ «3»
ولا يهدي كيد الخائنين.
والحمد لله الذي اصطفى للنّبوة أحقّ عباده بحمل أعبائها، وارتداء ردائها، «محمدا» صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وعظّم خطره وكرّم، فصدع بالرسالة، وبالغ في الدّلالة، ودعا إلى الهداية، ونجّى «4» من الغواية، ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم، إلى طاعة الرحمن الرحيم، وأعلقهم بحبائل
خالقهم ورازقهم، وعصمة محييهم ومميتهم، بعد انتحال الأكاذيب والأباطيل، واستشعار المحالات والأضاليل، والتهوّك «1» في الاعتقادات الذائدة عن النّعيم، السائقة إلى العذاب الأليم، فصلّى الله عليه من ناطق بالحق، ومنقذ «2» للخلق، وناصح للرّبّ، ومؤدّ للفرض، صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، تزيد على اختلاف الليل والنّهار، وتعاقب الأعوام والأدوار.
والحمد لله الذي انتجب «3» أمير المؤمنين [أطال الله بقاءه]«4» من ذلك السّنخ «5» الشريف، والعنصر المنيف، والعترة الثابت أصلها، الممتدّ ظلّها، الطّيب جناها، الممنوع حماها، وحاز له مواريث آبائه الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين، واختصّه من بينهم بتطاول أمد الخلافة واستحصاف حبلها في يده، ووفّقه لإصابة الغرض من كل مرمى يرميه، ومقصد ينتحيه، وهو- جل ثناؤه- الحقيق بإتمام ذلك عليه، والزيادة فيه لديه. وأحمده سبحانه حمدا أبتدئه ثم أعيده، وأكرّره وأستزيده، على أن أهّل ركن الدولة أبا عليّ، وعضد الدولة أبا شجاع مولى أمير المؤمنين، وأهّلني للأثرة عنده التي بذذنا «6» فيها الأكفاء، وفتنا فيها القرناء، وتقطّعت دونها أنفاس المنافسين، وتضرّمت عليها أحشاء الحاسدين. وأن أولاني في كل مغزى في خدمة أمير المؤمنين أغزوه، ومنحى أنحوه، وثأي أرأبه، وشعث ألمّه، وعدوّ أرغمه، وزائغ أقوّمه، أفضل ما أولاه عباده السليمة غيوبهم، النقيّة جيوبهم، المأمونة ضمائرهم، المشحوذة بصائرهم، من تمكين يد، وتثبيت قدم، ونصرة راية، وإعلاء كلمة، وتقريب
بغية، وإنالة أمنيّة، وكذلك يكون من إلى [ولاء]«1» أمير المؤمنين اعتزاؤه، وبشعاره اعتزازه، وعن زناده قدحه، وفي طاعته كدحه، والله وليّ [بإدامة «2» ] ما خوّلنيه من هذه المنقبة، وسوّغنيه من هذه الموهبة، وأن يتوجّه أمير المؤمنين في جميع خدمه الذابّين عن حوزته، المنتمين إلى دعوته، بيمن الطائر، وسعادة الطالع، ونجاح المطلب، وإدراك الأرب، وفي أعدائه الغامطين لنعمته، الناقضين مواثيق بيعته، بإضراع الخدّ، وإتعاس الجدّ «3» ، وإخفاق الأمل، وإحباط العمل، بقدرته.
ولم يزل مولانا أمير المؤمنين [أطال الله بقاءه «4» ] ينكر قديما من فضل الله بن ناصر الدولة أحوالا حقيقا مثلها بالإنكار، مستحقّا من ارتكبها الإعراض، وأنا أذهب في حفظ غيبه، وإجمال محضره، وتمحّل حججه وتلفيقها، وتأليف معاذيره وتنميقها، مذهبي الذي أعمّ به كلّ من جرى مجراه من ناشيء في دولته، ومغتذ بنعمته، ومنتسب إلى ولايته، ومشتهر بصنيعته، وأقدر أن أستصلحه لأمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- وأصلحه لنفسه بالتوقيف على مسالك الرّشاد، ومناهج السّداد، وهو يريني أن قد قبل وارعوى، وأبصر واهتدى، حتّى رغبت إلى أمير المؤمنين «5» فيما شفّعني متفضّلا فيه، من تقليده أعمال أبيه، والقناعة منه في الضّمان بميسور بذله، وإيثاره «6» به على من هو فوقه من كبراء إخوته وأهله.
فلما بلغ هذه الحال، ألطّ «7» بالمال، وخاس بالعهد، وطرّق لفسخ
العقد، وأجرى إليّ «1» أمورا كرهتها، ونفد «2» الصبر منّي عليها. وخفت أن أستمرّ على الإغضاء عنها والمسامحة فيها، فيطّلع الله مني على إضاعة الاحتياط في أمر قلّدني أمير المؤمنين «3» زمامه، وضمّنني دركه، وإرخاء لبب «4» رجل قبل «5» في الاعتماد عليه رأيي، وعوّل في أخذه بما يلزمه على نظري واستيفائي- فتناولته بأطراف العذل ملوّحا، ثمّ بأثباجه «6» مفصحا مصرّحا.
ورسمت لعبد أمير المؤمنين الناصح أبي طاهر أن يجدّ به وبوسطائه وسفرائه في حال، ويدخل عليه من طريق المشورة والرّفق في أخرى، ويتنقّل معه بين الخشونة التي يقفو فيها أثري، واللّين الذي لا يجوز أن يحسّه مني، تقديرا لانثنائه، وزوال التوائه، ففعل ذلك على رسمه في التأنّي لكلّ فاسد حتى يصلح، ولكلّ آب حتّى يسمح، ولم يدع التناهي في وعظه، والتّمادي في نصحه وتعريفه سوء عاقبة اللّجاج، ومغبّة الإحراج، وهو يزيد طمعا في الأموال وشرها، وعمى في الرأي وعمها، إلى أن كاد أمرنا معه يخرج عن حدّ الانتظار، إلى حدّ الرضا بالإصرار، فاستأنفت ادّراع الحزم، وامتطاء العزم، ونهضت إلى أعمال الموصل وعندي أنه يغنيني عن الإتمام، ويتلقّاني بالإعتاب «7» وينقاد إلى المراد، ويتجنّب طرق العناد.
فحين عرف خبر مسيري، وجدّي فيه وتشميري، برز بروز المكاشف، وتجرّد تجرّد المواقع المواقف، وهو مع ذلك إذا ازددت منه قربا، ازداد منّي
رعبا، وإذا دلفت إليه ذراعا، نكص عنّي باعا.
وتوافت إلى حضرتي وجوه القبائل من عقيل وشيبان وغيرهما في الجمع الكثيف من صعاليكهما، والعدد الكثير من صناديدهما، داخلين في الطاعة، متصرّفين في عوارض الخدمة.
فلما شارفت الحديثة «1» ، انتقضت عزائم صبره، وتقوّضت دعائم أمره، وبطلت أمانيّه ووساوسه، واضمحلّت خواطره وهواجسه، واضطرب عليه من ثقاته وغلمانه من كان بهم يعتضد، وعليهم يعتمد، وبدأوا بخذلانه والأخذ لنفوسهم، ومفارقته والطّلب بحظوظهم، وحصل «2» منهم بحضرتي إلى هذه الغاية زهاء خمسمائة رجل ذوي خيل مختارة، وأسلحة شاكية، فصادفوا عندي ما أمّلوا من فائض الإحسان، وغامر الامتنان، وذكروا عمّن وراءهم من نظرائهم التنزّي «3» إلى الانجذاب، والحرص على الاستئمان، وأنهم يردون ولا يتأخّرون، ويبادرون ولا يتلوّمون.
ولمّا رأى ذلك، لم يملك نفسه أن مضى هاربا على طريق سنجار «4» ، منكشفا عن هذه الدّيار، قانعا من تلك الآمال الخائبة، والظّنون الكاذبة، بسلامة حشاشة هي رهينة غيّها، وصريعة بغيها.
وكان انهزامه بعد أن فعل الفعل السّخيف، وكادنا الكيد الضّعيف، بأن
أغرق «1» سفن الموصل وعروبها «2» ، وأحرق جسرها «3» واستذمّ «4» إلى أهلها، وتزوّد منهم اللعن المطيف به أين يمّم، الكائن معه حيث خيّم.
ودخلتها يومي هذا- أيّد الله أمير المؤمنين- دخول الغانم الظافر، المستعلي الظاهر، فسكّنت نفوس سكّانها، وشرحت صدور قطّانها، وأعلمتهم ما أمرني به أمير المؤمنين-[أدام الله عزّه]«5» وأعلى الله أمره- من تأنيس وحشتهم، ونظم ألفتهم، وضمّ نشرهم، ولمّ شعثهم، وإجمال السّيرة فيهم في ضروب معاملاتهم وعلقهم، وصنوف متصرّفاتهم ومعايشهم، فكثر منهم الثناء والدعاء، والله سامع ما رفعوا، ومجيب ما سألوا.
وأجلت حال هذا الجاهل- أيّد الله أمير المؤمنين- عن أقبح هزيمة، وأذلّ هضيمة، وأسوإ رأي، وأنكر اختيار؛ لأنه لم يلقني لقاء الباخع بالطاعة، المعتذر من سالف التفريط والإضاعة، ولا لقاء المصدّق لدعواه في الاستقلال بالمقارعة، المحقّق لزعمه في الثبات للمدافعة، ولا كان في هذين الأمرين بالبرّ التّقيّ، ولا الفاجر الغويّ «6» ، بل جمع بين نقيصة شقاقه وغدره، وفضيحة جبنه وخوره، متنكّبا «7» للصّلاح، عادلا عن الصّواب، قد ذهب عنه الرّشاد، وضربت بينه وبينه الأسداد، وأنزله الله منزلة مثله ممّن أساء حفظ الوديعة، وجوار الصّنيعة، واستوجب نزعهما منه وتحويلهما عنه.
وتأمّلت- أيّد الله مولانا أمير المؤمنين- أمره بالتّجريب، وتصفّحته على
التقليب، فإذا هو الرجل الذي أطاع أبوه فيه هوى أمّه «1» ، وعصى دواعي رأيه وحزمه، وقدّمه من ولده على من هو آنس رشدا، وأكبر سنّا، وأثبت جأشا، وأجرأ جنانا، وأشجع قلبا، وأوسع صدرا، وأجدر بمخايل النّجابة، وشمائل اللّبابة.
فلما اجتمعت له أسباب القدرة والثّروة، وأمكنته مناهز الغرّة والفرصة، وثب عليه وثبة السّرحان «2» ، في ثلّة «3» الضّان، وجزاه جزاء أمّ عامر «4» لمجيرها، إذ فرته بأنيابها وأظافيرها؛ واجتمع وأخوه من الأمّ، المرتضع معه لبان الإثم، المكنّى أبا البركات- وليس بأب لها، ولا حريّ بشيء منها- على أن نشزا عنه وعقّاه، وقبضا عليه وأوثقاه، وأقرّاه من قلعتهما «5» بحيث تقرّ العتاة، وتعاقب الجناة، ثم أتبعا ذلك باستحلال دمه، وإفاضة مهجته، غير راعيين فيه حقّ الأبوّة، ولا حانيين عليه حنوّ البنوّة، ولا متذمّمين من الإقدام على مثله ممن
تقدّمت عند سلطانه قدمه «1» ، وتوكّدت أواصره وعصمه، ولا راحمين له من ضعف شيخوخته، وذهل «2» كبرته، ولا مصغيين إلى وصيّة الله إيّاهما به، التي نصّها في محكم كتابه، وكرّرها في آيه وبيناته إذ يقول: اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
«3» وإذ يقول: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً
«4» .
فبأيّ وجه يلقى الله قاتل والد حدب «5» قد أمر أن لا ينهره؟ وبأيّ لسان ينطق يوم يسأل عما استجازه فيه وفعله؟ وتالله «6» ! لو أنّ بمكانه عدوّا لهما قد قارضهما الذّحول «7» ، وقارعهما عن النّفوس، لقبح بهما أن يلؤما ذلك اللّؤم عند الظّفر به، وأن يركبا تلك الخطّة الشّنعاء في الأخذ بناصيته، ولم يرض «فضل الله» بما أتاه إليه حتّى استوفى حدود قطع الرّحم، بأن تتبّع «8» أكابر إخوته السالكين خلاف سبيله، المتبرّئين إلى الله من عظيم ما اكتسب، ووخيم ما احتقب، لمّا غضبوا لأبيهم، وامتعضوا من المستحلّ فيه وفيهم، فقبض على محمد بن ناصر الدولة حيلة وغيلة، وغدرا ومكيدة، ونابذ حمدان بن ناصر الدولة منابذة خار «9» الله له فيها، بأن أصاره من فناء أمير المؤمنين «10» إلى
الجانب العزيز، والحرز الحريز، وأن أجرى الله «1» على يده الحرب الواقعة بينه وبين المعروف بكنيته أبي البركات، التي لقّاه الله فيها نحسه، وأتلف نفسه، وصرعه بعقوقه وبغيه، وقنّعه بعاره وخزيه. وهو مع ذلك لا يتّعظ، ولا ينزع «2» ولا يقلع ولا يزدجر، إصرارا على الجرائر التي الله عنها حسيبه، وبها طليبه، والدّنيا والآخرة مرصدتان له بالجزاء المحقوق عليه، والعقاب المسوق إليه.
وأعظم من هذا كلّه- أيد الله أمير المؤمنين- خطبا، وأوعر مسلكا ولحبا «3» ، أنّ من شرائط العهد الذي كان عهد إليه، والعقد الذي عقد له، والضّمان المخفّف مبلغه عنه، المأخوذ عفوه منه، أن يتناهى في ضبط الثغور وجهاد الرّوم وحفظ الأطارف، ورمّ الأكناف، فما وفى بشيء من ذلك، بل عدل عنه إلى الاستئثار بالأموال واقتطاعها، وإحرازها في مكامنها وقلاعها، والضّنّ بها دون الإخراج في وجوهها، والوضع لها في حقوقها، وأن تراخى في أمر عظيم الرّوم مهملا، واطّرح الفكر فيه مغفلا، حتّى هجم في الديار، وأثّر الآثار، ونكى القلوب، وأبكى العيون، وصدع الأكباد، وأحرّ الصّدور، فما كان عنده فيه ما يكون عند المسلم القاريء لكتاب الله إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
«4» بل صدف عن ذكر الله لاهيا، وعدل عن كتابه ساهيا، واستفسخه ذلك البيع والعقد، وتنجّزه الوعيد لا الوعد، ولاطف طاغية الرّوم وهاداه، وماره «5» وأعطاه، وصانعه بمال المسلمين الذي
يلزمه- إن سلّم دينه وصحّ يقينه- أن ينفقه في مرابطهم «1» ، ويذبّ به عن حريمهم، لا أن يعكسه عن جهته، ويلفته عن وجهته، بالنّقل «2» إلى عدوّهم، وإدخال الوهن بذلك عليهم. وقاد إليه من الخيل العتاق ما هو الآن عون للكفر «3» على الإيمان، ونجدة للطاغية على السّلطان. وكان فيما أتحفه به الخمر التي حظر الله عليه أن يشربها ويسقيها، وتعبّده «4» بأن يجتنبها ويجتويها «5» ، وصلبان ذهب صاغها له وتقرّب بها إليه تقرّبا قد باعده الله فيه عن الإصابة والأصالة، وأدناه من الجهالة والضّلالة، حتّى كأنه عامل من عمّاله أو «6» بطريق من بطارقته.
فأمّا فشله عن مكافحته، ولهجه بملاطفته، فضدّ الذي أمره الله به في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
«7» .
وأما نقله «8» ما نقل من الخيل من ديار المسلمين إلى ديار أعدائهم، فنقيض قوله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
«9» .
وأما إهداؤه الخمر والصّلبان، فخلاف عليه تبارك «10» اسمه، إذ يقول:
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
«1» كلّ ذلك عنادا لرب العالمين، وطمسا لأعلام الدّين، وضنّا بما يحامي عليه من ذلك الحطام، المجموع من الحرام، المثمّر من الآثام، المقتطع من فيء الإسلام، وقد فعل الآن بي وبالعساكر التي معي ومن نضمّ «2» من أولياء أمير المؤمنين «3» الذين هم إخوته وصحبه- إن كان مؤمنا وأنصاره وحزبه- إن كان موقنا، من توعير المسالك وتغريق العروب، وتضييق الأقوات، واستهلاك الأزواد، ليوصّل إلينا الضّرّ، ويلحق بنا الجهد، فعل العدوّ المبين، المخالف في الدّين، فهل يجتمع [في أحد من المساوي- أيّد الله أمير المؤمنين- ما اجتمع]«4» في هذا النادّ العاند، والشاذّ الشارد؟، وهل يطمع من مثله في حق يقضيه، أو فرض يؤدّيه، أو عهد يرعاه، أو ذمام يحفظه، وهو لله عاص، ولإمامه مخالف، ولوالده قاتل، ولرحمه قاطع؟ كلّا والله! بل هو الحقيق بأن تثنى إليه الأعنّة، وتشرع نحوه الأسنّة، وتنصب له الأرصاد، وتشحذ له السّيوف الحداد، ليقطع الله بها دابره، ويجبّ غاربه، ويصرعه مصرع الأثيم المليم، المستحقّ للعذاب الأليم، أو يفيء «5» إلى الحق، إفاءة «6» الداخل فيه بعد خروجه، العائد إليه بعد مروقه، التائب المنيب، النازع المستقيل، فيكون حكمه شبيها بحكم الراجع عن الرّدّة، المحمول على ظاهر الشريعة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فالحمد لله الذي هدانا لمراشدنا، ووقف بنا على السبيل المنجية لنا،